مِن أهم ما يُنَبَّه عليه المتعبِّد؛ أن لا يُخِلَّ بجانب المعاملة؛ وبعضُ المتعبدين يغترّ بما هو عليه من عبادة واجتهاد، حتى يُوَرِّثَه الغرورُ كِبرًا وسُوءَ خُلُق، فلا يتورّع عن أذية النّاس وظلمهم؛ وهذا من أخطر ما يكون
ما أن يَتَفَتّق ثَغْرُ شهرِ رمضان المُعظم عن ابتسامته السنوية الجميلة، مُتمثلةً
في ظهور هلاله المبارك، حتى تَتحرّك هِمَمُ الصالحين من عباد الله للدخول في
حَلَبةِ تنافسٍ شريف، يجتهدون فيه للوصول إلى الرُّتَب السَّنِيَّة، والمنازل
العَلِيَّة، عند ربِّ البرية، سبحانه وتعالى.
ويتضاعف هذا الاجتهاد في العشر الأواخر كما هي السُّنة النبوية:
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت:
«كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره، ويجتهد في
العشر الأواخر منه ما لا يجتهد في غيرها»[1].
وإسهامًا في ترشيد هذا الاجتهاد وتنوير ذلكم التنافس أقول:
فضل الاجتهاد في العبادة:
في التنزيل العزيز تزكية للمجتهدين في التعبُّد، وبيان لفضلهم وثواب عملهم؛ قال
الله -تعالى-: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ
الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ
الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة
112]؛ ومعنى السائحون: الصائمون.
وقال -سبحانه-: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} [الفرقان
64]. وقال -تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا
وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج 77].
وعن رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيّ قَالَ:
«كُنْتُ
أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ
وَحَاجَتِهِ، فَقَالَ لِي:
«سَلْ».
فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ.
قَالَ:
«أَوْ
غَيْرَ ذَلِكَ».
قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ.
قَالَ:
«فَأَعِنِّي
عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ»
(رواه مسلم).
فهذه النصوص تَحُثّ على الاجتهاد في التعبُّد، وتُبَيِّن ما فيه من عظيم الأجر
وجزيل الثواب.
وذلك الحث مقيَّدٌ بالقدرة والاعتدال وعدم تكليفِ النفس ما لا تُطيق.
الاعتدال والتوازن:
عن عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو -رضي الله عنهما- قَالَ: أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم أَنَّني أقُولُ: لَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ وَلَأَصُومَنَّ النَّهَارَ
مَا عِشْتُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :
«آنْتَ
الَّذِي تَقُولُ ذَلِكَ؟»
فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ قُلْتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :
«فَإِنَّكَ
لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؛ فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَنَمْ وَقُمْ، وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ
صِيَامِ الدَّهْرِ».
قَالَ: قُلْتُ: فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ:
«صُمْ
يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ».
قَالَ: قُلْتُ: فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ:
«صُمْ
يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا، وَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَام-،
وَهُوَ أَعْدَلُ الصِّيَامِ».
قَالَ: قُلْتُ: فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم :
«لَا
أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ»
(متفق عليه).
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسْجِدَ
وَحَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ سَارِيَتَيْنِ، فَقَالَ:
«مَا
هَذَا؟»
قَالُوا: لِزَيْنَبَ؛ تُصَلِّي، فَإِذَا كَسِلَتْ أَوْ فَتَرَتْ أَمْسَكَتْ بِهِ.
فَقَالَ:
«حُلُّوهُ؛
لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا كَسِلَ أَوْ فَتَرَ، قَعَدَ»
(متفق عليه).
وعن عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ الْحَوْلَاءَ بِنْتَ تُوَيْت مَرَّتْ بِهَا وَعِنْدَهَا
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقُلْتُ:
«هَذِهِ
الْحَوْلَاءُ بِنْتُ تُوَيْت، وَزَعَمُوا أَنَّهَا لَا تَنَامُ اللَّيْلَ».
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :
«لَا
تَنَامُ اللَّيْلَ؟! خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لَا
يَسْأَمُ اللَّهُ حَتَّى تَسْأَمُوا»
(متفق عليه).
كما أنَّ هذا الباب مُقَيَّد بعدم تضييع غيره من حقوق الله -تعالى- وحقوق عباده،
وقد يكون فيها ما هو أولى:
عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: آخَى النَّبِيُّ صلى الله
عليه وسلم بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا
الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً (رثة الثياب والمظهر).
