زادت حرب البرهان/حميدتي الضغوط الاقتصادية على جنوب السودان بسبب اللجوء أولًا، وبسبب ارتباط اقتصادها بمصافي النفط في بورتسودان، والتي إن توقفت بسبب الحرب سيصبح الوضع في جنوب السودان كارثيًّا
في خرائط القرن الحادي عشر الهجري، يمتد اسم السودان طويلًا ليغطّي مساحةً هائلةً
من القارة الإفريقية، من أعالي النيل وحتى المحيط الأطلسي. كانت تلك المساحة
الشاسعة المسماة بـ«السودان»
تضم في حدودها ممالك الفونج وكانم برنو والهوسة، ومن قبل ممالك سونغاي وممالي
وغيرها.
تقلَّص المسمى، وبقي للسودان تأثيره في المحيط الإقليمي، إلى أن دبَّ الضَّعف شيئًا
فشيئًا حتى آلت الانتفاضة السودانية إلى إقامة نظام عسكري ذي رأسين، هما قائد الجيش
عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)؛ فازداد
الوضع سوءًا، وانقلب التأثير السوداني في الإقليم من الإيجاب إلى السلب؛ فالخارج قد
صار أكثر تأثيرًا في الداخل السوداني من نظامه، الذي لم يدرك قيمة السودان العظيمة
في الدين والتاريخ والجغرافيا، ونقطة الارتكاز الإسلامية العربية لدائرة إفريقية
واسعة؛ فأحاله قَصعةً يتكالب عليها الأقوياء والضعفاء على حد سواء!
عن قريب، كانت للخرطوم يدٌ فاعلة في المحيط الجغرافي؛ إثيوبيا، إريتريا، تشاد،
ليبيا، إفريقيا الوسطى، كينيا، أوغندا، الكونغو الديمقراطية، علاوة على العلاقة
التكاملية مع مصر. أما الآن؛ فقد فقدت جوار كينيا، وأوغندا، والبلد الإفريقي
الواعد/الكونغو الديمقراطية، وتخلت طواعية عن
«جنوب
السودان»؛
إذعانًا لضغوط كان من الممكن تحمُّلها، وتحوَّلت من نقطة ارتكاز رئيسة إلى منطقة
فراغ استراتيجي تداعت لملئه القوى الدولية والإقليمية.
وإذ اندلعت الحرب بين القوتين العسكريتين الأكبر في السودان؛ فإن هذا البلد سيزداد
ضعفًا على ضعف مع طول أمد المعارك التي لا تتوقع العواصم الغربية، والخبراء، لها
انتهاءً قريبًا، وقد تنفتح شهية الجيران والقوى الدولية أكثر لتدخُّل مباشر في
الصراع؛ طمعًا في اقتطاع أجزاء من السودان أو تثبيت نفوذهم وتعظيمه في هذا البلد
الذي يمثل ثالث أكبر دولة إفريقية من حيث المساحة، ويزخر بالثروات المتنوعة
المخبوءة التي لم تُحسِن نُظمه استغلالها أو مُنعت من ذلك، أو سيكون لبعض الجيران
محاذيرهم من امتداد القتال إلى داخل أراضيهم؛ نظرًا للتعقيدات العرقية والقَبَلية
العابرة للحدود بين تلك البلدان، لذا فالمطامع كما المخاوف كلاهما يدفع الدول
المحيطة والقوى الدولية للتدخل، ولكلٍّ أسبابه:
مصر:
مصر تشاطر السودان مصيره، لا سيما فيما يخص نهر النيل ذا الأهمية الوجودية لدولة
المصب، مصر، التي تعاني من شحّ في المياه بسبب إنشاء سد النهضة الإثيوبي، وأكثر ما
يُقلقها في هذا الصدد هو أن يصبح السودان مسرحًا للفوضى أو التقسيم، ولديها مخاوفها
على صعيد اللجوء، والهجرة، علاوةً على المصالح الاقتصادية المشتركة مع السودان،
ومحاذيرها الكبرى فيما يخص المساس بالأمن القومي لمصر، والذي يُوضَع في زاوية حرجة
متى حصل أي فراغ للسلطة والأمن في السودان، خصوصًا أن الانقسام إن ظل في السودان
سيجعل من بلدي الجوار: السودان وليبيا مناطق رخوة يمكن أن تهدد أمن مصر.
جنوب السودان:
كان انفصال جنوب السودان عنه طامة كبيرة قبل اثني عشر عامًا، لم يزل السودان يدفع
ثمنها إلى اليوم. ومع الحرب يصبح التأثير كارثيًّا؛ فقبل أعوام اندلعت حرب أهلية
ضروس في جنوب السودان، زادته فقرًا رغم موارده الجيدة، وتقاطر لاجئوه على الشمال،
وجاء الدور على الشمال ليصدّر لاجئيه إلى الجنوب.
