اليهود: سؤال الهوية ومأزق الانتماء
على الرغم من وَصْف الدراسات السياسية والاجتماعية لجماعة اليهود - بوصفهم مجموعة بشرية لها حضورها في التاريخ الإنساني، والذي قد يكون «فاعلاً» و «مؤثراً»، في كثير من الأحيان، في بعض المجتمعات الأوروبية - بأنهم مجموعة «ممزقة» الانتماء ومتصارعة الهوية، فإن الأثر العلمي الذي تركه كثير من العلماء والمفكرين «اليهود» في التاريخ الإنساني يضعنا أمام تساؤل حول مدى تأثير الاضطراب النفسي والاجتماعي الذي عانوه في آثارهم العلمية التي خلَّفوها. يشير الكاتب «رافائيل باتاي» في دراسته (العقل اليهودي) إلى أن هناك ست قوى أثَّرت في تاريخ اليهود، اتخذت طابع المواجهات في معظمها: أُولاً: تبنِّي لغة ذات جذور كنعانية: وهي العبرية التي جاءت بها التوراة عوضاً عن لغتهم الأصلية الآرامية. ثانياً: مواجهة الحضارة الهلينية. ثالثاً: مواجهة العرب في أرضهم التاريخية (فلسطين). رابعاً: مواجهة عصر النهضة الإيطالية وتجارة جمهورياتها السياسية المتناحرة. خامساً: مواجهة الحركات المذهبية المسيحية في شرق أوروبا ودَوْرِهم في هذا النشاط، وتطوُّر الحسيدية واللغة اليديشية. وأخيراً: التأقلم مع الثقافة الغربية الحديثة إبان عصر النهضة الأوروبي، وما نتج عنها من خروج اليهود من حياة مجتمع الغيتو ودخولهم فترة تنويرية على صعيد المبادئ والأفكار. هذه المواجهات - كما يشير «باتاي» - تُبيِّن اختلافاً بين اليهود وغيرهم؛ فلم تكن هناك يوماً - حسب تعبيره - جماعة يتألف تاريخها من سلسلة من المؤثرات الخارجية. وكان من آثار ذلك تفرُّق اليهود وتعدُّد مشاربهم وتشعُّب انتماءاتهم، وما تمخَّض عن ذلك التعدد؛ فالثقافة التي نتجت عن ذلك التاريخ - بما فيه من تعدُّد وعوامل خارجية - هي ثقافة تُعرَف بمؤثراتها؛ بحيث يمكن الحديث عن ثقافة يهودية هلينية، وأخرى عربية إسلامية، وغيرها ألمانية أو أمريكية، إلى آخر ما هنالك من ثقافات امتزجت بثقافة المجتمعات التي عاش فيها اليهود وانتموا إليها سياسياً. فمنذ دخول النصرانية إلى الإمبراطورية الرومانية وحتى نهاية العصور الوسطى، قام اليهود بنقل كثير من المعارف اليونانية والعربية إلى اللغات الأوروبية في مختلف المجالات: كالفلسفة والعلوم والأدب والطب، ويُعَد (موسى بن ميمون) أحد أهم الأسماء اليهودية في تلك الفترة، حيث نجح في تمثُّل التراث الفلسـفي اليوناني - الأرسطي على وجه التحديد - والتوفيق بينه وبين الموروث الديني اليهودي. وفي عصر التنوير تركت «الهاسكالاه» (وهي حركة عَلمانية) أثراً عميقاً على اليهودية يوازي تأثيرها على النصرانية، كما يرى ذلك الدكتور سعد اليازعي في كتابه: (المكوِّن اليهودي في الحضارة الغربية)؛ فقد أدت بوصفها نوعاً من الإصلاح الديني إلى شكل من اليهودية خالٍ من سماته الخاصة، يقوم على التركيز على المضمون السلوكي بدلاً من الالتزام بالتعاليم اليهودية التقليدية؛ حتى إن بعض مفكري أوروبا رأوا في اليهود النموذج الأكثر تمثُّلاً للعَلمانية، وهذا ما أدى إلى ضعف التمسك بالدين وشجع اليهود على الاندماج في المجتمعات المحيطة، وهو ما أنذر بخطر الذوبان الكلي في تلك المجتمعات، وامِّحاء اليهود واليهودية، وهو أيضاً ما سبب مأزقاً بالنسبة للحريصين على الحفاظ على الهوية اليهودية، ومأزقاً بالنسبة لبعض المجتمعات الغربية التي لم تكن راغبة في حصول ذلك الاندماج على النحو الذي جعل اليهود - رغم العقلانية والتنوير والازدهار - حاضرين في المجتمعات الأوروبية. وفي الولايات المتحدة الأمريكية، لم يخلُ الوجود اليهودي من بعض المنغصات، كمعاداة السامية، لكن اليهود الأمريكيين حققوا ما لم يحققه نظراؤهم ممن آثروا البقاء في أوروبا، سواء على المستويات الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية. وهو ما ساعدهم على ترسيخ أبرز الحركات الأيديولوجية السياسية في التاريخ اليهودي الحديث، وهي الحركة الصهيونية، لا سيما في أعقاب الحرب العالمية الثانية؛ حيث أنشأت دولة «إسرائيل» في فلسطين التي لها مكانة خاصة بالنسبة لليهود في العالم، معتبرين ذلك أبرز إنجازات اليهود وأكبر عوامل توحيدهم. حقيقةً أن التاريخ يشهد على كون اليهود أكثر شعوب الأرض تعدُّداً في الانتماءات، ومعاناة من مأزق الهوية، يعزز ذلك الشعور اليهودي الدائم بالاختلاف، والموقف الثقافي والفكري تجاه ثقافة الآخر (الغربي - المسيحي)، وهو شعور لم يخلُ من شعور بالتأزم حيال الهوية، وإن أفضى حيناً إلى الدونية، فإنه في أحيان كثيرة أدى إلى مزيد من الشعور بالتفوق. ويمكن القول: إن أزمة الجماعة اليهودية (التي نرفض اعتبارها جماعة سياسية مهما كانت الظروف أو الادعاء بوجود كيان سياسي، هو: «إسرائيل») لا يمكن لها أن تتجاوز معضلة هويتها وانتمائها في ظل تعزيز هذه الأزمة بتعدُّد المشارب الفكرية والثقافية لأفرادها، وهو الأمر الذي يصعب تجاوزه أو التغلب عليه.