شهيق العصفور
- ليتك لم تأتِ أبداً يا عيد! أو تأخرت حتى تتفتح براعم الفتوة في مساكب الجسد...
- آه يا عيد! لماذا عدت بهذا الشكل؟
عيد متعِب، يزيد التوتر توتراً، يغطي الأجساد الباردة بمعاطف الأنين، في ليلته (العيد) أمسك الطفل الذي لم يتجاوز الخامسة من عمره بيد أبيه وأخذ يهزها ويبكي: بابا! خذني إلى ماما... أريد ماما...
أمسك الأب بسُبحة من الهم لا ينتهي العد فيها، ثم دخل في مغارات الصمت الرهيب، وقبل أن ترتفع راية الهوس، ضمَّه إلى صدره، مسح دموعه، قبَّله، وفي داخل حقل الكآبة الذي دخله رغماً عنه، هدهده، وحدَّثه عن الألعاب الكثيرة التي سيشتريها له... عن الشوكولا والفواكه اللذيذة... عن العيد والزيارات الكثيرة التي سيقومان بها... عن فرح قادم كالربيع... وعن المدرسة عندما يكبر قليلاً...
لكن الطفل رفض أن ينتمي للهدوء، ورفض كل الإغراءات وظل يطالب بحقه ككل الأطفال، عندئذٍ أخرج من جيب ذاكرته حكاية جميلة مثل ضحكة طفل ونثرها في أذنيه، ولكن حين تحولت الكلمات إلى عصافير تطير نحو البعيد خرج من دائرة المنطق وصرخ وهو يأتي حركات عشوائية: متى سألحق بها وأرتاح؟
لكنه ما لبث أن هدَّأ نفسه وهدَّأه، ثم مسح شعره بحنان ووعده أن يأخذه إليها في الصباح.
قبل أن ينهض الصبح من نومه، مسح الطفل النعاس عن عينيه... دار بنظراته في الغرفة... تطلَّع إلى ثيابه الجديدة المعلقة على الحائط فلم يشعر بالبهجة، اقترب من أبيه الذي كان يتصنَّع النوم قائلاً: بابا! انهض يا بابا! لنذهب إلى أمي.
فتح عينيه ببطء ونظر إليه بأسىً وكاد يجهش ببكاء حاد مصحوب بتوجعات آلامه؛ غير أنه تمالك نفسه، داعبه قليلاً، ثم ألبسه ثيابه الجديدة، وحاول أن يجلب له من سماء العذاب سرب حمام... حدَّثه عن أشياء كثيرة لعله ينسى، لكنه رفض النسيان، وأمام الإصرار والحرائق التي استندت على روحه ودمه، أمسك بيده ومضى به برفقة قنديل الجراح إلى حيث ترقد الأم.
جـــلس أمـــام كومــــة تــــراب تـــرتفع فوقـــــها شاهدة حجرية، أجلس الطفـــل في حضنه، قبَّــــــــــله وهو ينتـــحب بصـــمت، وقـــــال بصــــوت أشبه بالهمس: هذه هي أمك يا ولدي! إنها تنام هنا منذ أسبوع.
تطلَّع الطفل بدهشة إلى كومة التراب، ثم إلى القبور الكثيرة وطرح أسئلته البريئة: لماذا هــي نائمــة هنــا؟ لماذا لا تنهض وتأتي إلى البيت؟
ثم قال وهو يشير إلى القبور: لماذا كل هذه البيوت صغيرة؟
اغرورقت عيناه بالدموع، وأعلن هزيمته أمام الأسئلة، وحـين طال صمته صاح الطفل: ماما...! ماما...! انهضي يا ماما...! ماما...!
أضاف حين لم يسمع جواباً: لماذا لا ترد؟
- إنها نائمة يا بني! لا تبكِ، سأحكي لك حكاية جميلة. قالها حين دخل الطفل في حقل البكاء.
رفض وتمرَّد، فما كان منه إلا أن حمله بين ذراعيه وعاد به إلى البيت رغماً عنه.
منذ أن فقد شريكته في الحياة وهو يأرق من الصباح إلى الصباح، يمتطي صهوة العذاب، ويدق باب النسيان، فيرجعه الرِّتاج، ومع صداه الذي يصدمه ينبثق أمامه وجهها الذي طالما هدهده في الليالي.
حياته أضحت بلا معنى... بلا هدف... بلا روح... حياة كالوباء... كالصمت السرمدي، ونفسه مفجوعة، مشروخة، ومشحونة بألف رغبة ورغـبة. أما وجهه، فهو دائماً منكسر وشاحب كلون أوراق الجرائد القديمة.
أيام عدة والطفل لا يمل من البكاء، يريد أن يكون كابن الجيران، يذهب مع أمه إلى الحديقة، يعانـقها وتعانقه، ينشد لها وتنشد له، يلثم وجهها وتضمه إلى حضنها الدافئ.
في ليلة لا تشبه الليالي، كان الأب يتقلب في فراشه، وحين وقعت نظراته على الطفل النائم في الجهة المقابلة، قال في نفسه: «يجب أن أبحث له عن أم أخرى، عندها سينسى وسيعود الدفء إلى هذا البيت».
لم يتأخر كثيراً عما أراد، دخل إلى البيت ومعه امرأة مرشحة لأن تكون أماً وزوجة.
قال بمرح: تعال يا «عبودي!» وسلِّم على ماما.
ترك طائرته الصغيرة ونظر إليها بعينين مجهدتين، فبدت له مثل كائن غريب، وفجأة انساب الهلع إلى قدميه الصغيرتين، وفي الشارع الواسع كان قلبه عصفوراً تحوَّل شدوه إلى شهيق خافت.