الشريعة في دستور تونس شعار المرحلة
“الشريعة الآن بالنسبة
إلينا هي برنامجنا الانتخابي” – راشد الغنوشي – جريدة
الشروق الأحد 1 إبريل 2012م الموافق 9/جمادى الأولى/1433هـ.
“
البرنامج الانتخابي لحركة النهضة لا يتضمن تطبيق الشريعة... فالأولية تبقى لإقامة
نظام ديمقراطي حقيقي يضمن الحريات لجميع المواطنين من دون تمييز على أيِّ أساس”. من ندوة صحفية عقدها راشد الغنوشي رئيس
حركة النهضة، وفتحي العيادي رئيس الهيئة التأسيسية للحركة والصحبي عتيق رئيس
الكتلة النيابية للحركة، بالمجلس التأسيسي.
بالمقابل، وفي نداء لتظاهرة لجعل الشريعة
المصدر الأساسي والوحيد للتشريع، أطلقه عدد من الجمعيات الإسلامية الغالب عليها
الوجه السلفي؛ بالإضافة لبعض جمعيات النهضة، وقد كان الشيخ الحبيب اللوز عضو
المجلس التأسيسي عن النهضة من المنظمين والداعمين والمحرضين لهذا النداء، نجد:
“بسم
الله الرحمن الرحيم – جُمعة نصرة الشريعة – نصرة لديننا الحنيف ومطالبة بجعل
الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي والوحيد للتشريع في تونس، تدعو الجبهة
التونسية للجمعيات الإسلامية إلى مظاهرة حاشدة أمام مقر المجلس التأسيسي يوم
الجمعة في 23 ربيع الآخر 1433هـ، إن شاء الله، إثر صلاة الجمعة. هبّوا عباد الله
صفاً واحداً لنصرة دين الله”.
إذاً! كيف يُفهم هذا التباين في إزدواجية
الخطاب لدى النهضة، والواضح بجلاء بين موقفي راشد الغنوشي ومجموعته، وموقف الحبيب
اللوز والذين معه من الشريعة؟
هل هو صراع أطياف داخل النهضة؟
القول بوجود صراع أطياف مردود بما صرّح به
راشد الغنوشي من أن عملية الرجوع عن طلب إدراج الشريعة في الدستور تمت عبر تصويت
من 74 قيادياً في النهضة. عبّر 53 منهم عن رغبتهم في رفض إدراج الشريعة وامتنع 8
عن التصويت.
يعني من كان مع إدراج الشريعة في الدستور 13
قيادياً من مجموع 74. هل يمثل هؤلاء، الثلاثة عشر طيفاً داخل النهضة؟
ربما! ولكن مسألة مثل الشريعة داخل تنظيم مسمى
على الإسلام، مثل النهضة، من المفروض أن تُعدَّ مبدئية، حياتية ولا يمكن أن تكون
بحال من الأحوال، وتحت أي ظرف، ورقة للعبة تكتيكية، سياسياً.
لو
كان هؤلاء الثلاثة عشر طيفاً يمثل هذه المبدئية في النهضة لاستقالوا أو لانشقوا.
فالأمر إمّا أن هذه القيادة ليست لها الشخصية القوية لأخذ قرار الحسم في موضوع
مفصلي مثل الشريعة، وإما أنّ مسألة الشريعة عندهم ليست بالمبدئية التي نعتقد،
وإنما هي قراءة من ضمن قراءاتهم.
الشريعة بين النهضة والسلفيين:
الذي وقع، أن خذلان النهضة لجانب كبير من
الشعب التونسي يحلم بمصدرية الشريعة لقوانينه، آلمَ قسمين من الإسلاميين:
1 - قسم كبير من السلفيين الميالين للمشاركة
في الانتخابات، ومساندة النهضة على أساس أنها الوجه الإسلامي في هذه الانتخابات،
كان هذا القسم يخالف، في الرأي، جانباً آخر فاعلاً من السلفيين يرى بعدم شرعية
الانتخابات والآليات الديمقراطية.
السلفيون الذين ساندوا النهضة في الانتخابات
وجدوا أنفسهم محبطين من النهضة. وكانت النتيجة أن انقسموا إلى ثلاثة أجنحة:
أ - جناح سئم اللعبة السياسية وانسحب إلى
العمل الدعوي والمدني.