فَقَالَ لَهَا:
«مَا
شَأْنُكِ؟!»
قَالَتْ:
«أَخُوكَ
أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا».
فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ. قَالَ:
فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ. قَالَ: فَأَكَلَ.
فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ، ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ: نَمْ،
فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ
اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ:
«قُمْ
الْآنَ».
فَصَلَّيَا.
فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ:
«إِنَّ
لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ
حَقًّا؛ فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ».
فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ
صلى الله عليه وسلم :
«صَدَقَ
سَلْمَانُ»
(رواه البخاري).
الفرائض والأخلاق:
كثرة التعبُّد تَرَقٍّ في درجات المستحبَّات، فلا يستقيم إلا بعد ترك المنهيات وفعل
الواجبات:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«إن
الله قال: مَن عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحب
إليَّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبّه، فإذا
أحببته: كنت سَمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ويده التي يبطش بها، ورِجْله
التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينّه، ولئن استعاذني لأعيذنّه، وما ترددت عن شيء أنا
فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يَكره الموت وأنا أكره مساءته»
(رواه البخاري).
ومِن أهم ما يُنَبَّه عليه المتعبِّد؛ أن لا يُخِلَّ بجانب المعاملة؛ وبعضُ
المتعبدين يغترّ بما هو عليه من عبادة واجتهاد، حتى يُوَرِّثَه الغرورُ كِبرًا
وسُوءَ خُلُق، فلا يتورّع عن أذية النّاس وظلمهم؛ وهذا من أخطر ما يكون:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله!
إنَّ فلانة تقوم الليل وتصوم النهار وتفعل وتصّدّق، وتؤذي جيرانها بلسانها؟ فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«لا
خير فيها؛ هي من أهل النار»
(رواه أحمد بإسناد صحيح).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال:
«أتدرون
ما المفلس؟»،
قالوا: المفلس فينا مَن لا درهم له ولا متاع، فقال:
«إن
المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا،
وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعْطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته،
فإنْ فنيت حسناته قبل أن يُقضَى ما عليه أُخِذَ من خطاياهم فطُرِحَت عليه، ثم
طُرِحَ في النار»
(رواه مسلم).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«ليس
الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث؛ فإن سابَّك أحدٌ أو جهل
عليك؛ فقل إني صائم إني صائم».
(رواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما).
وعنه -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«رُبّ
صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورُبّ قائم ليس له من قيامه إلا السهر»
(رواه ابن ماجه واللفظ له والنسائي وابن خزيمة في صحيحه والحاكم، وقال: صحيح على
شرط البخاري). وفي لفظ:
«رُبّ
قائم حظّه من القيام السهر، ورُبّ صائم حظّه من الصيام الجوع والعطش».
الحرص على الاتباع وترك الابتداع:
على المُتعبّد وهو في شِرَّة التعبُّد، أن يحرص على الأصل العظيم والركن المتين؛
ألا وهو لزوم السُّنَّة واجتناب البدعة، وأن لا يتقرب إلى فاطره -سبحانه- إلا بما
شرع من أنواع التعبد؛ إذ الأمر توقيفيّ، لا مجال فيه للاجتهاد التشريعي:
عن أم المؤمنين عَائِشَةَ -رضي الله عنها-؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم قَالَ:
«مَنْ
عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»
(رواه مسلم)؛ أي: مَن تقرّب بعبادة لم يتقرّب بها النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه، فتقرُّبه مردودٌ عليه، لا يقبله الله، بل هو مُعرَّض للعقاب؛ كما قال صلى
الله عليه وسلم :
«وكل
بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار»
(رواه مسلم).
فالزم -أيُّها العابد- الواردَ دون غيره، واعلم أنّك مُطالَب بهذا؛ في أصل العبادة،
وفي صفاتها، وسائر قيودها:
فكما أنك منهيّ عن ابتداعِ صلاةٍ لم يأتِ بها نصٌّ؛ فإنك منهيٌّ عن ابتداعِ قيدٍ في
صلاةٍ مشروعةٍ؛ سواء كان القيدُ في الزمان أو المكان أو العدد.. وهكذا في سائر
العبادات من: صيامٍ وحجٍّ وتلاوةٍ وذكرٍ.. إلخ.
