من (السلامة)... إلى (الغل)!
ينشأ المسلم وهو يجد هذه
المعاني تتعزز في نفسه يوماً بعد يوم، يتلقاها في البيت والمسجد والمدرسة، ينمو في
قلبه حب الصحابة -رضي الله عنهم- وتوقيرهم، ويعتاد لسانه على الترضي عنهم
وذكرهم بالخير، وتألف نفسه كمال الأدب معهم، والكف عن أي شيء يسيء لمقامهم.
أثمرت هذه التنشئة
الإسلامية مكانة عميقة في نفوس الناس للصحابة، تشتعل غضباً ضد أي إساءة تنال أحداً
منهم.
وحتى يبقى القلب في كمال
الطهارة والسلامة تجاه هذا الجيل الإسلامي الفريد. جاءت وصية أعلام الإسلام
الكبار بترك الخوض فيما شجر بين الصحابة - رضي الله عنهم - حتى لا تنتج القراءة
الخاطئة لهذه الأحداث منابت غل وضغينة في قلب المسلم تجاه صــحابة رســول الله صلى
الله عليه وسلم، فأوصــوا - لنصحهم وعلمهم - بترك الخوض في هذا الباب، فلا
يتحدث فيه إلا مع الاحتياط التام في استيفاء شروط العلم والعدل وحفظ المكانة، وبما
لا يكون ذريعة للاستطالة أو فساد الفهم وسوء الظن.
فأحداث الفتنة ليست شيئاً
مغلقاً أو محذوفاً من تاريخ الإسلام، فلقد تكلم فيه العلماء وبحثوا تفاصيله،
وأجابوا عن الإشكالات المثارة، وهذا يبدد الوهم الذي يجثم فوق صدور بعض الناس حول
هذا الموقف السلفي من الصحابة، هو وهمٌ مركب يجهل حقيقة موقف السلف، ولا يفقه - في
جزئه الآخر - حقيقة الدوافع والاعتبارات العقلية العميقة في هذا الموقف، ويمكن
أن نستلهم بعض هذه الاعتبارات في العناصر التالية:
أولاً:
احتواء كتب التاريخ لخريطة واسعة من الأخبار والأقوال
والتفصيلات التي رسمها إخباريون كذبة وخصوم مبتدعة، وأكثر من يخوض فيما شجر بين
الصحابة لا يسلم من قبول كثير من هذه الأخبار وروايتها والبناء على مضامينها،
وأكثرهم – بداهة - ليس لديهم القدرة على فحص الأخبار وتمييز صحيحها من
سقيمها، بما يجعل صورة الأحداث تترسخ في وعيهم بنسختها المكذوبة التي رسمها
خصوم الصحابة.
ما يزال كثير من
الباحثين يعتمد على هذه الأخبار، وينقل عن الضعفاء والمتروكين والوضاعين، ثم
يتحدث بكل ثقة أنه يعتمد على مصادر تاريخية موثوقة، بمجرد أنه ينقل من أحد كتب
التاريخ الشهيرة!
لقد بحّت – أيها الناس -
أصوات العلماء والمحققين وهم يحذرون مثلاً من (أبي مخنف لوط بن يحيى) ويذكرون أنه
إخباري تالف متروك الرواية، حتى غدا هذا من المعلومات الشائعة، ومع ذلك فما زال
كثير من المؤلفين يبني قائمة طويلة من الأحكام والتحليلات بناءً على رواية محفور
في أولها: قال أبو مخنف!.
ثانياً:
إن الخوض في تلك التفصيلات والأخبار لا يترتب عليه أي فائدة عملية أو ثمرة فقهية،
فهي حوادث تاريخية وقعت تحت ظروف وملابسات معينة أنتجت فتنة بين الصحابة - رضي
الله عنهم - كانوا فيها مجتهدين ومتأولين، ولا يترتب على إدراك تفاصيلها علم
بأحكام شرعية أو تأثير على جانب فقهي أو علمي معين، فمن يجهل خفاياها ولا يدرك
تفصيلاتها لن يمس ذلك بتاتاً أي قضية شرعية، وهذا يبدد الوهم الذي يسكن بعض الناس
حين يظن أنه أمام حقبة تاريخية مخفية، وواقعة لا بدّ من إعادة قراءتها، ويشعر أنه
يكتشف من خلالها مواقف شرعية مهمة، والحقيقة أن أحكام الشرع وتصورات المسلم لن
تتأثر بمعرفته لهذه التفصيلات أو إعراضه عنها، ولهذا كانت وصية السلف في الكف
عمَّا شجر بينهم لأنه من قبيل البحث الفارغ الذي لا طائل من ورائه.
