الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصّلاةُ والسّلامُ على نبيِّنا محمّدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعين، وبعدُ:
لشهر رمضان المبارك سلطان لا يُقاوم، والحمد لله أن صبَغ مواسمنا الشرعية بما يجعلها كذلك؛ كي تصمد أمام الزيغ والإفك ومكر الليل والنهار.
ومِن فَضل الله في رمضان أن ارتبط بنزول القرآن الكريم، وصار صيامه من شريعة خاتم المرسلين، وأحد أركان الإسلام العظام، وإنه لطاعة فريدة في الأداء والدلالة.
وفي رمضان تنبعث النفحات والرحمات؛ فتغدو الأرض كأنها غير الأرض، وتصير النفوس كأنما جاءت من الجنَّة لا تَحمل ضغينة ولا غِلاً ولا خوفًا ولا حزنًا، وفيه أثر على العلوم الشرعية واللغوية، وتاريخ من التعبُّد والجهاد والمُصابَرة والرباط، وفيه من النصر المعنوي لعباد الله ما يُخزي الدجاجلة صغيرهم وكبيرهم، ويَدحض بُهتانهم الذي نشروه، وباطلهم الذي شيّدوه.
فمن مظاهر السلطة الرمضانية القوية أنه آتٍ لا محالة، ومهما فعلت أقوى القوى؛ ولذلك فإن الأُمّة تنتظر كل سنة هلال الشهر الهجري التاسع المُؤذن بدخول الموسم الميمون. ومن مظاهرها ما يقع في وجدان الناس ونفوسهم نحو هذا الشهر الكريم، وإنه لشأن مستقرّ في القلب لا يزول ولا يحول. ومن مظاهر القوة أن العباد يصومونه على مختلف الأحوال، ويهجرون فيه قائمة الشهوات من تلقاء أنفسهم بلا رقيب.
كما أن رمضان يأتي فارضًا مفاهيمه وأحكامه، فللضرورات ضوابط لا تجعلها مُرسَلة مع الأهواء وجهل الجاهلين، وليس الذكر كالأنثى، والعبرة بالرؤية القمرية والتقويم الهجري، وباب التوبة مفتوح، ومجال الاستزادة ممكن، ويا باغي الخير أقبل؛ وتلك سلطة رمضانية تجعل الحسرة حالة مستقرة في قلوب شياطين ومردة من الثقلين؛ الطليق منهم والمصفَّد، وهذا التصفيد بالأغلال من علامات قوة رمضان وسُلطته.
وفي رمضان قوة جذب باهرة؛ فالشارد الآبد يؤوب بمجرد قُربه والإعلان عن دخوله، فتمتلئ المساجد، وتُفتح المصاحف، وتطيب النفوس، وتُهجر المآثم؛ فنهار رمضان يزيد الأرواح سموًّا بترك الشهوات، وليله يزيد الأرواح تحليقًا ببركة القرآن والصلاة، وأما المقتصد والسابق فلهما مع رمضان حال يراكم القوة للأمة وأفرادها؛ فمتى زاد الإيمان، وحرص العباد على رضا الرحمن، فَثَمَّ النجاء والنصر والتمكين.
ومن سلطة رمضان: قَهر حُب المال؛ فيزيد الإنفاق والإطعام، ويحرص المقتدرون على إسعاد غيرهم، وفيه الصلة والتواصل، والعفو والتسامح، وفيه مظهر من مظاهر الوحدة والتآلف، وهي أحد أسباب القوة؛ إذ إن الفُرقة شرّ، وما أحرانا بتقدير ما يجمعنا تقديرًا يستحقه!
ثمّ يكمل رمضان سُلطته بليلة القدر التي يَحتشد لها جمهرة من الناس تربو على أيّ مناسبة سنوية، وحين يغادرنا يفتح الباب للعيد السعيد بجوائزه ومعانيه البهيجة؛ فاللهم بَلِّغنا رمضان، واجعلنا ممَّن أدرك معانيه الباسقة، وممن وُفِّق فيه وبعده لما يحب ربنا ويرضيه.