إذا كان لفقهاء السلف موقف حق من مظاهر الانحراف الفلسفي تجاه هؤلاء وأمثالهم؛ فإن علماء آخرين ربما بالمئات غير هؤلاء يُعدُّون من علماء حضارة الإسلام ممن شهد لهم الفقهاء وعلماء الشريعة والتاريخ بالعلم والصلاح
يُوضح البروفسور فؤاد سزكين كيف كان الجحود الغربي للتراث العربي الإسلامي بعلم
مُتعمّد أو بجهل مُركَّب غير مُبرَّر؛ حيث السرقة والانتحال الثابتة علميًّا لديه!
وهو ما يكشف عن مستوى العلمية والمعرفة بأصول التحقيق العلمي لدى المستشرقين، لا
سيما عن حقيقة انتقال حركة التراث والترجمة من التراث العربي الإسلامي إلى الغرب،
وربما التمس سزكين لبعضهم العذر، وذلك بقوله:
«كان
الغرب يُترجمون الكتب التي نقلوها عن المسلمين على أنها مؤلفات يونانية، ولم يكونوا
يفهمون تراث العلوم الإسلامية لعدم درايتهم بماهيّة الحقبة الماضية، وقد كتب بعض
المترجمين الأوروبيين الأولين الذين ترجموا عن المسلمين أسماء مؤلفين يونانيِّين
على تلك الكتب التي نقلوها عن المسلمين»[1].
وسزكين المُنصف يقول عن بعض الغربيين المنصفين:
«فإن
المنصفين من الغربيين من أصحاب الأخلاق العلمية يقومون بما لم نستطع نحن القيام به،
فينسبون الحق إلى أهله»[2]،
كما قال كذلك:
«لقد
كشف مؤرخ الرياضيات الألماني (أنطون فون براونمول
Anton von Braunmuhl)
النقابَ عن أن المؤَسِّسَ الحقيقي لعلم حساب المثلثات هو العالم المسلم (نصير الدين
الطوسي) الذي عاش في القرن الثالث عشر الميلادي، أي قبل قرنين من الألماني (جونس
ريجيمونتانوس
Jonhannes Regiomntanus)
الذي عاش في القرن الخامس عشر الميلادي، ونُسِبَ إليه تأسيسُ ذلك العلم»[3].
ونَقَلَ سزكين في الوقت ذاته إعجاب بعض علماء الغرب واعترافاتهم وعدم جحودهم –وهم
قلة- مثل ما قاله عن:
«(فرانز
فبكة
Woepcke)
-تلميذ المستكشف الألماني (ألكسندر فون هومبولت
Aleksander von Humboldr)-
الذي أُرسِل إلى باريس للعمل والدراسة إلى جانب عائلة (سديو)، ولقد غيَّر (فبكة)
وجه تاريخ الرياضيات بفضل دراساته في هذا المجال؛ إذ كان لدراساته تأثيرٌ كبيرٌ
لدرجة أن الفرنسيين بدؤوا يُقبِلون ويعترفون بقيمة تاريخ العلوم الإسلامية منذ ذلك
التاريخ، ويحظى تاريخ الرياضيات الإسلامية بمكانةٍ رفيعةٍ بين العلوم، ولقد غيَّر
(فبكة) أوجه تاريخ الرياضيات بفضل أربعين دراسة أجراها في هذا المجال، ففي الوقت
الذي كان الجميع فيه يعتقد أن المسلمين لم يتخطوا المعادلات من الدرجة الثانية حتى
ذلك التاريخ، برهَنَ (فبكة) على أن المعادلات من الدرجتين الثالثة والرابعة كانت
تُعتَبَرُ مسائل طبيعية للغاية بالنسبة للمسلمين، والعدد (صفر) الذي لم يكن يعرفه
الإغريق، والعناصرُ المُثلَّثِيَّة التي تطوَّرَت في الهند قد انتقلت إلى العالم
الإسلامي عبر الترجمة»[4]،
وإذا كانت هذه الحالات الاستثنائية في الإنصاف لبعض علماء الغرب فإن الواقع العام
لكثير من المستشرقين يشهد بغير هذا.
