• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
دعاوى الالتزام بالمنهجية العلمية عند المستشرق البريطاني مونتجومري وات: "كتاب محمد في مكة أنموذجًا" (2-1)

تُعد كتابات المستشرق البريطاني (مونتجومري وات) من أهم الدراسات الاستشراقية، وأخطرها على السيرة النبوية المطهرة، ولذا اخترت أن يكون هذا البحث عن كتابه الموسوم بـــــ(محمد في مكة)؛


ملخص البحث:

يهدف البحث إلى إبراز العيوب المنهجية العلمية التي وقع فيها المستشرق البريطاني (مونتجومري وات) Montgomery Watt، في كتابه (محمد في مكة) Muhammad at Mecca، مع بيان خطورة هذه الأخطاء، وكذا إيضاح أن تلك العيوب مؤثرة في سلامة النتائج التي توصل إليها (مونتجومري وات)، مما يجعلنا لا نقبل أحكامه وآراءه التي أطلقها حول السيرة النبوية.

المقدمة:

تُعد كتابات المستشرق البريطاني (مونتجومري وات) من أهم الدراسات الاستشراقية، وأخطرها على السيرة النبوية المطهرة، ولذا اخترت أن يكون هذا البحث عن كتابه الموسوم بـــــ(محمد في مكة)؛ لعدة اعتبارات سيتم إيضاحها فيما يلي:

أهمية البحث ودوافع اختياره:

تكمن أهمية البحث في النقطتين التاليتين:

أولاً: التزام (وات) بـ«المقاييس العلمية التاريخية الغربية»[1] في بحثه، ويكون أفضل ردّ عليه هو بيان تجاوزه لأصول المنهج العلمي المتعارَف عليها عالميًّا، سواء عند المسلمين أو غيرهم، ولذا جاء هذا البحث للإجابة عن سؤال محدد هو: ما العيوب المنهجية التي خالَف فيها المستشرق «مونتجومري وات» أصول المنهج العلمي وقواعده في كتابه (محمد في مكة)؟

ثانيًا: مكانة كتابات «وات» وانتشارها بين المستشرقين المعاصرين؛ إذ يعدّون كتاباته في السيرة النبوية موضوعية، ويرون أنه قدَّم نظرية محايدة في ذلك.

هدف البحث:

يهدف البحث إلى تحقيق أمرين هما:

أولاً: إبراز عيوب المنهج العلمي التي وقع فيها «وات» في كتابه (محمد في مكة)، مع بيان خطورة هذه الأخطاء لدى المختصين في المنهجية العلمية، مصحوبة بذِكْر بعض الأمثلة من كلام «وات»، وكلام المختصين في المنهج العلمي من الغربيين، أو من بعض المختصين العرب الذين كتبوا في المنهجية، معتمدين بصفة خاصة على المصادر الغربية؛ بهدف إثبات أن أصول المنهجية التي تجاوزها «وات» متفق عليها عالميًّا.

ثانيًا: إيضاح أن تلك العيوب مؤثرة في سلامة النتائج التي توصل إليها «وات»؛ مما يجعل أحكامه وآراءه المتعلقة بالسيرة النبوية، لا يمكن -وفق أصول المنهج العلمي الدقيق- أن تكون مقبولة أو مُسلَّمًا بها، حتى عند غير المسلمين، ولكي يُعلم أيضًا أن سبب رفض المسلمين لمثل هذه الآراء ليس لمجرد أنها مخالفة لمعتقداتهم فقط، وإنما لكونها مبنية على أساس مليء بالعيوب المنهجية الخطيرة.

خطة البحث:

 لتحقيق أهداف البحث قسَّمته إلى مبحثين، وخاتمة:

المبحث الأول: خصصته للتعريف بالمؤلف والكتاب.

والمبحث الثاني: بيَّنت فيه أبرز العيوب المنهجية.

ثم خاتمة: ذكرتُ فيها أهم النتائج التي توصلت إليها.

المبحث الأول: التعريف بالمستشرق (مونتجومري وات)[2] وبكتابه (محمد في مكة)

مولده ونشأته:

 وُلِدَ وليام مونتجومري وات في بلدة سِـيـــرِيــسْ (Ceres) بإسكتلندا، في الرابع عشر من مارس سنة 1909م، ونشأ يتيمًا؛ حيث مات والده -القسيس أندرو وات- وهو رضيع، فعاش في كنف أمه وعمّه وعمته بإدِنْبْرَة طفلًا وحيدًا.

