فقه التدرج وإشكالية التطـبيق
من قوى الإسلام
الدافعة، ومن سننه الباعثة على قبوله وبقائه سنة التدرج؛ وهي سنة ربانية في كل
شيء؛ في الخلق والتكوين، وفي التربية والإعداد، وفي الدعوة والتشريع، وهي في ذلك
تنسجم مع فطرة الإنسان؛ كما أن البلوغ إلى التمام وتحقيق الكمال لا يكون بجرة قلم،
ولا بالطفرة؛ وإنما يكون خطوة خطوة، وشيئاً فشيئاً؛ إذ لابدَّ من التهيئة والبدء
بالأهم والأساس، وفي الدعوة إلى الله - عزَّ وجلَّ -؛ فإن الأساس هو توحيد الله -
عزَّ وجلَّ -، ولهذا لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن أمره
أن يبدأ بالدعوة إلى التوحيد، لأن البيئة بيئة شرك، ولأن معــرفة بيئة الدعوة
وتوصيفها هو الذي يحدد نقطـــة البـــدء؛ روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة _
رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أرسل معاذاً إلى اليمن قال:
“إنك تأتي قوماً أهل كتاب؛ فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله
وأنَّ محمداً رسول الله، فإنْ هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله تعالى افترض عليهم
خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن أجابوك؛ فأعلمهم أن الله تعالى افترض عليهم صدقة
تؤخذ من أغنيائهم فتردُّ على فقرائهم...” (أخرجه البخاري في كتاب المغازي ومسلم
في كتاب الإيمان).
وفي الحديث بيان أن
الدعوة في الأصل هي الدعوة إلى توحيد الله - عزَّ وجلَّ -؛ لأن التوحيد هو الأساس
للبنيان؛ كما جاء في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: “بُني الإسلام على خمس...”
أخرجه البخاري في باب (دعاؤكم إيمانكم) ومسلم في باب (أركان الإيمان)؛ فإذا خلص
التوحيد واستقر في القلب، كان الانقياد بمجرد الإعلام؛ لذا قال صلى الله عليه وسلم
لمعاذ: “فأعلمهم“.
ومن هنا كان العمل
بشرائع الإسلام فور العلم بها، هو الدليل على الإيمان..... ومن حكمة العليم الخبير
– سبحانه – أنه لم يفرض التكاليف إلا بعد أن استقر التوحيد في القلوب، وصار سلطان
الإيمان أقوى من سلطان الهوى والنفس!! وفي هذا تقول السيدة عائشة - رضي الله عنها
-: «كان أول ما نزل من القرآن آيات من المفصل فيها ذكر الجنة والنار،
فلما ثاب الناس إلى
الإسلام نزل الحلال والحرام...» أخرجه البخاري في باب (أركان الإيمان)، وقولها -
رضي الله عنها - يفسر لنا أن مرحلة الدعوة المكية كانت معنية بشرح التوحيد، وبيان
مقتضياته؛ وأهمها الانقياد لأوامر الله - عزَّ وجلَّ - والرضا بحكمه، و ترويض
النفوس لقبول التشريعات والتكاليف، والتي عَنِيَ بها القرآن المدني؛ وهاجر المسلمون
لإقامة الدين؛ لأنه لا قيام للدين إلا بإقامة الدولة، و في أقل من عامين (سبعة عشر
شهراً) وقبل غزوة بدر، نزلت حزمة من التشريعات منها؛ فرض الزكاة، والصيام، والتوجه
ناحية الكعبة (تحويل القبلة؛ للاستقلالية والتميّز؛ فلا يشترك المسلمون واليهود في
توجه واحد حتى لو كان في الصلاة!!)،
ومنها فرض القتال وردُّ
عدوان مشركي مكة – بعد نجاة عير أبي سفيان – بقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ
حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: ٣٩١]، وبعد
انتصار بدر نزل قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ
الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]؛ فقد كان
من أهداف هذه المرحلة؛ توطيد أركان الدولة الناشئة، وتحقيق أمن وتماسك الجبهة
الداخلية؛ وكيفية التعامل مع المعارضين سواء أكانوا يهوداً أم منافقين أم مشركين؛
وقد تم ذلك بما يلي:
1- بناء المسجد.
