ونحن نشاهد حاليًا دخول العالم في مرحلة تغيُّر ناموسيّ لا مَحِيد عنه، ومسير الأحداث سيؤدي إلى تغيُّر كبير في خارطة العالم، واستهداف الإسلام في هذه المرحلة بصورة شاملة،
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه،
وبعدُ:
جاء في كتاب
«الملاحم»
لأبي
داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«إنَّ
اللهَ يبعثُ لهذه الأُمَّةِ على رأسِ كلِّ مائةِ سنةٍ مَن يُجدِّدُ لها دينَها».
وهذا الحديث كما يُؤخَذ منه بشارة لهذه الأُمَّة بأن الله يبعث مَن يُعيد للأمة
حيويتها ونشاطها، ويشحذ من همتها؛ فإن المَلْمح الآخر هو أن أحوال الأمم الأخرى
أيضًا تأخذ في التغيُّر؛ فالعالم مترابط، وفي حركة مستمرة وَفْق سُنن التداول
والتدافع وتسليط الله الظالمين على بعض؛ فعلوّ دولة أو عدة دُوَل يكون على حساب
أخرى، كما في قول الله -تعالى-:
{وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران: 140]
وقوله
تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ
وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 152]،
وقوله
تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِـمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129].
ونحن نشاهد حاليًا دخول العالم في مرحلة تغيُّر ناموسيّ لا مَحِيد عنه، ومسير
الأحداث سيؤدي إلى تغيُّر كبير في خارطة العالم، واستهداف الإسلام في هذه المرحلة
بصورة شاملة، بل واستفزاز المسلمين بمسرحيات حَرْق القرآن الكريم سيدفع العالم
الإسلامي دفعًا لمسيرة تجديد وانبعاث لا يمكن الوقوف في وجهها، والرابح هو مَن
يختاره الله للذَّوْد عن حِمَى دِينه.
وليس صدفة أن مسرحيات حرب الحجاب، والتنقُّص من الرسول صلى الله عليه وسلم ، وحرق
المصحف الشريف؛ تركَّزت في أوروبا الغربية التي تزاوج بين الليبرالية المتطرفة التي
تُفرض على شعوبها، وبين الروح الصليبية المسيطرة على الوجدان الأوروبي العلماني في
مُفارَقة جديرة بالتأمل، والذي يهمنا هنا أن نعي أنَّ التوتر العالمي يتَّجه
للتَّركُّز في مجال حيوي واحد لحسم الصراع، وهو الساحة الأوروبية.
وسنحاول في هذه العجالة بيان مسار الأحداث، ومحاولة تحليلها، ونبدأ بنتائج السنة
الماضية من الصراع الروسي الأمريكي وأبرز التحولات.
كان من الواضح أن المخطط الغربي بقيادة أمريكا يهدف إلى إحكام الحصار على روسيا، مع
أن الضجيج كان موجهًا ضد كوريا الشمالية والصين؛ في محاولة لترويضهما، ولكنَّ الذي
حدث أن الروس لم يقبلوا الانتظار حتى إحكام الحصار بضمّ أوكرانيا لحلف الناتو
وإدخالها الاتحاد الأوروبي، وإسقاط النظام الموالي لموسكو في روسيا البيضاء، وكان
رفض التزام الغرب بضمان عدم ضم أوكرانيا للحلف الغربي مبررًا كافيًا لدفع الروس
للمغامرة بالدخول العسكري؛ من أجل إسقاط النظام الموالي للغرب، وتنصيب نظام تابع
لهم، وتبين أن الغرب قد استعدَّ لهذه الخطوة مسبقًا؛ فهو الذي دفَع الروس واستدرجهم
للمستنقع الأوكراني.
وقد اعترفت المستشارة الألمانية ميركل بأن الغرب وقَّع على اتفاقية مينسك؛ فقط لكسب
الوقت، ولذا فقد كان الجيش الأوكراني مجهزًا، بل والعقوبات الاقتصادية التي
فُرِضَتْ تباعًا كان مخططًا لها؛ كما ادَّعى الروس لاحقًا.