تكوينه العلمي ومناصبه العلمية:

 تلقَّى تعليمه في كلية جورج واتسون؛ حيث تخصَّص في الفلسفة واللاهوت، وبدأ اهتمامه بالإسلام بعد محادثة مطولة مع شخصٍ هنديّ كان أحمديَّ المذهب، بالإضافة إلى دراسته الجادة للغة العربية مع ريتشارد بيل -مستشرق إدنبرة-، كما أدَّى تعيينه لاحقًا قسيسًا إلى رفع اهتمامه بالإسلام، ثم درَّس في جامعات: إدنبرة، وجينا، وأكسفورد، وقد شغل عدة مناصب أكاديمية؛ منها:

مدرس مساعد في الفلسفة الأخلاقية، بجامعة إدنبرة خلال الفترة الممتدة بين 1934و1938م.

مُحاضِر في الفلسفة القديمة في موسم: 1946م - 1947م.

ثم مُحاضِر أول في اللغة العربية من سنة: 1947م إلى سنة: 1964م.

أستاذ الدراسات العربية والإسلامية: ما بين 1964م - 1979م.

مكانته العلمية:

تحظى أحكام «وليام مونتجومري وات» وأقواله بمكانة علمية كبيرة لدى المهتمين بالدراسات الإسلامية من غير المسلمين، مما يبيّن الخطورة التي تُمثّلها الآراء التي يبثّها في أوساط المستشرقين، وفيما يلي بعض النصوص الدالة على مكانته العلمية عند المستشرقين وغيرهم:

تقول عنه المستشرقة كارول هيلينبراند: «هو الذي ربما كان في حياته الطويلة على الأرجح أول مفسِّر غير مسلم للإسلام في الغرب، باحثًا مؤثرًا بشكل كبير في مجال الدراسات الإسلامية، واسمًا يحظى باحترام كثير من المسلمين في جميع أنحاء العالم... وتُرجمت كتبه الأخرى إلى لغات عديدة»[3].

 ويؤكد الدكتور عماد الدين خليل على ذلك بقوله: «يبدو مونتجمري وات على مستوى تقنية البحث كان متفوّقا بمعنى الكلمة، وهو يمتلك أداة البحث ومستلزماته، ويعتمد أسلوبًا نقديًّا مقارنًا يثير الإعجاب، وقد تَمكَّن بواسطته من تحقيق عدد من النتائج القيّمة على مستوى السيرة»[4].

إنتاجه العلمي:

خلّف مونتجمري وات أكثر من ثلاثين كتابًا أصبحت مراجع علمية فيما بعد، ومن أشهر كتبه: «محمد في مكة» الذي أصدره سنة 1953م، و«محمد في المدينة» المنشور سنة 1956م، «محمد: النبي ورجل الدولة» الصادر سنة 1961م، وترجمه إلى العربية الباحث السوري حمّود حمّود، وأصدرته دار التكوين بدمشق سنة 2014م.

كما أصدر العديد من المؤلفات من أشهرها: «القضاء والقدر في القرون الثلاثة الأولى للهجرة»، «الفلسفة الإسلامية والعقيدة»، «الفكر السياسي الإسلامي»، «تأثير الإسلام في أوروبا: القرون الوسطى»، «الأصولية الإسلامية والتحديث»، «العلاقات الإسلامية النصرانية»، «حقيقة الدين في عصرنا»، «الفترة التكوينية للفكر الإسلامي»، «موجز تاريخ الإسلام».

وفاته: كانت وفاته في الرابع والعشرين من أكتوبر سنة 2006م، في إدنبرة عن عمر يناهز تسعة وسبعين عامًا.

الفكرة العامة للكتاب:

يدرس مونتجومري وات في كتابه (محمد في مكة) المرحلة المكية من حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، مع مقدمة موجزة عن الأوضاع في مكة وشبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، وقد نُشِرَ الكتاب بجامعة أكسفورد في عام 1953م، وتَرجمه إلى العربية الدكتور عبد الرحمن عبد الله الشيخ، وعلق عليه الدكتور أحمد شلبي، نشرته الهيئة المصرية العامة للكتاب في القاهرة عام 1994م.

دوافع التأليف:

يؤكد «وات» أن سبب صياغته الجديدة لحياة النبي -صلى الله عليه وسلم- ليست نتاجًا لاكتشاف مادة جديدة، وإنما لتغيُّر اهتمامات المؤرخين واتجاهاتهم خلال النصف من القرن التاسع عشر؛ فقد أصبحوا أكثر وعيًا بالعوامل المادية التي يقوم عليها التاريخ، وهذا يعني أن المؤرّخ من منتصف القرن العشرين يريد أن يسأل أسئلة كثيرة عن الخلفية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، مع عدم التقليل من شأن الجوانب الدينية والفكرية للحركة التي بدأها النبي صلى الله عليه وسلم ... ولأن السيرة [5] لا تنقّب في المصادر المتاحة بدقة أكثر فحسب٫١٠١، بل تعطي اهتمامًا أكثر لهذه العوامل المادية وتحاول الإجابة عن أسئلة لم تُثَر مِن قبل[6].

