من أعظم الأسباب التي تصرف الكثير من المسلمين عن حفظ القرآن: العجلة في إتمامه في مدة قصيرة، فهو قد ضرب لنفسه أجلاً قريبًا ليحقق ذلك الهدف، مما يجعله لا يتقن الحفظ
لهم عدة سنوات في طريقهم لحفظ القرآن، وما زالوا لم يحققوا ذلك الهدف، سلكوا طرقًا
عديدة، وجرَّبوا سبلاً كثيرة، وساروا في العديد من المُجاهَدات، ولكنهم لم يصلوا
فانقطعوا عن المسير، ومنهم مَن يئس من حفظه، فترك المحاولة، وظن أن هذا الأمر ضربٌ
من المُحَال، واكتفى بالقراءة من المصحف دون استظهاره.
ولا شك أننا في هذا العصر الحديث قد أتاح الله لنا الكثير من الوسائل المعينة على
الحفظ من التسجيلات الصوتية لكبار القراء، وآليات التكرار في أجهزة الهواتف،
والمصاحف الإلكترونية ومجموعات التواصل، وهذه نِعَم تُذْكَر فتُشْكَر، بل تزيد من
عزم المرء في الحفظ.
وفي هذا المقال أستعرض مع القراء خبرات ومراجعات تكونت لي خلال عشرين سنة ماضية في
مجال حفظ القرآن، فرأيت أن أشارك بها القراء؛ لعلها تنير درب السالكين، وتُعين
الحُفّاظ على مواصلة المسير، لنكتشف الأسباب التي تجعل الكثير من المسلمين لا
يَصِلون لهدف حفظ القرآن وإتقانه، ونأخذ العبرة مِمَّن تعثر مِن قبلنا.
العجلة وعدم الصبر
من أعظم الأسباب التي تصرف الكثير من المسلمين عن حفظ القرآن: العجلة في إتمامه في
مدة قصيرة، فهو قد ضرب لنفسه أجلاً قريبًا ليحقق ذلك الهدف، مما يجعله لا يتقن
الحفظ، بل يسارع الخطى ليصل للأجل القريب، فإذا وجد حفظه سيئًا يَئِس من الإتقان،
فصرَف وجهه عن الحفظ، ورأى أنه من المحال، فلا بد للمرء أن يُوطّن نفسه على الصبر،
وليعلم أنه بعد ما يتم حفظه سيبقى سنوات حتى يصل لتثبيته وإتقانه، فختمة الحفظ
الأولى إنما هي الخطوة الأولى فقط في الحفظ وليست النهاية.
عدم الاهتمام بالمراجعة
هذا هو أساس ضعف الحفظ، وسبب تراجع النفس عن المُضِي قُدمًا في حفظ القرآن؛ فالمرء
يضعف حفظه ثم يذهب بالنسيان بسبب ضعف المراجعة وإهمالها، فالقرآن إن لم يتعاهده
المرء بالمراجعة ينساه، فينبغي للمرء أن يقدم المراجعة على الحفظ الجديد، فالمراجعة
هي كرأس مال التاجر والحفظ الجديد كالربح، فينبغي أن يعتني برأس المال ويقدّمه على
الربح.
الإكثار من مقدار الحفظ الجديد
وهذا من أعظم صور العَجلة، بل ومن تزيين الشيطان لينقطع عن المسير، وهذا يساهم في
ضعف الحفظ، ثم في ترك الحفظ بالكلية، ويُحْرَم المرء من كثرة التكرار؛ لأن مقدار
الحفظ إذا كبر كرره المرء قليلاً، فمنعه من إتقانه، وما يزال السابقون يتواصون
بتقليل المقدار في الحفظ مع كثرة تكراره، ولا شك أن مقدار الحفظ إذا كان قليلاً
كرره كثيرًا فأتقنه.
عدم التفطن إلى أنه مشروع العمر
وهذا بسبب العجلة في قطف ثماره، ولا يتفطن إلى أنه لن يصل لإتقانه إلا بعد طول عمر
في التكرار والمراجعة، فينبغي للمرء أن يجعله أحد مشاريع عمره، فلا يتعجل في حفظه،
فلا يحتاج للتفرغ الكامل، بل يقوم به وهو يمارس جميع أنشطته، فيمضي في حفظه مع
قيامه بسائر أموره، فيحققه مع مرور الأعوام، فلا يهتم أن يصل لتحقيقه اليوم أو
غدًا، ونحن نشاهد مرور الأعوام ولا يحقق المرء من أهدافه الدنيوية شيئًا، ولو أن
المرء سار في تحقيقه كل يوم شيئًا قليلًا لحققه مع مرور الزمان.
عدم التلذذ بالمراجعة والحفظ
فهو يراجع دون حضور قلبه لمعانيه، وهذا يجعل المرء يسأم من الحفظ والمراجعة، وهذا
بسبب ضعف التدبر لكتاب الله، وغياب الترتيل وتحسين الصوت في القراءة، والتلذذ
بالمراجعة يهوّن عليه كثرتها وتكرارها. إن لذة المراجعة إذا شعر المرء بمعاني ما
يتلو، وعاش في ظلال معانيه، وذاق لذة الترتيل؛ لم ترهقه كثرة الأجزاء التي يراجعها،
بل يتنعم بها ولا يملّ من طول صحبته.