وبهذا يظهر لك خطأ مشايخ الصوفية الذين يُشَرِّعون لِمُريديهم أذكارًا بصفات وقيود
لم تَثبت بنصٍّ، وقد يُلْزِمونهم بها! فهذا ابتداعٌ في الدين، وتشريعٌ لِمَا لم
يأذنْ به ربُّ العالمين؛ قال -سبحانه-: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ
الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِي
بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى 21].
وتأمل معي التوجيه الوارد في هذا الأثر من أحد الأئمة الربانيين، الصحابي الجليل
عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-؛ فعن أَبِي يَحْيَى قَالَ: كُنَّا نَجْلِسُ عَلَى
بَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَبْلَ صَلاَةِ الْغَدَاةِ، فَإِذَا خَرَجَ
مَشَيْنَا مَعَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ.
فَجَاءَنَا أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِىُّ فَقَالَ: أَخَرَجَ إِلَيْكُمْ أَبُو عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بَعْدُ؟ قُلْنَا: لاَ.
فَجَلَسَ مَعَنَا حَتَّى خَرَجَ، فَلَمَّا خَرَجَ قُمْنَا إِلَيْهِ جَمِيعًا،
فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنِّي رَأَيْتُ فِي
الْمَسْجِدِ آنِفًا أَمْرًا أَنْكَرْتُهُ..
قَالَ: فَمَا هُوَ؟ فَقَالَ: .. رَأَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ قَوْمًا حِلَقاً جُلُوسًا
يَنْتَظِرُونَ الصَّلاَةَ، فِي كُلِّ حَلْقَةٍ رَجُلٌ، وَفِى أَيْدِيهِمْ حَصًى،
فَيَقُولُ: كَبِّرُوا مِائَةً، فَيُكَبِّرُونَ مِائَةً، فَيَقُولُ: هَلِّلُوا
مِائَةً، فَيُهَلِّلُونَ مِائَةً، وَيَقُولُ: سَبِّحُوا مِائَةً فَيُسَبِّحُونَ
مِائَةً.
قَالَ: فَمَاذَا قُلْتَ لَهُمْ؟ قَالَ: مَا قُلْتُ لَهُمْ شَيْئًا؛ انْتِظَارَ
أَمْرِكَ.
قَالَ: أَفَلاَ أَمَرْتَهُمْ أَنْ يَعُدُّوا سَيِّئَاتِهِمْ، وَضَمِنْتَ لَهُمْ
أَنْ لاَ يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ. ثُمَّ مَضَى، حَتَّى أَتَى حَلْقَةً مِنْ
تِلْكَ الْحِلَقِ، فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِي أَرَاكُمْ تَصْنَعُونَ؟!
قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَصًى نَعُدُّ بِهِ التَّكْبِيرَ
وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّسْبِيحَ.
قَالَ: فَعُدُّوا سَيِّئَاتِكُمْ فَأَنَا ضَامِنٌ أَنْ لاَ يَضِيعَ مِنْ
حَسَنَاتِكُمْ شَيْءٌ، وَيْحَكُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ! مَا أَسْرَعَ
هَلَكَتَكُمْ، هَؤُلاَءِ صَحَابَةُ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم
مُتَوَافِرُونَ، وَهَذِهِ ثِيَابُهُ لَمْ تَبْلَ، وَآنِيَتُهُ لَمْ تُكْسَرْ،
وَالَّذِي نَفْسِي فِي يَدِهِ؛ إِنَّكُمْ لَعَلَى مِلَّةٍ هي أَهْدَى مِنْ مِلَّةِ
مُحَمَّدٍ، أَوْ مُفْتَتِحِي بَابِ ضَلاَلَةٍ.
قَالُوا: وَاللَّهِ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا أَرَدْنَا إِلاَّ الْخَيْرَ.
قَالَ: وَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ لِلْخَيْرِ لَنْ يُصِيبَهُ! إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم حَدَّثَنَا أَنَّ قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ
تَرَاقِيَهُمْ، وَايْمُ اللَّهِ مَا أَدْرِي لَعَلَّ أَكْثَرَهُمْ مِنْكُمْ. ثُمَّ
تَوَلَّى عَنْهُمْ. فَقَالَ عَمْرُو بْنُ سَلِمَةَ: رَأَيْنَا عَامَّةَ أُولَئِكَ
الْحِلَقِ يُطَاعِنُونَا يَوْمَ النَّهْرَوَانِ مَعَ الخَوارج (رواه الدارمي بسند
صحيح).