2- المؤاخاة بين الأنصار،
وبين المهاجرين والأنصار.
3- كتابة الوثيقة التي
نظمت العلاقة بين المسلمين وغيرهم.
4- إرسال سرايا الاستطلاع
(سبع سرايا) لتأمين الطرق حول المدينة المنورة (على منورها الصلاة والسلام) والتي
كان آخرها سرية عبد الله بن جحش؛ والتي نزل بشأنها – بحسب ما جاء في كتب التفاسير
والسير- قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ
الْـحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ...} [البقرة: 217]!
ثم تتابع نزول
التشريعات والتكاليف بحسب سنة التدرج؛ وإذا كان ترتيب النزول (من اقرأ حتى
النصر!!) هو منهج تربية على العقيدة والأخلاق؛ فإن ترتيب المصحف هو منهج تشريع
قائم على التدرج سواء أفي فرض التكاليف أم في تحريم المحرمات؛ وبيان ذلك فيما يلي
- على سبيل المثال لا الحصر -:
فرض
الصيام: فقد
كان الحكم على التخيير أولاً، في قوله تعالى: {فَمَن
تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ}
[البقرة: 184]؛ ثم على سبيل الحتم والإلزام، في قوله تعالى: {شَهْرُ
رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ
الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ
مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ
بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ
وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون}
[البقرة: 185].
فرض
الحج: كان الفرض على من نوى وتجهز؛ فعليه
الإتمام، في قوله تعالى في سورة البقرة {وَأَتِمُّوا الْـحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، ثم كان
الإلزام في قوله تعالى في سورة آل عمران: {وَلِلَّهِ
عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً} [آل
عمران: 97].
تحريم
الخمر: فقد حرمت على مراحل متدرجة – بحسب ترتيب
المصحف – كما يلي:
أ- في سورة البقرة:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْـخَمْرِ وَالْـمَيْسِرِ قُلْ
فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن
نَّفْعِهِمَا} [البقرة: 219].
ب- في سورة النساء: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى}
[النساء: 43].
ج- في سورة المائدة: {إنَّمَا
الْـخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ
الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90]، والحديث
عن التدرج له أبعاد كثيرة ومجالات متعددة؛ كالتدرج في الدعوة (البدء بالأهم
وبالأقربين، ومراتب الاحتساب، والمرحلية..)، والتدرج في التربية (على أساس المراحل
العمرية، وتزكية النفس للوصول إلى أعلى درجات الإيمان والإحسان..)، وغير ذلك؛ غير
أن الحديث عن التدرج قد شاع في هذه الأيام، خاصة في قضية تطبيق الحدود الشرعية،
التي غابت وأقصيت في معظم البلاد الإسلامية منذ حوالي قرن من الزمان!!
واختلفت الرؤى حول كيفية التطبيق؛ هل يكون فورياً أم
متدرجاً وعلى مراحل؟ وهل الآن أم بعد مرور هذه المرحلة التى يسمونها انتقالية؟....
وجدت لزاماً عليَّ أن أدلوَ بدلوي المتواضع في هذه القضية؛ خاصة أنها كانت موضع
دراستي واهتمامي على مدى عشر سنوات (فقد كانت رسالة التخصص “الماجستير“في الدعوة
عام 2004م بعنوان “خصيصة التدرج في الدعوة إلى الله - عزَّ وجلَّ -)، وما أريد أن
أشير إليه الآن هو ما يلي:
1- توصيف
المرحلة (بيئة الدعوة كما في حديث معاذ:” إنك تأتي قوماً أهل كتاب.. “)؛ فهل
المرحلة مرحلة تمكين أم غير ذلك من المراحل؟ (فمراحل الدعوة أربع: التكوين التبليغ
– الاستضعاف – التمكين)؛ وقد أحلت مسألة التوصيف للاجتهاد الجماعي!!