ويعلق الأستاذ طاهر صيام حول محاولات الغرب المتعصب تكريس جحودهم تجاه فضل التراث
العربي الإسلامي ودوره في يقظة أوروبا وصحوتها المعرفية، وذلك من خلال اختطاف كثيرٍ
من العلوم والمعارف وتدوين سبق الغرب فيها، إضافةً إلى سرقة بعض المخطوطات
بالانتحال، مع مزاعم أخرى في السبق العلمي للإغريق اليونان، وذلك في ورقته العلمية
(جحود الغرب والإمبريالية المعرفية)، ومما كتبه عن هذا بصورة مختصرة مفيدة:
«من
الأمور السائدة في الثقافة الغربية اليوم نسبة النهضة العلمية المعاصرة إلى جذور
يونانية بعيدة تبعد عنها قرونًا متطاولة، مع إبراز فلاسفة وعلماء ليسوا أحقَّ مَن
يُذْكَر في النسيج المعرفي المعاصر، مع أن هذه الجذور اليونانية استفادت من غيرها
وأخذت منها، بل إن الفضل في التأثير المباشر على النهضة المعاصرة يعود إلى حضارة
أخرى، فما هي هذه الحضارة؟ ولماذا يتعمّد الغرب تجاهلها وجحودها؟»[5].
وفي عموم هذه الورقة بعناوينها المتعددة للباحث طاهر صيام ما يُسلِّط الضوء بشمولية
عن عنوانها الرئيس، وقد أكد على بطلان المزاعم والدعاوى الغربية بأن الحضارة
الغربية امتداد لليونان والرومان! وأوضح أسباب هذا السلوك الغربي بأنه في الغالب
ناتج عن إيمان عموم الغرب بفوقيته وسبقه العلمي المطلق المزعوم، وذلك بقوله:
«لقد
نعق الغربُ بكل دعوى لَيًّا لكل حقيقةٍ، فساعةً يصورون في خطابهم الداخلي الشوفيني
أن الحضارةَ الغربيةَ ما هي إلا امتدادٌ سلسٌ للإغريقِ والرومانِ مَرَّت بنكسةٍ
ونُعاسٍ ثم واصلت إشعاعَها...! وساعاتٍ يُصرون على أن العربَ مجردُ ناقلينَ أمينينَ
لعلوم اليونانِ، استردت منهم أوروبا إرثها القديم، متنكبين لحقيقة تنطق بأن أوروبا
تتلمذت زهاءَ خمسة قرونٍ على يد المسلمين، فلولا علومُ المسلمين لما دارت عجلة
النهضةِ الأوروبيةِ»[6].
كتب الدكتور يوسف السويدي عن الاستقلالية العلمية لدى المسلمين، وأنهم لم يكونوا
ناقلين لعلوم من سبقهم بقدر ما كانوا مستفيدين منها مبتكرين ومطورين ومبدعين، وقد
استدل بما كتبه سارتون، ومما قال:
«ابتدأ
علماء المسلمين باهتمامهم بجمع العلوم من الحضارات السابقة، وبعد أن استوعبوها
بدأوا بحضارة جديدة وعلوم متعددة، فألفوا العديد من الكتب في حقول شتى، وكانوا
السباقين إلى الكثير من العلوم المعروفة الآن. ويقول سارتون:
«إن
بعض الغربيين الذين يحاولون التقليل من شأن مساهمة المسلمين الحضارية، ويدَّعون أن
العرب والمسلمين لم يزيدوا على نقل العلوم القديمة ولم يضيفوا إليها شيئًا؛ يقعون
في خطأ صريح، إذ لو لم تنقل إلينا كنوز الحكمة اليونانية ولا إضافات العرب
والمسلمين المهمة عليها لتوقف سير المَدَنِيَّة بضعة قرون. والواقع أن المسلمين
أنقذوا العلوم القديمة وحفظوها من الضياع، وأضافوا إليها إضافات مهمَّة وأساسية»[7].
ويدخل في هذا الجحود كثير من أصحاب المزاعم والدعاوى من أعداء أو خصوم التفوق
العلمي الحضاري للمسلمين، وذلك بمحاولات حصر علماء الإسلام والمسلمين ممن برزوا
بالعلم التجريبي في علوم الطب والهندسة والفلك والرياضيات، وغيرها بأسماء
مُعَيَّنة، وأنهم كانوا ممن تأثر بالفلسفة أو الإلحاد، وأن لدى فقهاء المسلمين أو
علماء الشريعة موقفًا عقديًّا منهم، ويُوردون نماذج مثل ابن سينا رغم ما كُتب عن
توبته، وابن رشد، والكندي، والفارابي، والبيروني، وجابر بن حيَّان، ونصير الدين
الطوسي الذي أدخل التتار لبغداد.