ثالثاً:
إن الحكم على الصحابة يتطلب عدلاً وإنصافاً وموازنة بين
الحسنات والسيئات، وألَّا يكون أي اجتهاد أو خطأ سبباً لإلغاء ما عداه، وهذا ميزان
دقيق لا يحسن أكثر الناس ضبط ميزانه، فينتج من ذلك استطالة عليهم، وبغياً في حقهم،
وإذا كان البغي والجور محرم في حق أي أحد من الناس فكيف بصحابة النبي صلى الله
عليه وسلم؟
الحديث هنا عن جيل قد
أثنى عليه القرآن الكريم: {وَالسَّابِقُونَ
الأَوَّلُونَ مِنَ الْـمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم
بِإحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ
تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}
[التوبة: 100] {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ
مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا
سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي
وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29] ووعدهم
جميعاً – سابقهم ولاحقهم - بالحسنى {لا يَسْتَوِي مِنكُم
مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ
الَّذِينَ أَنفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ
الْـحُسْنَى} [الحديد: 10] وأوصانا رسولنا الكريم صلى
الله عليه وسلم بهم فقــال: «لا تسبوا أصحابي».
فمن العقل والحكمة
والديانة أن يتحفظ المسلم عند نظره في مواقف هؤلاء الناس الذين يتحدث القرآن
الكريم عنهم بهذه الكيفية، وأن يعلي من قدرهم كما أعلى الله من مكانتهم، فيتولاهم
جميعاً، ويدعو لهم جميعاً، ويرجو أن يحشره الله في زمرتهم، ويتحفظ من ولوج بابٍ
يكون ذريعة إلى أي إساءة لمن عظَّم الله حقهم.
إن غياب العدل في حقهم،
والعلم بحالهم، والإنصاف في تقويمهم هو الذي جرَّأ كثيراً من المبتدعة على الخوض
في أعراضهم، والنيل من مقامهم بما أنتج غلاً وكرهاً دفيناً في نفوسهم في حق صحابة
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي صفة خليق بها الكفار لا أهل الإيمان {لِيَغِيظَ
بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29].
رابعاً:
حاجة هذه الأحداث للرؤية الشمولية التي تعرف دوافعها،
وتضبط أحداثها، وهي غالباً ما تخفى على أكثر الناس، فيقرأ الأحداث منتزعة من
سياقها، مقطوعة عن دوافعها بما يجعله يفهم الموقف على غير ما كان عليه، فيقع
في قلبه شيء على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(إن هذه الآثار المروية
في مساوئهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغيَّر من وجهه، والصحيح فيه
هم فيه معذورون، إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون، وهم مع ذلك لا يعتقدون
أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره بل يجوز عليهم الذنوب في
الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنهم
ليغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات
ما ليس لمن بعدهم .. ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه، أو أتى
بحسنات تمحوه، أو غفر له بفضل سابقته، أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذين هم
أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه .. ثم القدر الذي ينكر من
فعل بعضهم قليل نزر مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم)[1]
خامساً:
لم يقل أحد من السلف إن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا
معصومين، أو أن كل فعل صدر منهم فهو حجة ودليل معتبر، وحينئذٍ فأي خطأ أو اجتهاد
صدر من بعضهم مما يخالف فيه الدليل فإن المسلم بداهة سيأخذ الدليل، وحينها
فلا معنى للخوض في تفاصيل هذه الأخطاء وإثارة الحديث فيها مرة بعد مرة بمناسبة
وبغير مناسبة، إلا شحن النفوس بالغل والضغينة عليهم، ولهذا تجد في القرآن من دعاء
المؤمنين {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ
يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا
بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا}
[الحشر: 10] فكثير من النقد الموجه لهم هو من قبيل الغلِّ ومرض القلب فحسب، وإلا
فأي فائدة من الحديث عن أحدٍ من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجل الطعن
فيه وذمه وعيبه؟ وما الفائدة من إثارة تاريخه ومواقفه وخطبه بمناسبة وبغير مناسبة،
بلا تحقيق فيها ولا تدقيق، إلا أن يمتلئ قلب المسلم غلاً وحنقاً على صحابي لقي ربه
من قرون طويلة؟
وربما قال بعضهم هنا: إن
هذا الموقف من قبيل تقديس الأشخاص دون تقديس المبادئ. وهذا خطأ مبني على سوء تصور
للموضوع، فلم يقل أحد بتصويب كل ما صدر من الصحابة حتى يقال: إنه تقديس الأشخاص
وقد يضر بتقديس المبادئ، فالمبادئ واضحة ولم يقل أحد بتقديم أي شيء عليها، إنما
الحديث عن تقدير الشخص وحفظ سابقته ومقامه وترك الإساءة والطعن فيه، وهذا لا يضر
المبادئ في شيء، فليس من ضرورة حفظ المبادئ أن تطعن في الأشخاص أو تسبهم أو تخوض
في نياتهم أو تثير الطعن فيهم بمناسبة أو بغير مناسبة.
