للقرار مفهوم خاطئ عند الكثيرين؛ إذ يضعون النتيجة مكان القرار؛ فيظنون أن النتيجة هي قرارهم، وأن القرار أشبه بحكم القاضي الذي ينطق به على منصة القضاء!
عندما طُرِدَ إبليس من الجنة؛ كان ذلك المصير البئيس نتيجة قراره برفض السجود لآدم.
وعندما أُخْرِجَ الأبوانِ الكريمانِ من الجنة؛ كان هذا المصير المؤلم نتيجة قرار
استماعهما لنصيحة عدوّ لدود، ونُصْح العدو وخيم العاقبة!
وعندما كُتِبَ الخلود في جهنم على إبليس كان هذا المصير البئيس نتيجة قراره الأخرق
بمعاندة مولاه -جل في علاه-، وإصراره على محاجّة خالقه {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ}
[الأعراف: ١٢]، وَمُحَاجَّةُ الخالق في ذاتها انسلاخ من العبودية بغضّ النظر عن
كُنْه المحاجاة!
وعندما تاب التواب -سبحانه وتعالى- على الأبوين الكريمين كان هذا المصير المحمود
نتيجة القرار المحمود للأبوين أن يعترفا بخطئهما: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: ٢٣].
وعندما تقبل الله -سبحانه وتعالى- صدقة هابيل؛ كان هذا المصير الميمون لقرار هابيل؛
إذ قرر أن يقدم لربه خير ما رزقه -سبحانه وتعالى-.
كذلك عندما أحبط الله -سبحانه وتعالى- صدقة قابيل كان هذا المصير المشئوم نتيجة
قرار قابيل أن تكون صدقته وسيلة للتخلص من أقبح ما لديه.
وعندما وقعت أول جريمة قتل في البشر؛ كانت الجريمة مصير قرارين مشتركين:
القرار الأول/
وهو الجزء الأصغر، عندما قرر قابيل الشقي قتل هابيل التقي {لَأَقْتُلَنَّكَ}
[المائدة: 27].
القرار الثاني/
وهو الجزء الأكبر، عندما قرر هابيل التقي أن لا يدافع عن نفسه {لَئِنْ بَسَطْتَ
إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ}
[المائدة: 28].
ونتيجة هذين القرارين؛ كان المصير أشد بؤسًا، وهو مقتل الأخ الصالح هابيل -عليه
رحمة الله- على يد شقيقه الطالح قابيل.
وما إهلاك بني راسب، وعاد، وثمود، وسدوم، ومدين، ومن تبعهم إلا مصير عادل مترتب على
قراراتهم البئيسة بمعاندة نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، وغيرهم من الأنبياء
والمرسلين -على نبينا وعليهم وعلى ملائكته أشرف الصلاة والسلام-.
وما كانت نجاة قوم يونس إلا مصيرًا ميمونًا لقرارهم الميمون بالتوبة إلى الله
-سبحانه وتعالى-، وأتباع نبي الله يونس صلى الله عليه وسلم : {فَلَوْلَا كَانَتْ
قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا
كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 98]؛
فاتخاذهم قرارًا مخالفًا لقرار الأمم الأخرى غيَّر مصيرهم عن مصائر سائر الأمم
المكذبة!
وما كان ابتلاع الحوت ليونس -عليه الصلاة والسلام- إلا مصيرًا لقراره بهَجْر قومه
بغير أمرٍ من الله -سبحانه وتعالى-: {وَإنَّ يُونُسَ لَـمِنَ الْـمُرْسَلِينَ
139إذْ أَبَقَ إلَى الْفُلْكِ الْـمَشْحُونِ 140 فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ
الْـمُدْحَضِينَ 141 فَالْتَقَمَهُ الْـحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات: 139 - 142]،
وكما قال -تعالى-: {وَذَا النُّونِ إذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن
نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87].
وما كان تفريج الله -سبحانه وتعالى- عنه إلا مصيرًا ميمونًا لقراره الميمون بالتوبة
إلى الله -سبحانه وتعالى-، والإقامة على باب الإنابة، ولزوم مقام الاستغفار
والانكسار: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إلَهَ إلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ
إنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِـمِينَ 87 فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ
الْغَمِّ} [الأنبياء: 87، 88].
ولو تغيَّر القرار، لتغير المصير؛ كما أخبر تعالى: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ
الْـمُسَبِّحِينَ 143 لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:
143، 144].