وإذا كان لفقهاء السلف موقف حق من مظاهر الانحراف الفلسفي تجاه هؤلاء وأمثالهم؛ فإن
علماء آخرين ربما بالمئات غير هؤلاء يُعدُّون من علماء حضارة الإسلام ممن شهد لهم
الفقهاء وعلماء الشريعة والتاريخ بالعلم والصلاح، ومن الأمثلة على هذا النوع ممن لا
يمكن حصرهم أو إحصاؤهم كان زكريا القزويني في علم الفلك، والخوارزمي، والمقريزي،
وكذلك أسرة موسى بن شاكر الموصوفون بالعباقرة الثلاثة، وابن النفيس، وابن حزم
الأندلسي، والشريف الإدريسي، وابن الشاطر الذي كان مؤذنًا في المسجد الأموي،
وجغرافيُّو الخليفة المأمون المعنيون برسم خريطة العالم، والزهراوي الأندلسي، وقد
أشاد الذهبي بالزهراوي الأندلسي الذي ربما فاق ابن سينا في الطب –وهو أنموذج-، وذلك
حينما ترجم له فقال عنه:
«كان
من أهل الفضل والدين والعلم، وعلمُه الذي يسبقُ فيه علم الطب، وله فيه كتاب كبير
مشهور كثير الفائدة، سمَّاه: كتاب (التصريف) لمَن عجز عن التأليف، ذكره ابن حزم
وأثنى عليه، وقال: ولئن قلنا إنه لم يؤلَّف في الطب أجمعُ منه للقول والعمل في
الطبائع لنصدقن، مات بالأندلس بعد الأربعمائة. وصنَّفه ابن حزم من ضمن أعظم أطباء
الأندلس»[8]،
وعلماء الحضارة في الإسلام كثيرون يصعب حصرهم، وما اكتشفه سزكين وغيره يؤكد وجود
قوائم كثيرة من العلماء برزوا في ميادين العلوم التجريبية، وكانوا بالمئات، ولم يكن
معظمهم من أهل الاعتزال أو الفلسفة الإلحادية كذلك[9].
وإضافةً إلى هذا فبالرغم من اختلاف علماء المسلمين التجريبيين حول مدى الانحراف
لديهم ممن قيل عن معتقداتهم وانحرافهم فلا يُعرَف على وجه التحديد عن هؤلاء العلماء
التجريبيين من أنكر النبوة أو أنكر البعث ووجود الله؛ حيث بمجملهم يؤمنون بالله
ربًّا، وبالإسلام دينًا حسب معتقداتهم المنحرفة، كما لم تقم لأحدهم محاكمة ردة أو
مطاردة في حياتهم ومصادرة كتبهم أو إحراقها -كما كان في الغرب النصراني-، وكان
استيعاب المجتمع الحضاري المسلم لعلمهم التجريبي مع رفض عقائدهم المختلفة في بعض
جوانب الحياة العلمية والدينية مما يُمثِّل القِسْط والعدل[10].
ومع هذا الواقع فإن هذا لم يمنع من وجود حالات فردية أو متعددة أو حالات استثنائية
من أهل الانحراف العقدي من بعض الفلاسفة المسلمين، كما حصل مع ابن رشد أو غيره بسبب
قضية فلسفية، لكن التاريخ دوَّن عن كثير من هذه الحوادث أو الوصف بالإلحاد أو
الزندقة بأنها كانت من قِبل بعض الدول الباطنية كالدولة الفاطمية التي سَجَنت ابن
الهيثم على سبيل المثال.
ومن الجدير ذكره أن الدولة العباسية خصوصًا في صدرها الأول خصصت الرواتب
والورَّاقين للعلماء، وكذلك فَعَلت الدولة الزنكية بأن جمعت بين الفقه الشرعي
والرياضيات والفلك في الدعم والتشجيع! وقد استفاضت الأخبار عن خدمة مجالس العلم
ورعاية وتشجيع وبذل أمراء المسلمين للعلم والعلماء عبر عصور الحضارة الإسلامية، فمن
ذا الذي يجهل دور عمر بن عبدالعزيز وهشام بن عبدالملك وعبدالرحمن الداخل والحكم
ووالده عبدالرحمن الناصر -رعاة مكتبات الأندلس- والمنصور وهارون الرشيد والمأمون
وعلي بن يوسف بن تاشفين الذي وسَّع جامعة القرويين، وآل زنكي وآل أيوب بُناة
الحواضر العلمية والمكتبات في الشام ثم مصر، ثم آل قلاوون الذين كان لهم الجهد
الأكبر في تطور العلوم والمدنية في مصر، وكذلك محمد الفاتح الذي أجاد ست لغات،
وسليمان القانوني، وهذه النماذج ليست على سبيل الحصر حول تاريخ الانسجام الكامل بين
العلم والدين الإسلامي. وهذا كان خلافًا لما عُرف عن توافق في المواقف المتشنجة
للممالك الأوروبية وكنائسها آنذاك تجاه العلماء البارزين منهم في العلوم التجريبية!