فصول الكتاب:

 قدّم وات لكتابه بمقدمة أبرَز فيها المصادر العربية الإسلامية التي استقَى منها النصوص، ثم ثنَّى بستة فصول، وتحت كل فصل أورد عددًا من المباحث والموضوعات، ثم خاتمة، وملاحق تناول فيها: الأحابيش، والتوحيد عند العرب، والتأثيرات اليهودية المسيحية، والحنفاء، ومبحث حول مدلولات لفظة (تَزَكَّى)[7]، والمرويات عن عروة، وعودة المهاجرين، وقوائم مختلفة.

 وجاءت فصول الكتاب على النحو التالي:

 الفصل الأول (الخلفية العربية): درس فيه شبه الجزيرة العربية في العصر الجاهلي من مختلف جوانبها؛ حيث تطرَّق للأسس الاقتصادية، والسياسية المكية، والخَلفية الاجتماعية والأخلاقية، ليختم بالحديث عن الخلفية الدينية والفكرية، كما نجده ناقش آراء المستشرقين من أمثال (لامنس، تويبني، نولدكه)، وركز على النزعات التوحيدية في المنطقة، مستعينًا بالنصوص القرآنية.

 الفصل الثاني (بواكير حياة محمد ودعوة النبوة): تطرَّق فيه إلى نَسب النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، ومولده وسنواته الأولى، وزواجه صلى الله عليه وسلم  من السيدة خديجة -رضي الله عنها-، ثم انتقل إلى مرحلة الدعوة للنبوة.

 الفصل الثالث (الرسالة الأصلية/ جوهر الرسالة): افتتحه بتاريخ نزول القرآن الكريم، ثم بدأ بدراسة أول ما نزل من القرآن الكريم، ليختم هذا الفصل بتحليل العلاقة الوثيقة بين الرسالة والأحوال المعاصرة.

 تناول الفصل الرابع (أوّل مَن أسلم): توقف عند الروايات المتداولة عن المسلمين الأوائل، ثم بدأ بعرض المسلمين السابقين، ليختم بتحليل دوافع لجوء -حسب تعبيره- الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- للإسلام.

 الفصل الخامس (بداية المعارضة، الآيات الشيطانية): تحدث عن المعارضين للدعوة الإسلامية، وهجرة المسلمين إلى الحبشة، ومناورات المعارضة، وشهادة القرآن الكريم على المؤامرات التي تعرَّض لها محمد صلى الله عليه وسلم  وأصحابه -رضوان الله عليهم-.

أما الفصل السادس (آفاق ممتدة): فتعرَّض فيه إلى تدهور حال النبي صلى الله عليه وسلم  بعد وفاة عمه أبي طالب، وزوجته خديجة -رضي الله عنها-، وتحدث عن زيارة النبي صلى الله عليه وسلم  للطائف، والاقتراب من القبائل البدوية، والمفاوضات مع أهل المدينة، والهجرة إلى المدينة، ليختم كتابه بتقديم حصيلة الحقبة المكية.

مصادره:

اعتمد «وات» على نوعين من المصادر:

المصادر العربية الإسلامية: نجده اعتمد على القرآن الكريم من خلال ترجمة ريتشارد بلْ bell، وكتب السنة خاصة صحيح البخاري ومسلم ومسند الإمام أحمد بن حنبل، والمصادر الأصلية للسيرة النبوية والمغازي ممثلة أساسًا في تهذيب السيرة لابن هشام -مترجمة-، وطبقات ابن سعد، بالإضافة إلى كتب التاريخ العام المتقدمة مثل تاريخ الطبري.

الكتب الغربية الاستشراقية: اعتمد مونتجومري وات على عدد منها، وفي مقدمتها كتاب حوليات الإسلام للمستشرق كايتاني، وكتاب الأبطال أو عبادة الأبطال للمستشرق كارليل.

وقد حلّل «وات» مصادره في مقدمة كتابه، وبيَّن أهميتها لبحثه بصورة واضحة، موضحًا ما هو في صلب البحث وما هو تكميلي، ثم بيَّن رؤيته حول التعامل مع كتب التاريخ الإسلامي.