زادت حرب البرهان/حميدتي الضغوط الاقتصادية على جنوب السودان بسبب اللجوء أولًا،
وبسبب ارتباط اقتصادها بمصافي النفط في بورتسودان، والتي إن توقفت بسبب الحرب سيصبح
الوضع في جنوب السودان كارثيًّا؛ نظرًا لأن النفط في الجنوب يكاد يكون المورد
الوحيد لهذا البلد.
وبالنسبة للشمال؛ فإن توقف تصدير النفط إليه من الجنوب سيكون كارثيًّا أيضًا؛ فمع
الانفصال فقد الشمال 75% من موارده النفطية، ولم يزل معتمدًا عليها بطبيعة الحال.
الأخطر، هو أن الدولة الوليدة في الجنوب ستصبح لاعبًا مهمًّا ووسيطًا له نفوذ في
السودان، مع تقديمها مبادرات للحل في السودان الذي يتهدَّده الفشل، ومع احتضانها
لقوى معارضة تملك السلاح كالحركة الشعبية القطاع الشمالي، وقيادات من دارفور
وكردفان وغيرها، وتستطيع أن تتدخل عبرهم في الشأن السوداني بقوة، خصوصًا إذا ما
أنهكت الحرب الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
إثيوبيا:
تنافس إثيوبيا السودان في قيادة منطقة الشرق الإفريقي؛ وحيث يسعى الغرب للملمة أي
أزمة تصيب الدولة الإثيوبية؛ فإنه لا يجد حماسة -على الأقل- في منع السودان من دخول
مرحلة الفشل والفوضى.
وكثيرًا ما اعتبرت إثيوبيا نقطة ارتكاز استراتيجية دولية كأكبر كتلة مسيحية في شرق
إفريقيا، على عكس ما يمثله السودان كقوة إسلامية ناعمة في المنطقة ذاتها؛ حيث تنطلق
منها جهود علمية ودعوية تنشط في عدد من دول المحيط الإقليمي.
وعلى الرغم من ضعف وهشاشة الوضع السياسي في السودان منذ الإطاحة بالرئيس السوداني
عمر البشير، إلا أن الخرطوم قد تمكّنت قبل عامين من استعادة منطقة
«الفشقة»
السودانية التي كانت تحتلها إثيوبيا منذ عقود بعد أن استغل السودان اندلاع الحرب
الإثيوبية الداخلية لاستعادتها.
لكن بعد اشتعال الخرطوم ذاتها بالمعارك، وهدوء الجبهات الداخلية الإثيوبية على إثر
اتفاق الحكومة الإثيوبية مع أقلية التيغراي، وبدء مباحثاتها مع الكتلة القومية
الأكبر (الأورومو)؛ فإن شهية أديس أبابا قد انفتحت لإعادة احتلال الإقليم الذي
كثيرًا ما تسطو على مراعيه مجموعات من أقلية الأمهرة الإثيوبية، وهو ما لا يبدو أن
الخرطوم قادرة على صدّه بعد أن بدت إرهاصاته.
الحكومة الإثيوبية التي كانت ولم تزل معنية باحتضان ما يُسمَّى بالمكون المدني
السوداني، والذي يمثل أقلية يسارية -في معظمه- يسعى الغرب لفَرْضها على حكم
السودان، تحاول اليوم التدخل في الشأن السوداني من بوابة المفاوضات السلمية؛ لتمكين
حلفائها
«المخلصين»
في حكم السودان، وهي تركز الآن على ضرورة مشاركة هؤلاء تحديدًا في صيغة جديدة لحكم
هزيل يتقدمه اليسار
«المدني».
الدور الإثيوبي ما فتئ خجولًا حتى اللحظة التي تنحصر فيها المعارك في قلب الخرطوم
ومناطق من دارفور، بعيدًا عن الحدود الإثيوبية، لكنه سيتعاظم متى دبّ الوهن في جسد
السودان، وسيجد أكثر من وسيلة للتدخل وتحقيق مكاسب يَصعب تعويضها، مثلما فعل
الإمبراطور الإثيوبي منيلك باحتلاله منطقة بني شنقول قبل أكثر من مائة عام،
مستفيدًا من فراغٍ خلّفته معارك شنّتها القوات البريطانية والمصرية لإجهاض الثورة
المهدية في العاصمة السودانية، وهي المنطقة (بني شنقول) التي أُقيم عليها سدّ
النهضة قبل أعوام، وأصبحت مصدر تهديد للسودان ومصر على حدّ سواء بعد أن كانا يبسطان
سيطرتهما عليها قبل عقود.