ومن الأوهام هنا،
الجرأة على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم القول: إن
الصحابة ليسوا بمنزلة واحدة، وإنه لا يمكن مساواة بعض من أسلم بعد الفتح بأبي بكر
وعمر؟ وهذا كلام صحيح، وهو ما يقوله أهل السنة،[2] فالصحابة درجات، وبعضهم
أفضل من بعض، والتفضيل ليس فيه إساءة لأحد، إنما لا يجوز أن يكون هذا التفضيل
سبباً للجرأة على أحد منهم وتهوين ذمه والطعن فيه.
سادساً:
إن من يقرأ حادثة الفتنة بشكل متكامل، ولديه قدرة على تمييز الأخبار الصحيحة
والسقيمة، فإنه في النهاية سيصل إلى ما وصل إليه السلف الصالح - رضي الله عنهم -،
من توقير الصحابة وحبهم وتقدير إيمانهم وتضحيتهم في سبيل الله، وإن هذه الفتنة -
ليست طعناً بهم أو منقصة لهم - تقدير رباني؛ ليعرف المسلم عظمة هذا الجيل حتى وهو
في حال الفتنة، ويعرف الأحكام الشرعية الواجبة في مثل هذه الفتنة، والأخلاق
الإسلامية الرفيعة حتى في أشد حالات الفتنة والقتال.
فوصية علماء السلف بالكف
عن هذه الأحداث لم يكن جهلاً منهم بحالها، ولا خشية من ظهور حقائقها، بل هم من
أعلم الناس بها، قد فحصوا رواياتها، وحرروا أحكامها، وضبطوا أحوالها فعرفوا
أنها موصلة إلى حب الصحابة واعتقاد فضلهم، ورأوا أن الخوض فيها لا ثمرة عملية فيه
وقد يكون ذريعة للاستطالة والغل فكان من النصح للناس أن يبنوا لهم هذا المنهج، وهي
النتيجة العلمية التي سيجدها من يقرأ – بعدل وعلم- تفاصيل هذه الفتن.
وقد يأنف بعض الناس من
الأخذ بقول بجمهور السلف وأئمته وكبار محدثيه الذين ميزوا الأخبار وتتبعوا
الأحوال، فيشعر أن هذه حالة تقليد وتضليل ثم ينقاد بكل سهولة، ويصدق كل ما يقرأه
في كتاب أو يسمعه من خطيب!
وربما شعر أن ثم مؤامرة
لتضليله عن معرفة أحداث التاريخ فدفعه ذلك لمزيد حرص وعناية لقراءة تلك التفاصيل،
وبدلاً أن يتجه لمنهج الأئمة والمحدثين الكبار الذين خبروا الأحداث وعرفوا
تفاصيلها فسلكوا به - بعد علم ودراية - منهج سلامة الصدر وطهارة القلب وحفظ اللسان
يبحث عن ناقصي العلم والعدل ليملؤوا قلبه حنقاً وحقداً وضغينة وغلاً على أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينتقل من سلامة الصدر إلى الضغينة والغل، فيا حسرتاه
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا
تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ
رَّحِيمٌ} [الحشر: 10].
:: مجلة البيان العدد 298 جمادى الآخرة 1433هـ
- مايو 2012م
[1]
العقيدة الواسطية 120-121
[2] انظر: العقيدة
الواسطية لشيخ الاسلام ابن تيمية 115-116.