ب - جناح اقتنع برؤى المناهضين للانتخابات
وهم أقلية
ج - جناح قرر إنشاء أحزاب، والعملَ من ناحية
البرامج، بمعزل عن النهضة. وهذا ما سنراه عملياً قريباً إن شاء الله. حيث تعدّ
مجموعتان من السلفيين، على الأقل، العدّة لإنشاء حزبين. أمر، إن تم، سيفرض على
النهضة رفع سقف طرحها الديني كيلا تُسحب من تحتها صورة التنظيم الإسلامي البارز في
البلد.
2 - القسم الثاني، من المصدومين من قرار
النهضة التخلي عن مطلب الشريعة، هم جانب كبير من قواعد حركة النهضة نفسها، وبعض
قياداتها الميدانية الذين اهتزوا لعدول النهضة عن مطلب الشريعة، ولم يعودوا يفهمون
حركتهم كما لم يعد بمقدورهم تسويغ سياساتها. هذه القاعدة تنتظر مؤتمر الحركة كي
تقول كلمتها.
قامت النهضة بالتحريض لتحركات تنادي بتطبيق
الشريعة عبر بعض رموزها. مسألة لم تكن للحركة السلفية المبادرة السياسية فيها. وقد
نأى السلفيون بأنفسهم عن العمل السياسي بشكله الحزبي و“الديمقراطي”و لكنهم رموا كل
ثقلهم في مسبح السياسة لما جاءت الإشارة من النهضة للعمل على إدراج الشريعة في
الدستور.
لماذا انسحبت النهضة من هذا الطرح بشكل
فجائي وفظ جداً، جعل حتى قيادات الصف الثاني فيها يهتزون؟
ليس السلفيون هم من بادروا بالمطالبة بإدراج
الشريعة في الدستور ولكن جمعيات وقيادات من النهضة، وساند السلفيون هذا المطلب.
لماذا تراجعت النهضة؟
في بداية الثورة وقعت هجمة من بقايا الإلحاد
والانبتات في تونس على المادة الأولى في الدستور التونسي: “تونس دولة حرة مستقلة،
ذات سيادة. الاسلام هو دينها، العربية هي لغتها والجمهورية نظامها” حيث أرادوا حذف
“الإسلام هو دينها، العربية هي لغتها”. بعدها بقليل أخبرنا بعض رموز النهضة بسعيهم
لإدراج الشريعة في الدستور وأنهم يمررون الأمر بصمت ويُعدون له الأرضية داخل
المجلس التأسيسي.
وفعلاً أعدت هذه القيادات الخطة وشاركت في
التظاهرات والمسيرات والأنشطة الشعبية لحث المجلس التأسيسي على إدراج الشريعة في
الدستور التونسي.
الآن وبعد التحلل الفجائي من هذا المطلب،
يرى بعضهم أن النهضة لم تفعل إلا تهييج عواطف الشعب تجاه شرع الله والإسلام كي ترفع
سقف المطالب أعلى من المادة الأولى، حتى يتمسك العلمانيون بهذه المادة كسقف لهم.
3 -
وهذا ما تمّ. من كان يصرخ، من العلمانيين، بتغيير المادة الأولى أصبح ينادي
عالياً بقدسية هذه المادة.
أي، استعملت النهضة شرع الله كتكتيك في لعبة
سياسية رخيصة.
4 - بالطبع لا يمكن تجاهل الضغط الخارجي
وعمل السفارات الأجنبية في تونس خاصة الفرنسية والأمريكية التي أقامت مؤخراً دورة
مدفوعة الأجر للصحافيين التونسيين.
والاعتماد على تبرير ضغط القوى الخارجية غير
كاف؛ لأنه متى كانت هذه القوى ترضى بالشريعة، ألمْ تعِ النهضة قول الله، - عزّ
وجلَّ -: {وَلَن
تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ
إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ
الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة: 120].
5 - فهل يعقل أن تنادي النهضة بإدراج
الشريعة في الدستور دون أن تكون واعية بردّ فعل اليهود والنصارى ومَنْ والاهم؟
النهضة بين السلفيين وأعداء الدين.
“لم أكن أتوقع أن السلفيين بهذا العدد وهذا
الحجم في تونس” قالها الشيخ سعد الحميد في أثناء زيارته إلى تونس لإقامة دورة
علمية، ثمّ أضاف مازحاً “أمر يجعلك تطمئن على باقي الدول”.