تشاد:
لا يبدو اهتمام الحكومة التشادية بالحرب في السودان نابعًا -على الأغلب- من مطامع
تشادية في هذا البلد الذي يَجمعه بتشاد الإسلامية والعروبة معًا، بقدر ما يعكس
تخوفات متفهمة من امتداد الاضطرابات الحاصلة في دارفور إلى الداخل التشادي، لا سيما
مع لجوء الآلاف من الدارفوريين إلى تشاد، وإدراك إنجمينا أن ضم حميدتي للآلاف من
الشباب التشادي في صفوف قواته، وعلاقته بالمعارضة التشادية المسلحة، ووجود تطلُّع
لدى بعض الشباب العربي التشادي في رؤية
«زعيم
عربي»
يمكن أن يُمثّل أملًا للعرب الذين يشعرون بالتهميش فيما وراء حدود دارفور الغربية
من دول الساحل بدءًا من تشاد، مثلما يؤكد على ذلك الصحفي التشادي سعيد أبكر أحمد..
كل ذلك يمثل مصدر إزعاج للرئيس التشادي ديبي، لا سيما أن حميدتي لا يعمل وحده؛
فخلفه تقف ميليشيات فاغنر التي باتت تهدّد استقرار تشاد من حدودها المختلفة
وداخلها.
كما أن لدى إنجمينا مخاوف منطقية حيال سيطرة محور حميدتي/حفتر على طريق نقل الذهب
والهجرة غير الشرعية (سواء بالسماح أو بالمنع وفقًا لظروف الجباية من اللاجئين أو
الاتحاد الأوروبي)، والتجارة في مثل ليبيا/السودان/تشاد الحدودي الاستراتيجي، ما
يؤدي إلى تعاظم تلك القوة ومدّ نفوذها في العمق التشادي.
ليبيا:
لا يقدم حفتر دعمه العسكري إلى حميدتي كـ«رد
جميل»
لما قام به حميدتي من تحشيد له في الجنوب والشرق السوداني عبر مرتزقة من دارفور
وتشاد، وإنما هو يدرك جيدًا أن مصيرهما مرتبط معًا، وأن بقاء أحدهما شرطٌ لبقاء
الآخر. يدركان ذلك، ومن خلفهما قوًى دولية وإقليمية توعزان لهما بتقديم دعم كل
منهما للآخر، لبناء جدار عسكري صلب من تحالف قوات الرجلين يحول دون استقرار
بلديهما.
وفي الحالة السودانية؛ فإن الهجمات التي شنّها الجيش السوداني على قوات الدعم
السريع بكافة الأسلحة الجوية والبرية التي لا تتوفر لحميدتي، والتي ألحقت به هزائم
في الأطراف وحتى داخل الخرطوم وبعض معاقله في دارفور قد جعلت من تدخل حفتر ضرورة
لإنقاذ أو تعويم حميدتي، في ظل انسداد بعض طرق الإمداد الأخرى أمام المتمرد
العسكري.
في المقابل؛ فإن إضعاف قوات حميدتي سيوجّه ضربة قوية لحفتر وقوات فاغنر في ليبيا،
وهو ما سيصبّ الماء في جدول طرابلس الساعية لتقوية جبهتها، وتحسين وضعها التفاوضي
في وقتٍ تتزايد عليها الضغوط من أجل السماح لحفتر بالترشح لرئاسة ليبيا، كحاكم
عسكري تُفضّله عدد من العواصم الغربية والعربية، علاوةً على موسكو. وسيترتب عليه
كذلك تهديد لطريق التهريب في مثلث الحدود الليبي السوداني التشادي، والذي يتحكم فيه
حميدتي وحفتر، وهو الطريق الذي يمرّ منه الذهب والبشر (الهجرة غير الشرعية)
والمخدرات في اتجاهات مختلفة.
إفريقيا الوسطى:
البلد المجاور للسودان، الذي فرَّ إليه الآلاف منذ اندلاع المعارك في السودان،
وتحوَّل تدريجيًّا من بلد خاضع لنفوذ فرنسي كامل إلى بلد يتمتع فيه مرتزقة فاغنر
بنفوذ كبير؛ حيث يدعم 1890
«مدربًا
روسيًّا»
القوات الحكومية في الحرب المندلعة في إفريقيا الوسطى، وتميل السلطات إلى التعاون
مع فاغنر عن الخضوع بالكلية للدولة
«الاستعمارية»
التقليدية، وحيث يمتد نفوذ حميدتي إلى داخل المنطقة الحدودية الرخوة عبر خيوطه
المتينة التي نَسَجها مع القبائل في شرق جمهورية إفريقيا الوسطى.
