قال الحسن البصري [ت: 110] -رحمه الله تعالى-: «إن ذُلَّ البدعة على أكتافهم، وإن هملجت بهم البَغْلَاتُ، وطقطقت بهم البَرَاذِينُ».
أسند الطبري إلى سفيان بن عُيينة -رحمه الله- في قول الله -تعالى-: {إنَّ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي
الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْـمُفْتَرِينَ} [الأعراف:
152]؛
قال:
«كل
صاحب بدعة ذليل!»
[1]، وقد ذكر هذا الأثر أيضًا ابن أبي حاتم
وابن عطية وأبو حيان وابن كثير والثعالبي وغيرهم[2].
ويكاد يكون هذا المسلك في الاستنباط سُنَّة كونية وعاه سفيان؛ وذلك من خلال فهم
دقيق وشامل لسياق الآية، فكما أن سياق الآية ذو شأن في تفسيرها فكذلك في تدبُّرها،
وهو أحد وجوه التدبُّر المهمة لفهم النصوص وتأملها.
وأمَّا وجه استنباطه من قول الله -تعالى-: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْـمُفْتَرِينَ}
[الأعراف:
152]،
وتنزيلها على صاحب البدعة؛ فذلك أن المبتدع مُفْتَرٍ في دين الله، والمراد
بالافتراء الاختلاق في أصول الدين؛ بوضع عقائد لا تستند إلى دليل صحيح من دلالة
الوحي، ونبي الله موسى -عليه السلام- كان قد حذَّر قومه من عبادة الأصنام كما حكاه
الله فيما مضى قبل هذه الآية في قوله -تعالى-: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إسْرَائِيلَ
الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُوا يَا
مُوسَى اجْعَل لَّنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إنَّكُمْ قَوْمٌ
تَجْهَلُونَ} [الأعراف:
138].
فجعل الله جزاءهم على الافتراء الغضب والذلة، وذلك إذا فعلوا مثله بعد أن جاءتهم
الموعظة من الله، ولذلك لم يكن مشركو العرب أذلاء، فلما جاء محمد -صلى الله عليه
وسلم- ووعظهم وذكَّرهم فاستمروا على الافتراء عاقبهم الله بالذلة، فأزال مهابتهم من
قلوب العرب، واستأصلهم قتلاً وأسرًا، وسَلب ديارهم، فلما أسلم منهم من أسلم صاروا
أعزَّة بالإسلام[3].
ومن هنا يظهر للمتأمل في سياق الآيات متانة كلام سفيان -رحمه الله تعالى- حين قال
ذلك متفكرًا بمشاهد القصة وآثارها؛ فعمَّم تلك الذلة لكل صاحب بدعة؛ حيث قال في
موضع آخر:
«ليس
في الأرض صاحب بدعة إلا وهو يجد ذلة تغشاه، وهو في كتاب الله! قالوا: أين هي؟ قال:
أما سمعتم إلى قوله: إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة
الدنيا وكذلك نجزي المفترين؟ قالوا: يا أبا محمد هذه لأصحاب العجل خاصة! قال: كلا!
اقرأ ما بعدها: وكذلك نجزي المفترين؛ فهي لكل مُفترٍ ومبتدعٍ إلى يوم القيامة»[4].
ولهذا الاستنباط شواهد من كلام السلف؛ فعن أيوب السختياني [ت: 131] قال:
«تلا
أبو قِلابة هذه الآية: {إنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ
مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي
الْـمُفْتَرِينَ} [الأعراف:
152]؛
قال: هو جزاء لكل مُفترٍ إلى يوم القيامة أن يذلّه الله![5].
وقال الإمام مالك بن أنس [ت: 179] -رحمه الله تعالى-:
«ما
من مبتدع إلا وتجد فوق رأسه ذلة!»[6].
ومن قبله قال الحسن البصري [ت: 110] -رحمه الله تعالى-:
«إن
ذُلَّ البدعة على أكتافهم، وإن هملجت بهم البَغْلَاتُ، وطقطقت بهم البَرَاذِينُ»[7].
وهذا مُشاهَد في واقع كلّ عصر يهجر أهلُه القرآنَ والسُّنة، ويبتدعون في دين الله
ما ليس منه. فعلى المسلم أن يحذر البدع وأهلها، فإن مآلها خطير؛ ذلٌ في الدنيا،
وخسرانٌ في الآخرة. والله المستعان.
[1] تفسير الطبري 10/465.
[2] تفسير ابن أبي حاتم 5/1571، تفسير ابن عطية 2/458، تفسير أبي حيان 5/185،
تفسير ابن كثير 3/478، تفسير الثعالبي 3/80.
[3] تفسير ابن عاشور 9/120.
[4] الدر المنثور، السيوطي 3/565.
[5] الدر المنثور، السيوطي 3/565.
[6] تفسير الثعلبي 4/287.
[7] تفسير ابن كثير 3/478، والبراذين: جمع برذون: التركي من الخيل. ينظر:
المُغْرِب في ترتيب المُعْرِب، المطرِّزي ص42، مادة برذن.