وعندما اتخذ الأنصار -رضي الله عنهم- قرارًا بنصرة النبي صلى الله عليه وسلم ،
وإيوائه بين ظهرانيهم تغيَّر مصير البشرية جمعاء بهذا المصير، وليس مصير الأنصار
فحسب!
والخلاصة:
ما من مصيرٍ يصير إليه الإنسان إلَّا كان ثمرةً لقرارٍ اتخذه! ويؤكد الحقُّ -سبحانه
وتعالى- هذه السُّنَّة الإلهية بقوله -سبحانه وتعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لَا
يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
وكما قال -سبحانه وتعالى-: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا
نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}
[الأنفال: 53].
فالتغيير الحاصل لنا من خير لشر، أو من شر لخير ما هو إلا ثمرة قرارنا، ونتيجة
عادلة له.
وكما قال -سبحانه وتعالى- مؤكدًا على هذا المعنى في الحديث القدسي:
«يَا
عِبَادِي! إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ
إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا، فَلْيَحْمَدِ اللهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ
ذَلِكَ، فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ»[1].
وخلاصة الحديث القدسي: مصائركم نتيجة قراراتكم العملية!
وللقرار مفهوم خاطئ عند الكثيرين؛
إذ يضعون النتيجة مكان القرار؛ فيظنون أن النتيجة هي قرارهم، وأن القرار أشبه بحكم
القاضي الذي ينطق به على منصة القضاء!
فيتساءل هؤلاء متعجبين: كيف يكون هذا! ونحن نعاني من مصائر لم نقررها ولا نرتضيها
البتة!
فكيف اتخذنا هذه القرارات البئيسة التي نعاني منها شر المعاناة!
أقول لكم: هذا من سوء فهم لمعنى:
«اتخاذ
القرار»!
يُعلّمنا النبي صلى الله عليه وسلم المعنى الصحيح لاتخاذ القرار؛ كما في الحديث
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ؛ قَالَ:
«كُلُّ
أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى«.
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ:
«مَنْ
أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى»[2].
فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنَّ كل الأمة تدخل الجنة إلا مَن اتخذ قرارًا
بعدم دخولها! فتعجب الصحابة -رضي الله عنهم- من هذا الكلام! مَن هذا الأحمق الذي
يمكن أن يتخذ قرارًا بئيسًا لهذا الحد؟! مَن هذا الأحمق الذي يمكن أن يتخذ قرارًا
بعدم دخول الجنة، والرضا بدخول النار؟ عياذًا بالله! فوضَّح لهم النبي صلى الله
عليه وسلم أنَّ دخول الجنة أو عدم دخولها ليس قرارًا؛ بل مصيرًا مرتبطًا بقرار
سابق!
القرارُ هو:
اتِّباَعُ النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو قرارٌ ملزمٌ بمصيرِ الدخول للجنة؛ -جعلنا
الله سبحانه وتعالى من أهلها-.
أو قرار: مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو أيضًا ملزمٌ بمصير دخول النار
-نعوذ بالله أن نكون من أهلها-.
وبناء على هذا قِسْ كل شيء في حياتك!
فالنجاح هو مصيرٌ مرتبطٌ بقرارٍ اتخذته أنت بصورة عملية عندما حدَّدت هدفك، ورسمت
الخطة لتحقيقه، وثابرت، واستعنت بالله -سبحانه وتعالى- وواصلت الليل بالنهار في
تنفيذ خطتك بانتظام نحو الهدف!
والفشل كذلك مصيرٌ مرتبط بقرار عمليّ اتخذته بإهمالك، أو تسويفك، أو عدم تحديدك
هدفك، أو تحديده بدون خطة، أو بخطة لا تتابع منطقيتها وجاهزيتها ومدى ملاءمتها
للواقع، ومدى التزامك بمراحلها.
وكذلك ترددك للذنب هو مصير مرتبط بقرار بقائك في المسار الذي أدَّى بك للذنب أول
مرة!
ولو كنت صادقًا في توبتك لسلكت مسلك قاتل المائة؛ إذ أطاع العالِم، وغادر بلدته
التي كانت بيئةً خصبةً لجرائمه المتسلسلة، وبحَث عن مسارٍ جديدٍ، ومجتمع مناسب
للحياة التي يرغب في عيشها! لأنَّ كل أسلوب من أساليب الحياة يقتضي مجتمعًا مناسبًا
له، ولا يناسب غيره ألبتة! فعلى كل إنسان صادق أن يختار المجتمع المناسب لأسلوب
الحياة الذي يرتضيه!