وبالجملة؛ فإن علاقة حميدتي بفاغنر تُمهّد له الطريق للامتداد متى تمدَّدت فاغنر،
وهي التي تحتفظ في ليبيا بـ1200 مرتزق من فاغنر وفقًا لتقديرات وكالة الاستخبارات
الأمريكية، وكذلك بأعداد كبيرة نسبيًّا في كل من تشاد، وإفريقيا الوسطى، وكذلك مالي
التي يبلغ عدد مرتزقي فاغنر فيها عدة مئات، وبالعكس؛ فكل انتصار يحصل لحميدتي هو
انتصار تكتيكي لفاغنر.
وثمة بُعْد آخر للصراع في السودان يُلقي بظلاله على إفريقيا الوسطى، لا سيما أنها
تُعدّ واحدة من أفقر دول العالم (برغم وجود ثروات كبيرة بها لم تُستغل بعدُ)، وهو
أنها تعتمد في تجارتها - خصوصًا وقت هطول الأمطار- على البضائع القادمة من السودان،
والتي تأثرت حركتها كثيرًا بسبب الحرب، فتضاعفت أسعار معظم السلع الأساسية في
الجمهورية الفقيرة، والتي قد تستقبل أعدادًا من اللاجئين السودانيين؛ إن لم تضع
الحرب أوزارها قريبًا.
إريتريا:
شأنها شأن إثيوبيا، يُتوقع أن تزيد إريتريا من دعمها لحميدتي؛ نظرًا للعلاقة الجيدة
التي تربطه بالرئيس الإريتري أسياس أفورقي، وأيضًا يتوقع أن تزيد إريتريا من دعمها
لـ«المكون
المدني»
اليساري لزيادة الضغوط على الجيش السوداني، وإبقائه ضعيفًا غير قادر على بسط نفوذه
على سائر التراب السوداني، والإبقاء على المنطقة الشرقية السودانية خالية من وجود
القوات النظامية السودانية التي تتصدَّى تقليديًّا للأطماع الإريترية والإثيوبية،
وبما يعزّز من وضع إريتريا كلاعب مهم في القرن الإفريقي (في ظل تراجع السودان)، لا
سيما في الصراع الإثيوبي القَبَلي الذي برز دور أسمرة فيه كمساند للأمهرة (ونظام
آبي أحمد) ضد التيغراي، كما برز دورها في توجيه ملايين النازحين واللاجئين في
الداخل والخارج الإثيوبي أثناء الحرب الإثيوبية القبلية، وهذا الدور الذي كانت
تشاطرها فيه الخرطوم، ولا يتوقع إلا أن تنفرد به مع انسحاب السودان من الساحة
الإثيوبية بسبب حربها الداخلية.
تأثير الصراع على البحر الأحمر:
ظل البحر الأحمر بحيرة إسلامية مغلقة لأكثر من 1200 عام، إلى أن بدأ يقع تدريجيًّا
تحت هيمنة الدول
«الاستعمارية»،
وقد بقي الاهتمام كبيرًا بمضيقه الجنوبي، الذي يتحكّم في أحد أهم الطرق المائية
الاستراتيجية في العالم، وتمر به 10% من تجارة العالم (نحو 2,5 تريليون دولار)،
ويحظى السودان بحضور كبير على البحر، فهو يطل عليه بطول 850 كيلو مترًا، ويقع
بالقرب من مضيق باب المندب الاستراتيجي.
ورغم أن حكومات السودان المتعاقبة لم تستغلّ موقعه الاستراتيجي المميز؛ فإن الفراغ
الذي يمكن أن تُخلّفه الحرب الدائرة بين قوات الجيش والدعم السريع، قد يَفتح شهية
الدول الكبرى، لا سيما الولايات المتحدة وروسيا والصين في إقامة قواعد بحرية لها في
السودان وإلى فرض هيمنتها عمومًا على مساحة واسعة من سواحله.
ولهذا لم يكن مستغربًا أن تتحوَّل شواطئ السودان، لا سيما ميناءه الحيوي الرئيس،
بورتسودان إلى بؤرة اهتمام العالم مع اندلاع المعارك، ليس فقط لأنه مَثَّل منفذًا
آمنًا ملائمًا لإجلاء الرعايا الأجانب من السودان، بعد إغلاق مطار الخرطوم ومعظم
المطارات الأخرى، وإنما كذلك لأن الأنظار قد توجَّهت إليه كمنطقة فراغ استراتيجية
مهمة يمكن أن تطمع في ملئها القوى الدولية وحتى الإقليمية التي لها حساباتها الخاصة
فيما يخص خريطة الموانئ في المنطقة لا سيما تلك المطلة على ممرات شديدة الأهمية
للتجارة الدولية كالبحر الأحمر.