ومن الملاحظات على المرحلة السابقة: تفرُّد أمريكا برَسْم خارطة الصراع؛ من منع
الأوكرانيين من التفاوض مع الروس، وعرقلة أيّ اتفاق، وفرض عقوبات شاملة على روسيا؛
من تجميد ودائع الحكومية الروسية، بل وتجاوز ذلك إلى ودائع وممتلكات الأفراد، وحتى
إجبار الأوروبيين على الاستغناء عن الغاز والبترول الروسيّ، حتى بتفجير أنابيب نقل
الغاز الروسي، وبدون توفير بدائل مناسبة؛ ممَّا أدَّى إلى أزمة طاقة في أوروبا
نَتَج عنها أزمة اقتصادية خانقة ومصاعب جمَّة للشركات الصناعية التي باتت عاجزة عن
منافسة الشركات الصينية والأمريكية.
وهنا لنا وقفة؛ ففي بداية الصراع كان واضحًا أن الصين هي المستفيد الأكبر من
الأزمة، وحصلت على صفقات تفضيلية من روسيا، وأصبحت الصين محل تجاذب بين الخصوم،
وبعد رحلات الاستفزاز الأمريكية لتايوان، وتسخين الوضع في الشرق الأقصى، والسماح
لليابان بتغيير عقيدتها العسكرية وبناء جيشها لمواجهة الصين وروسيا في المنطقة؛
صُدِمَ العالم بتبريد مفاجئ في العلاقات الصينية الأمريكية، وعودة الغزل ليحل محل
التهديد والوعيد، وكان آخرها تصريح وزير خارجية أمريكا، أنتوني بلينكن، بأن
الولايات المتحدة والصين نجَحتا إلى حدٍّ ما في التقليل من حدة التوتر في علاقاتهما
الثنائية. وتصريح الخارجية الصينية بأنه يجب على بكين وواشنطن العثور على طريقة
للتفاهم.
نعم! لقد تفاهموا، والدليل على ذلك: زيارة الرئيس الصيني للخليج، واجتماعه مع
الزعماء العرب. وحتى نعرف منهم ضحايا التفاهم الأساسيين، بالإضافة للروس؛ فيحسن بنا
متابعة تصريحات الرئيس الفرنسي المتوترة حول وقوع أوروبا بين فكَّيْ كماشة أمريكية
صينية، وكذلك كان مؤتمر دافوس الاقتصادي -الذي عُقِدَ بهدوء مع شِبْه تجاهل إعلامي
وحضور باهت- فرصةً لتُبْدِي رئيسة المفوضية الأوروبية
«أورسولا
فون دير»
مخاوفها، وطرح تصوُّر الاتحاد الأوروبي في مواجهة الممارسات التجارية غير العادلة،
سواء من واشنطن أو بكين.
وقالت:
«إننا
نشهد محاولات شَرِسَة لجذب قدراتنا الصناعية بعيدًا إلى الصين وأماكن أخرى».
نعم إنها ملامح خطة أمريكية لإضعاف الاقتصاد الأوروبي والتهامه بمشاركة الصين. ومن
الغريب أن المسؤولة الأوروبية لم تُشِرْ إلى روسيا؛ فالتبادل التجاري مع الروس قد
زاد خلال السنة الماضية رغم العقوبات المعلنة!!
نعود للحرب؛ فمع إعلان بايدن وقوف أمريكا مع أوكرانيا حتى إخراج روسيا؛ فإن أمريكا
كالعادة جمعت كتلة تشمل الناتو ومن أسمتهم أصدقاء أوكرانيا، ومن الغريب أن كمية
المساعدات المعلنة لا تتناسب مع شدة الصراع؛ فمن الواضح أن كمية السلاح والذخيرة
المنقولة لساحات المعارك أكبر بكثير من المعلن، وعلى حساب المخزونات الاستراتيجية
حتى المخزَّن لحماية دولة اليهود في فلسطين تم سَحْبه.