مقصد الاجتهاد هو تحقيق التقوى وليس طلب المشقة:
إن تعمُّد طلب المشقة في التعبُّد خطأ؛ قال العلامة شهاب الدين القرافي -رحمه الله
تعالى-:
«الأجر
على قَدْر تفاوت جلب المصالح، ودرء المفاسد؛ لأن الله -عز وجل- لم يطلب من العباد
مشقتهم، لكن الجلب والدفع»؛
(يعني جلب المصالح ودفع المفاسد). وقوله صلى الله عليه وسلم :
«أفضل
العبادات أحمزها»[2]،
و«أجرك
على قَدْر نَصبك»[3]؛
لأن ما كثرت مشقته؛ قلَّ حظ النفس منه، فكثر الإخلاص فيه، وبالعكس، فالثواب في
الحقيقة مُرتَّب على الإخلاص، لا المشقة»
اهـ[4].
وقد وضَّح الشاطبي هذا المعنى بقوله:
«الثواب
حاصلٌ من حيث كانت المشقة لا بد من وقوعها لزومًا عن مجرد التكليف، وبها حصل العمل
المكلَّف به، ومن هذه الجهة يصح أن تكون كالمقصودة؛ لا أنها مقصودة مطلقًا.
فرتَّب الشارعُ في مقابلتها أجرًا زائدًا على أجر إيقاع المكلَّف به، ولا يدل هذا
على أن النَّصَب مطلوب أصلاً.
ويؤيد هذا؛ أن الثواب يحصل بسبب المشقات، وإن لم تتسبب عن العمل المطلوب، كما
يُؤجَر الإنسان ويُكفّر عنه من سيئاته بسبب ما يَلحقه من المصائب والمشقات، كما دل
عليه قوله -عليه الصلاة والسلام-:
«ما
يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا همّ ولا حزن حتى الشوكة يشاكها، إلا كفَّر الله به
من سيئاته».
اهـ[5].
فالمقصد هو الوصول إلى مقام التقوى؛ قال الله -سبحانه-: {الچــم»
صلى الله عليه وسلم !١!صلى الله عليه وسلم ) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ
هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ صلى الله عليه وسلم !٢!صلى الله عليه وسلم )} [البقرة: ١،
٢]، وقال -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ
كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:
183]؛ فالقرآن نزل لتحقيق التقوى، ولذلك شرع في رمضان: الصيام وكثرة تلاوة القرآن.
فقه مواصلة الصيام:
فَتحَت السُّنة للصائم بابًا للاجتهاد المشروع في عبادة الصيام؛ فمن أحبَّ أن
يُواصل صومه بعد المغرب، شُرِعَ له ذلك إلى السَّحَر؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم
:
«لا
تُواصلوا، فأيُّكم أراد أن يُواصل فليواصل إلى السحر»[6].
فالسُّنة لا تُشجّع على هذا الفعل؛ لكن لا تَمنع منه ذوي النفوس القوية والهمم
العالية الذين يجدون راحة ومتعة في الاستكثار من عبادة الصيام بتمديد أجله اليومي.
ومع ذلك تضعُ لهم حدًّا لا ينبغي تعدّيه؛ فلا يجوز للمسلم أن يمتنع عن الطعام
والشراب لأكثر من 24 ساعة.
وكون هذا التعبُّد غير مُرغَّب فيه في السُّنّة؛ نفهم منه أنه لا ينبغي الإكثار
منه.
أما الهدي النبوي في الوصال؛ فهو هنا خاصّ بالنبي صلى الله عليه وسلم لا يُشرَع
الاقتداء به فيه؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: نهى رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن الوصال في الصوم؛ فقال له رجل: إنك تواصل يا رسول الله؟ قال:
«وأيكم
مثلي؟ إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني»[7].
وفي هذا دليل على القوة النفسية الهائلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ حيث كان
تعلُّقُ قلبه بربّه -تعالى- قد بلغ درجة تُعوّضه في بعض الأحيان عن الاحتياجات
الجسمية. والله -تعالى- أعلم.
[1] رواه مسلم (1175).
[2] قال السيوطي:
«لا
يُعرَف».
[3] رواه الحاكم، وأصله متفق عليه.
[4] قواعد المقري (2/410-411).
[5] الموافقات (2 / 220). والحديث متفق عليه.
[6] متفق عليه.
[7] متفق عليه.