وتبدو واشنطن وموسكو الأكثر اهتمامًا بإقامة -أو عرقلة إقامة- أيّ قواعد أو وجود
عسكري خارجي على سواحل السودان، لا سيما ميناء بورتسودان الاستراتيجي. ولا يبعد عن
حسابات ما بعد اندلاع الحرب في منتصف أبريل الماضي، اتخاذ الروس خطوات مهمة في سبيل
إقامة قاعدة بحرية لهم في بورتسودان أو بالقرب منه.
وإذا لم يكن لدى حميدتي غضاضة في فتح الطريق أمام وجود احتلالي روسي بشكلٍ أو بآخر،
ولديه حساباته العسكرية والاقتصادية للمضي قُدمًا في تيسير ذلك؛ فإن مؤسسة الجيش
السوداني، تتحفَّظ على إطلاق يد الروس في الساحل السوداني، لأسباب سيادية؛ نظرًا
لوجود قيادات عسكرية لا تزال حريصة على سيادة السودان، رغم خضوعها أحيانًا للضغوط
أو قبولها على مَضض، وأخرى تتعلَّق بموازنة علاقتها مع واشنطن، التي تعترض بشدة على
إقامة مثل هذه القاعدة الروسية.
وقد ترجمت واشنطن قلقها هذا إلى عرقلة خطوات إقامة القاعدة، أو ما يُسمَّى بـ«مركز
الدعم اللوجستي الروسي»
الذي اختاره طرفا الجيش والحكومة الروسية تخفيفًا لوطأة اسم
«القاعد
العسكرية».
وإذا كان قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان لم يرفض وجود القاعدة أو
«مركز
الدعم اللوجستي»
من حيث المبدأ، إلا أنه قد أرجأ إبرام اتفاق نهائي بخصوصها، مُتذرّعًا بغياب أي
هيئة تشريعية سودانية، بما يَحُول دون التصديق على اتفاقيته مع الجانب الروسي.
ومعلوم أن الاتفاقية المبدئية المُبرَمة بين الطرفين في أواخر العام 2020م قد نصَّت
على إتاحة استخدام الأسطول الروسي للمركز اللوجستي لمدة 25 عامًا بحيث لا يتجاوز
عدد أفراد الروس فيه 300 فرد، وعدد سفنهم 4 في نفس الوقت.
الآن، وقد اختلطت الأوراق؛ فإن بقاء الاتفاقية في شكلها المبدئي قد صار موضع شك؛
فسيناريوهات الحرب السودانية الداخلية كلها لا تَشِي بأن هذا الوضع المتأرجح
للقاعدة سيستمر؛ فغلبة حميدتي يدعم تأكيد الاتفاق، وهزيمته تُفْضِي إلى عرقلة
الاتفاق، وبقاء الحرب سجالًا سيزيد من احتمالات
«التدخل
الأجنبي»
من أكثر من طرف، منهم الروس والأمريكان، وتلك الحالة السائلة مع ازدياد ضعف طرفي
النزاع سيجعل من أطراف البلاد الشاسعة عُرضة لتدخلات أجنبية واسعة النطاق. وقد تتخذ
واشنطن مسارًا دبلوماسيًّا واقتصاديًّا ضاغطًا على الطرفين المتصارعين لإيجاد صيغة
توافقية بين طرفي الصراع تُبْقِي الطرفين ضعيفين خاضعين لإملاءات العاصمة
الأمريكية، فيما ستُكثّف موسكو من تدخُّلها عبر مرتزقة فاغنر.
وعربيًّا، لا تجد الدول العربية المُؤثِّرة بُدًّا من السعي نحو حلٍّ يُوقف الحرب،
ويُؤسِّس لمرحلة جديدة في السودان؛ فآخر ما تتمناه الدول العربية المجاورة أن يحدث
فراغ بالقرب منها، وأن تحل الفوضى في بلد شقيق مجاور، لا سيما أن ليبيا واليمن
والصومال ليست في وَضْع يبعث على الطمأنينة عند العواصم العربية، التي ستلجأ إلى
حلول توافقية تُعيد للسودان قدرًا ما من السيادة على أراضيه لا سيما شواطئه المطلة
على محطة التجارة العالمية البارزة في ممر يربط قارات العالم القديم بعضها ببعض.