والذي يبدو لي أن الطرفين يخططان لصراع طويل المدى، واللافت للنظر أن أسلوب القتال
الأرضي يشبه إلى حد كبير تكتيكات الحرب العالمية الأولى؛ أي حرب مدفعية في الأساس،
وهذا يرجع إلى توفُّر الأسلحة المضادة للدبابات الحديثة والفعَّالة، وما نشهده
حاليًا هو قيام الروس بعملية استنزاف للأوكران بشريًّا وماديًّا؛ فمخزونهم البشري
محدود والأسلحة والذخيرة غالبها مقدَّم من الغرب، ولذا فهناك عمليات تجنيد إجباري
للأوكران اللاجئين في أوروبا.
والذي يهم أن الحرب قد تدخل مرحلةً جديدةً، تتمثل في الحديث عن القرم؛ فقد ذكرت
صحيفة
«نيويورك
تايمز»
في تقرير لها -نقلاً عن مصادر مطلعة- أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بدأت ترى
أن أوكرانيا تحتاج إلى قدرات إضافية للهجوم على شبه جزيرة القرم. وهو ما يؤيده
ترديد الرئيس الأوكراني عزم كييف على استعادة القرم. نعم؛ إنها رغبة أمريكا في
الدخول في مرحلة جديدة للسنة الجديدة؛ تتلخص في نقل الصراع إلى مستوى جديد بإدخال
أسلحة جديدة وتوريط الدول الأوروبية بصورة مباشرة تدريجيًّا.
ولذا نلاحظ التركيز على أهمية إرسال دبابات
«ليوبارد2»
الألمانية لأوكرانيا، ومحاولة التملص من إرسال دبابات
«إبرامز»
الأمريكية بصورة فجَّة!!
وإذا عُدنا إلى مؤتمر أصدقاء أوكرانيا بحضور 55 دولة؛ نجد أن وزير الدفاع الأمريكي
-الذي ترأَّس الاجتماع- سرد في خطابٍ مكتوبٍ الدعم الذي سيُقدَّم لأوكرانيا، وذكر
عدد 59 دبابة لم يَذْكر نوعها، ولكنَّ الواضح من تصريحات وزير الدفاع الألماني أنهم
يريدون الدبابات أن تكون ألمانية، وهو يقاوم ويلفّ ويدور ويكرّر دبابة بدبابة، يعني
أمريكية مع الألمانية، ولكنَّ أمريكا تقول: إن دبابتنا تسير بوقود الطائرات، وإنها
معقَّدة جدًّا، وتحتاج إلى تدريب طويل، و...... وبالتالي لا بديل عن
«ليوبارد2».
ونعود إلى الهدف فـ59 دبابة لن تُغيّر موازين القوى، ولكن يبدو أنها سَحْب رِجْل؛
فبولندا وفنلندا متحمستان لإرسال ما لديهما من دبابات ألمانية، ولكنَّ المانع
الوحيد هو عدم سماح الألمان بذلك رغم تعرُّضهم لضغوط هائلة من أمريكا لافتعال صدام
ألماني روسي، والروس يُبْدُون حاليًا قدرًا كبيرًا من الحذر، وبشيء من التوتر مِن
اتساع نطاق الحرب قبل الأوان؛ فهم ضاعفوا عدد الجيش، وأجروا مناورات في روسيا
البيضاء، بل ونصبوا مضادات الطيران في أماكن استراتيجية في العاصمة موسكو؛ فالذي
يبدو أن السنة الحالية قد تشهد فصلاً آخر من الحرب التي إذا امتدَّت شرقًا كما تريد
واشنطن؛ فإنها بالتالي ستمتدّ غربًا وتعود أوروبا ساحةً لصراع شامل، وتكون فرصة
أمريكا للقدوم من جديد بدعوى حماية أوروبا العجوز، وهو ما يستدعي استماتة الطرفين
في تجميع الحلفاء، وعقد التحالفات السرية والعلنية، والذي يبدو أن العجوز تحتضر،
وسيكون الصراع على تَركتها على مستوى العالم؛ فهل نحن من التَّركة أم سيكون لنا
نصيب منها؟