كما انتقد «وات» خلال مقدمته آراءهم في التعامل مع هذه المصادر ومع التاريخ الإسلامي عمومًا؛ حيث يراهم متعصبين ومنحازين وغير منطقيين في بعض رؤاهم ويبالغون في الشك المنهجي دون دليل.

منهج مونتجومري وات في كتاب «محمد في مكة»:

اعتمد «وات» في كتابه «محمد في مكة» على المنهج التحليلي القائم على التفسير والنقد والاستنباط؛ حيث اهتم كثيرًا بتفسير الخلفيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للأحداث، مع عدم إهمال الخلفيات الأخرى، كما حاول المحافظة على الحياد والمقاييس العلمية التاريخية الغربية، وهذا ما أوضحه بقوله:

 «هذا الكتاب يهم ثلاث طوائف من القرَّاء على الأقل: الذين يهمهم الموضوع كدارسين للتاريخ، والذين يتناولونه لأنهم مسلمون أو مسيحيون، وعلى أيّ حال فهذا الكتاب مُوجَّه أولاً وبصفة رئيسة للمهتمين بالتاريخ ... ولقد حاولتُ المحافظة على الحياد في المسائل اللاهوتية (الدينية) التي يدور حولها النقاش بين المسيحية والإسلام، فمثلًا لتجنُّب الجزم بما إذا كان القرآن كلام الله أم لا، فقد تحاشيتُ استخدام التعبير «يقول الله» أو «يقول محمد»، واستخدمت التعبير «يقول القرآن»، ومع ذلك فإنني لا أتبنَّى المنظور المادي بحجة التزامي بالنزاهة التاريخية، فأنا أكتب كمؤمن بالتوحيد - فقد حاولت -مع الالتزام بالمقاييس العلمية التاريخية الغربية- ألا أقول شيئًا يُفْهَم منه رَفْض أي مبدأ من مبادئ الإسلام الأساسية؛ إذ لا يجوز أن تكون هناك هوة لا يمكن عبورها بين الثقافة الغربية والإسلام، فإذا كانت بعض النتائج التي توصل إليها علماء الغرب لا يتقبلها المسلمون، فربما كان السبب في ذلك أن علماء الغرب لم يكونوا دائمًا مخلصين لمبادئهم العلمية، وأن استنتاجاتهم تحتاج إلى مراجعة، حتى من وجهة النظر التاريخية البحتة. ومن الناحية الأخرى، ربما كان صحيحًا ذلك القول الذي مُؤدَّاه أن هناك مجالًا لشيء من إعادة صياغة العقيدة الإسلامية، بدون أي تغيير في الأساسيات»[8].

 ويضيف «وات» في فقرة لاحقة بعض الإرشادات التي تُظهر منهجه في كتابة المرحلة المكية: «ولقد تناولنا الأحاديث النبوية في المرحلة المكية من ناحية المتن أو المحتوى، ولم نُعِر الإسناد أو سلسلة الرواة اهتمامًا كبيرًا، أما في المرحلة المدنية فإن دراسة الإسناد تُساعد على تقييم الحديث ومدى موثوقيته، كما تساعد على تقدير اتجاهاته، أما في فترة ما قبل الهجرة فإن دراسة الإسناد لا يبدو أنها تؤدي إلى نتائج ذات قيمة، والراوي الوحيد الذي تَستحق رواياته الدراسة هو عروة بن الزبير»[9].

 


 


[1]  محمد في مكة، مونتجومري وات: (ص40).

[2] () يُلاحَظ أن «وات» ليس له ترجمة تتناسب مع مكانته الاستشراقية في المصادر العربية التي اعتنت بتراجم المستشرقين؛ فاجتهدت في صوغ ترجمة وافية، اعتمادًا على بعض المقالات الأجنبية والمصادر العربية. وفيما يلي أهم مصادر ترجمته: المستشرقون: لنجيب العقيقي: (2/ 544)، الاستشراق: للدكتور مازن مطبقاني: (ص 34)، مدارس السيرة النبوية: للدكتور محمد اليولو: (ص 140)، «البروفيسور مونتجومري وات» كارول هيلين براند.

[3]  البروفيسور مونتجومري وات، مقال كارول هيلين براند

professor-w-montgomery-watt

[4]  المستشرقون والسيرة النبوية: ص 49.

[5]  يقصد بالسيرة كتابه محمد في مكة.

[6]  محمد في مكة: (ص 41).

[7]  يقصد مدلول كلمة تزكى في القرآن.

[8]  محمد في مكة: (ص 40).

[9]  المصدر نفسه: (ص 48).

 


أعلى