2- الأخذ
بالحكم النهائي؛ ففي مسألة الخمر كان الحكم الثاني في قوله تعالى: {لا
تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى}
[النساء: 43]، هو حكم مرحلي؛ مع أنه حكم نهائي للصحابي “فقط “وقت نزول هذا الحكم؛
لأن من الصحابة من مات في هذه المرحلة ولم يعش حتى نزل الحكم النهائي؛ وفيمن ماتوا
في هذه المرحلة نزل قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إذَا مَا
اتَّقَوْا وَّآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ...}
[المائدة: 93]، وهذه الآية جاء موضعها بعد آية التحريم (المائدة: 90) “الحكم”
النهائي؛ لأن بعض الصحابة – كما جاء في التفاسير - سألوا عمَّن ماتوا وقد شربوا
الخمر لعدم نزول الحكم النهائي إلا بعد وفاتهم - رضي الله عنهم -!
فكان حكمهم رفع الحرج
والعفو عنهم.. ومن هنا نشأت قضية الأخذ بالحكم النهائي أو الحكم المرحلي عند
التطبيق؛ خاصة بعد أن استحلت الخمور في كثير من بلاد المسلمين؛ وسمحت بعض الأنظمة
بتعاطيها وتصنيعها والاتجار فيها وجمع ضرائبها!! وعاد الناس يسألون عن الخمر؛ كيف
نطبق التحريم؟ وهل نأخذ بالتدريج؟
خاصة مع ضياع
الوازع الديني، وانعدام التربية الإيمانية؛ فقد أفرزت الأنظمة الغاشمة، في كثير من
البلدان، أجيالاً يصعب إعادتها إلى رشدها – إلا بقدرة الله وهدايته – وهي في حاجة
إلى إصلاح الرأس والجسد!! وأرى أن التطبيق هنا يسير في اتجاهين:
الأول:
إلغاء التراخيص ومنع المسلمين من الاتجار بالخمور!!
(ثمة قوانين وضعية – كما
في مصر؛ وهو قانون رقم 63 لسنة 1976م مادة 11 – تحظر الخمور في الأماكن العامة أو
المحال العامة، ويستثنى من هذا الحكم: الفنادق والمنشآت السياحية..!!
أما العقوبة؛ فينص قانون
العقوبات المصري – الحالي – في الفقرة ثانياً من المادة 385، على أن يعاقب بعقوبة
المخالفة؛ وهي الغرامة التي لا تتجاوز جنيهاً مصرياً، أو بالحبس مدة لا تزيد على
أسبوع؛ كل من وجد بحالة سكر بيّن في الطرق العامة أو في المحلات العامة“: الفقه
الجنائي الإسلامي للمستشار محمد بهجت عتيبة 1991م ط. معهد الدراسات الإسلامية
ص.347”).
الثاني:
إقامة معسكرات للمدمنين (علاج. تعليم. تثقيف. رياضة. مزاولة أنشطة إنتاجية
وخدمية...)؛ لتحويلهم إلى صالحين مصلحين ومنتجين!!
3- بين
التدرج والأولويات:-- التدرج هو تأصيل لمرحلية العمل؛ وهو فقه الانتقال من
مرحلة إلى أخرى؛ وقرار (أو فتوى) الانتقال إنما هو قرار محوري (إستراتيجي)؛ يتوقف
عليه تحويل الأهداف إلى وسائل وبالعكس، كما يتوقف عليه مدى ما تقدمه الحركة من
تضحيات ومن ثمن!! إذ إن لكل مرحلة أهدافها ووسائلها (الموافقة للشرع)؛ وقد
تتحول الأهداف في مرحلة ما إلى وسائل في مرحلة أخرى؛ كما في حال مرحلة الاستضعاف؛
فإن الصبر مع التهيئة المعنوية للجهاد؛ يُعد هدفاً، ثم يكون الجهاد - مع الصبر- في
مرحلة تالية وسيلة لغاية أخرى؛ هي إقامة الدين، وإعلاء كلمة الله - عزَّ وجلَّ -.