نعم. يقبل الشباب أفراداً وجماعات على
المنهج السلفي وأصبحوا يمثلون رقماً مهماً في البلاد، في حين أن مَن يسمون
بالعلمانيين والحداثيين يندثرون شعبياً ويتقلص حجمهم يوماً بعد يوم. ويبقى الإعلام
آخر أسلحتهم.
ما الذي يجعل النهضة تراهن على أعداء الدين
وتعطيهم حجماً أكبر منهم ينفخ فيهم روحاً؟
قد تكون ذاتية بعض العناصر القيادية في
النهضة فرَّت لسنوات خارج تونس إلى بريطانيا وفرنسا وغيرها، حاملة معها صورة عن
الواقع التونسي تنتمي إلى عقود الثمانيات والتسعينات من القرن الماضي. واقع كان
فيه لأعداء الإسلام وللشذوذ الفكري الماركسي، وغيره من أطروحات التغريب، بعض وزن.
واقع كان فيه لفرنسا قدرة على الفعل في تونس أكبر مما هو عليه الحال الآن.
عادوا إلى تونس بعد الثورة، وهم يعتقدون أن
الأمر على حاله. عادوا وفي كوابيسهم نفس الوحوش الكاسرة. ليس في وسعهم إدراك أن
تلك الوحوش الكاسرة انكسرت، بعون الله وفضله، ثمّ بإرادة وأصالة هذا الشعب التونسي
المسلم.
لم تعِ كثير من قيادات النهضة التي خرجت من
تونس، إلا مؤخراً، حجم التيار السلفي المترامي على كامل تراب البلاد. تيار ولد وترعرع
ونما في زمن غيابهم عن تونس. تيار واجه أجهزة قمع النظام التونسي بثبات مبهر في
حين أن جانباً من قيادات النهضة تراقب، ما يجري في البلد، من بعيد، من أوروبا.
بينما الجانب الآخر الذي اختلط بالسلفيين في السجون مثل الشيخ صادق شورو والحبيب
اللوز يقيمون علاقات دعوية وسياسية جيدة ومثمرة وذكية مع السلفيين.
6 - ستُولد خيبة الأمل - المُرّة - التي
زرعتها النهضة في أنفس الشعب التونسي بتخليها عن الشريعة، رغبة قوية لدى النخب
الإسلامية في البحث، عن بديل سياسي إسلامي آخر، يُعوِّض حركة النهضة. بديلاً، يكون
على قدر كافٍ من النقاء العقدي وله “مهنية مبدئية” سياسياً. وهذا ما يجب أن نراه،
قريباً، بإذن الله.
وفي المدى المتوسط، لا يمكن أن نختم هذه
الكتابة دون الإشارة إلى خبر مرَّ مرور الكرام في الإعلام، على الرغم من أهميته
ورمزيته التاريخية، ألا وهو حكم المحكمة الابتدائية في تونس بإعادة
فتح جامع الزيتونة ونزع الأقفال عن باب إدارته، وبالتالي سيعود
التعليم الأكاديمي الأصلي الزيتوني كما كان.
تكمن الرمزية القوية لهذا الحدث في هزيمة
الماسوني “بورقيبة” الذي أقفل جامع الزيتونة كصرح للإسلام. هزيمة أمام الحتمية
التاريخية التي تقول: إن تونس ستبقى إلى قيام الساعة، بإذن الله، منارة لدين الله.
هزيمة أمام إرادة وأصالة الشعب التونسي المسلم.
وتكمن أهمية هذا الحدث في أن هذا الصرح
سيعود - إن شاء الله - المرجعية الشرعية للشعب التونسي حيث سيمتص الصراعات العقدية
والاختلافات العلمية داخل جدرانه وبين علمائه. وهذا هوّ الحلّ لحالة الفوضى داخل
الجسد الإسلامي.
فوضى مرتبطة بغياب المرجعية العلمية
الموحدة. سيعود عامة الناس والمؤسسات إلى الزيتونة في خلافاتهم ومطالبهم الشرعية.
في هذا المدى المتوسط نرجو من الله أن يعيد
الزيتونة درعاً لعقيدة أهل السنة والجماعة على نهج السلف الصالح. سيكون للزيتونة -
إن شاء الله - وزن ديني وسياسي قوي، كما هو وزن الأزهر في مصر. نسأل الله لتونس
ولأمة الإسلام العزّة والأمن والأمان.
:: مجلة البيان
العدد 299 رجب 1433هـ – يونيو
2012م.