عدم الاستفادة من القراءة في السنن
يصلي المسلم الكثير من السنن الراتبة وغير الراتبة في يومه وليلته، وفي هذا فرصة
للمراجعة، لو جعل لكل ركعة يصليها صفحة من ورد المراجعة لراجع كثيرًا، بل هذا قد
يكفي لمراجعة جزء كل يوم أو أكثر، ولا شك أن توزيع المراجعة على أوقات متباعدة يذهب
عن النفس السأم، لا سيما إذا زاد ورد المراجعة مع مرور الأعوام، وإذا فوَّت المسلم
تلك الفرصة، يضيع منه فرصة للتكرار والمراجعة.
عدم الاستفادة من الأوقات الضائعة
هناك الكثير من الأوقات الضائعة مثل أوقات الانتظار وأوقات المواصلات والأوقات
البينية؛ وأوقات الذهاب للصلاة والإياب منها، فلو صُرفت تلك الأوقات للحفظ
والمراجعة لأثمرت ثمارًا يانعة، وأظهرت نتائج رائعة، فهناك من العلماء مَن كان
يراجع وِرْده في طريق ذهابه للصلاة مثل الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-؛ فالغفلة عن
هذه الأوقات تُضيّع من المسلم فرصةً عظيمةً لحفظ بعض القرآن ومراجعته، بل إن قضاء
تلك الأوقات في المراجعة تزحزحه عن الذين هجروا كتاب الله هجر قراءة.
الغفلة عن العمل بالمحفوظ
وهذا مما يجعل المرء يزهد فيما حفظه، فيرى ما حفظه قليلاً، ولم يكن هذا من دأب
السلف، فتجد المرء يهتم بالإكثار من الحفظ مع عدم العمل بما حفظ، ولا شك أن العمل
بالمحفوظ يعين على زيادة المحفوظ وشدة إتقانه، ويُشعر المرء بقيمته، فالهدف مِن
حِفظ المسلم القرآن هو العمل به، وليس إكثار الحجج عليه بكثرة الآيات المحفوظة.
المثالية في الحفظ
فالبعض لا يرضى بالأخطاء في بداية حفظه ولو كانت يسيرة، فلا يقبل في حفظه أيّ خطأ،
فتجده يحزن إذا لم يصل للحفظ الجيد، ويهتم بمعرفة المتشابهات في البداية، فإذا لم
يجد الثمرة المرجوة من الحفظ المتقن ينقطع، فلا بد أن يَرضى بالحفظ المنقوص في
البداية، ويصبر حتى يتمه مع مرور الأيام، فالبنيان لا يكتمل إلا مع مرور الزمان.
كثرة الطرق التي يسلكها
كلما سمع أو قرأ عن طريقة جديدة للحفظ سلكها، فيتابع الجديد من الكتب والمقالات
والمقاطع المرئية التي تتحدث عن شتَّى الطرق، فلا يستقر على طريقة محددة في الحفظ،
ولا شك أن هذا سيَحرم المرء من الوصول للحفظ، ومن أجمل ما قيل:
«مَن
بُورِكَ له في شيء فليلزمه»،
فصَبْر المرء على طريقة واحدة في الحفظ يجعله يصل للحفظ الجيد مع مرور الأعوام،
ويتلافى عيوبها، وكثرة تجريب الطرق العديدة للحفظ يُشتّت الجهد ويضيع بعض الوقت.
عدم الاستفادة من الصحبة الصالحة
لماذا لا يتعاون المسلم مع أحد أصحابه في المراجعة والحفظ؟ الكثير يودّ أن تكون
أوقاته مع أصحابه مملوءة بالأحاديث غير المهمة والمسامرات، وهذا يُضيّع من المرء
فرصة في الاستفادة منها في حفظ القرآن، فينبغي للمرء أن يجعل صديقه عونًا له في حفظ
القرآن، ولا يهتم بالإكثار حتى لا يسأما وينقطعا، فخيرُ العمل ما دَاوم عليه صاحبه
وإن قلَّ؛ فالعمل الجماعي يهوّن من مشقة العمل الفردي.
مقارنة النفس بالآخرين
فنجد البعض يريد أن يصل لحفظ القرآن في وقتٍ قصيرٍ مثل ما شاهَد من أحوال غيره،
فيقيس نفسه بغيره، مع أن قدراته تختلف عنهم، وظروفه ووقته المتاح ليس كغيره، فينبغي
للمرء أن يعرف قُدُراته وظروفه فيعمل وفقًا لها، ولا يكلف نفسه ما لا يستطيع.
تلك بعض الدروس التي تنادي الحافظ وهو في طريقه للحفظ أن يصبر ولا يتعجل، وأن يهتم
بالمراجعة ويقدمها على الحفظ الجديد، ويستفيد من الفرص المتاحة كالمراجعة في صلاة
السنن، والاستفادة من الأوقات الضائعة ومن الصحبة الصالحة في الحفظ والمراجعة، وأن
يهتم بالعمل بما حفظ، ولا يتعجل في قطف ثمار مشروعه قبل أوانه، مع تقليل مقدار
الحفظ اليومي وكثرة تكراره..
تلك كانت أبرز الدروس المستفادة من تعثُّر الكثير من طلبة العلم والصالحين في حفظ
القرآن، وفّقنا الله وإياكم لحفظ كتابه والعمل به.