أما الأولويات فهي تأصيل
لنوعية العمل داخل المرحلة الواحدة (بعد توصيفها)؛ بحسب قاعدة: “واجب الوقت “و
“أفضل الأعمال؛ أفضلها لوقتها“، كما هو معلوم.. ففي حال عدم التمكين يكون الصبر
وتحمل الأذى وضبط النفس، مع ترك الانشغال بالأهداف الجزئية، والاهتمام – فقط –
بالأهداف الكلية، كما يكون الإعداد والتهيئة لقبول التكاليف، وفي حال التمكين
يراعى – في الناس وفي البيئة – حداثة العهد بالشرك وبالمعاصي؛ فقد ألف الناس – على
مدى ثلاثة أجيال – الأحكام البشرية الوضعية، وقضية التحول من النظام «الديمقراطي
المدني»؛ إلى النظام الإسلامي؛ لابدَّ أن يراعى فيه ما ألفه الناس وتشربوه على مدى
سنين طويلة، ودرجت عليه أجيال متتابعة، ولعل ما قاله وأراده النبي صلى الله عليه
وسلم لعائشة كان من هذا القبيل؛ فقد بوب البخاري – رحمه الله تعالى - في باب (من
ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه، فيقعوا فيما هو أشد منه) كقول
النبي صلى الله عليه وسلم: “يا عائشة؛ لولا أن قومك حديث عهدهم _ أي بكفر _ لنقضت
الكعبة فجعلت لها بابين، باباً يدخل منه الناس، وباباً يخرجون منه “؛ يقول
ابن حجر – رحمه الله تعالى -: (وفي الحديث معنى ما ترجم له، لأن قريشاً كانت تعظم
أمر الكعبة جداً، فخشي صلى الله عليه وسلم أن يظنوا – لأجل قرب عهدهم بالإسلام –
أنه غيّر بناءها لينفرد بالفخر عليهم في ذلك..؛ ويستفاد منه ترك المصــلحة لأمن
الوقوع في المفسدة، وفيه ترك إنكار المنكر خشية الوقوع فما هو أشد نكراً (والإمام
- ولو كان مفضولاً - إنما يسوس رعيته بما فيه إصلاحها ما لم يكن محرماً..) انظر:
فتح الباري جزء1 ص181 – دار إحياء التراث العربي بيروت.
ومن هنا نـتبين أهمية
مراعاة حال الناس وما درجوا عليه، وكذا حال الفئة المؤمنة؛ وهي التي تتحمل تبعات
التغيير، ويناط بها إمكانية الانتقال من مرحلة إلى مرحلة؛ وهو فقه المرحلية؛ وهي
(أي المرحلية) سنة التدرج.. وأختم بما ذكرته من حكمة التدرج:
1-تسهيل قبول
الدعوة؛ وهو تيسير من الله تعالى على عباده؛ لأنه يعلم طبائعهم وضعفهم..
2- الإعانة على
الإعداد والإحكام؛ فما من دعوة أو جماعة تقوم بنشر فكرة أو مذهب أو عقيدة بين
الناس أو تريد إقامة نظام، إلا وهي تحتاج إلى إعداد كبير وتهيئة للبيئة التي تريد
أن تغرس فيها بذور دعوتها؛ لتنبت منها خيراً وتوفيقاً..
3-علاج النفور من
كثرة التكاليف؛ فلا يغيب عن بال قليل الخبرة بالناس أن التكاليف بالكثرة ممَّا لا
يطيقه الناس، ولا يتحملونه؛ فيدعو ذلك للنفور والإدبار... فكانت الحكمة قاضية
بالتدرج.
:: مجلة البيان
العدد 299 رجب 1433هـ – يونيو
2012م.