ألا وإن الانحراف لدليل دامغ؛
إذ نسبة المنحرفين أضعاف المستقيمين مع اختلاف نسبة الانحراف! فالسهر العابث،
وتبديد الثروات، والأوقات، وشرب الدخان بأنواعه، وإدمان الكحوليات بأصنافها، أو
المخدرات بأشكالها، وارتكاب الجرائم؛ كل هذه ما هي إلا من الصور المتعددة للانحراف!
وإذا سألت جميع المنحرفين في العالَم عن سبب انحرافهم ستجد إجابة موحدة: لا ندري
كيف وصلنا لهنا!
ألا إنَّ الانحرافَ بكل صوره ما هو إلَّا مصير عادل لقرارات مناسبة اتخذها أصحابها!
لا أحد يخرج من بيته، أو يدخل فيه، ويقول: بسم الله.. نويت الانحراف اليوم!
ولكن القرار بالانحراف يتخذه صاحبه عندما يصاحب مَن لا خَلاق له، أو عندما يعبث
بقنوات التلفاز، أو فضاء النت الواسع بلا هدف، أو عندما يسمح لنفسه أن يدخل أيقونة
بغير أيّ مبرر إلا أن أرباب الفساد العالمي ورعاته ألقوها له في طريقه، وغلّفوها
بما يجذبه لاقتحامها!
أو قرار أن يستيقظ بغير هدف يسعى لتحقيقه، وخطة مدروسة توصّله -بعون مولاه سبحانه
وتعالى- لهذا الهدف المنشود، ومواصلة الليل والنهار لمتابعة الخطة المدروسة لتحقيق
الهدف السامي!
هذه قرارات يتخذها الإنسان لا بلسانه؛ بل بكسله، أو إهماله، أو تسويفه، أو تخبطه!
فهو يتخذ قرارات بعمله أعمالًا خاطئة، أو بلا عمل للأعمال المفيدة، أو بعمله
الأعمال المفيدة بلا خطة، ولا دراسة!
فلا سبيل ألبتة للنجاة سوى أن تتخذ قرارك الجريء!
ليس بلسانك؛ بل اجلس مع نفسك، أو مع مَن تأتمنه، حدِّد أهدافك الصادقة، رتّبها حسب
الأولويات، ضع خطة منطقية، ضع تقييمًا يوميًّا، وأسبوعيًّا، وشهريًّا، وربعَ
سنويٍّ، وسنويًّا لهذه الخطة المباركة، بحيث يمكن أن تُعدّل عليها بما يُحقّق
المصلحة الكبرى.
وإن لم تفعل فأنت قررت، نعم قررت أن تفشل! ألا فاقبلن المصير العادل لقرارك البئيس
بأن لم تفعل!
وما قراءة هذا المقال إلا مصير لقرار اتخذتُه أنا -بعون الله سبحانه وتعالى- بقطع
العزلة، والخروج من الدوامة والعودة للكتابة، ولقرارك بقراءة المقال!
وأخيرًا تذكر جيدًا:
النجاح أو الفشل في كل المجالات الإيمانية، والصحية، والاجتماعية، والزوجية،
والاقتصادية، وغيرها من المجالات الحياتية ما هو إلا مصائر عادلة لقراراتك المسبقة
بفعلك، أو بترك فعلك، ولاختياراتك التي اخترتها، ولاختياراتك التي تركتها، فلا
تلومنَّ إلا نفسك!
المكان الذي أنت فيه الآن ما هو إلا مصير عادل لقرارك الذي اتخذته بالأمس!
وكذلك الغد لن يكون إلا مصيرًا عادلًا لقرارك الذي تتخذه اليوم!
وفي الوقت نفسه: تذكَّرْ أنَّ القرارَ لا يُتّخَذُ باللسان، وإنما يُتّخَذُ
بالأفعال!
مصيرك قرارك... قرارك بأفعالك لا بلسانك... أفعالك التي فعلتها، وأفعالك التي
تركتها
عدم الفعل، أو الفعل المتخبط أقوى قرار بالفشل!
قَرِّر اليوم! فإن لم تُقرِّر؛ فقد قرَّرت فشل المستقبل!
[1] حَدِيثٌ صَحِيحٌ؛ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ 21367، وَمُسْلِمُ 2577،
وَغَيْرُهُمَا.
[2] حَدِيثٌ صَحِيحٌ؛ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ 8728، وَالْبُخَارِيّ 7280،
وَغَيْرُهُمَا.