حتى قال بعضهم عن هذا التوافق، لا سيما بعد التمرد على دينهم وملوكهم:
«اشنقوا
آخر ملك بأمعاء آخر قسيس!»[11]،
وقد كانت هذه المقولة شعارًا للثورة الفرنسية عام 1789م.
ومن الجدير بالتنبيه عليه أن كثيرًا من علماء عصر النهضة في أوروبا من الغربيين
جمعوا بين الفلسفة الإلحادية والإنسانيات أو العلوم التجريبية، ممن رفض كثير من
مجتمعات الغرب إلحادهم وقَبِل علومهم الرياضية والفلكية ومنهجهم التجريبي، فالحضارة
الغربية تعاملت مع (أينشتاين) باضطهاده بسبب فكره اليساري الشيوعي وما عُرف عنه من
(آراء اشتراكية)، وكان بعض مُفكري الغرب قد رفض منهج الشك عنده وفلسفته الإلحادية،
لكن في الوقت ذاته نُسب أينشتاين إلى الحضارة الغربية وجامعات زيورخ وكاليفورنيا
وبرينستون، ولم تمنع معتقداته في النهاية -رغم اضطهاد مكتب التحقيقات الفيدرالي له
وانتقاد فكره الفلسفي- من نسبة علمه التجريبي إلى رعاية الغرب ومؤسساته العلمية
والحضارية!
ولهذا فإن الازدواجية في المعايير غير مقبولة؛ حيث ينتقد بعض العلمانيين العرب بقوة
موقف طائفة من علماء الشريعة أو فقهاء المسلمين من أصحاب البدع الفلسفية والإلحاد
كابن سينا والرازي –على سبيل المثال-، لكن هؤلاء وأمثالهم يُعدُّون جزءًا من
الحضارة الإسلامية التي انبثقوا من محيطها العلمي المتكامل في العلوم الطبيعية
التجريبية وغيرها -وليسوا كل الحضارة-، بل إنهم كانوا نِتاج بيئةٍ حضاريةٍ علمية
كبرى تحت رعاية الدولة المسلمة بمكوناتها من باحثين متعاضدين ومكتبات وجامعات
وحواضر وورَّاقين كما سبق إيضاحه، ثم كيف يُحسب على عموم المسلمين وحضارتهم موقف
أو مواقف لبعض علماء الشريعة تجاه بعض الفلاسفة أو الملحدين من أبناء المسلمين أو
بعض علومهم!
ومما يُحسب من النقد الموجَّه لعلماء الإسلام موقف ابن تيمية -رحمه الله- تجاه
الكيمياء! علمًا بأن هذا النقد مردود عليه بالمعنى الذي قصده ابن تيمية، وهو أن
الكيمياء عند علماء المسلمين قديمًا له معنيان: السحر وغالبًا يقال السيمياء، والغش
بطلاء النحاس بالذهب وبيعه على أنه ذهب، وذلك باستخدام التفاعل الكيميائي بين الذهب
والنحاس، وهذا مما يقصده شيخ الإسلام ابن تيمية كما هو معلوم، وعن هذا قال القاضي
أبو يوسف:
«من
طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب غرائب الحديث
كَذَب، ويُروى هذا الكلام عن مالك والشافعي رضي الله عنهم أجمعين»[12]،
وكلا المعنيين مغاير لعلم الكيمياء القائم الآن والذي وضع أسسه علماء مسلمون
تجريبيون، وليس أدل على هذه المغايرة من قول ابن تيمية في الفتاوى:
«وهؤلاء
[الكيماوية] لا يُعدُّون أحد أمرين: إما أن يعتقد أن الذهب المصنوع كالمعدني -جهلًا
وضلالًا- كما ظنه غيرهم. وإما أن يكون عَلِمَ أنه ليس مثله، ولكنه لَبَّس ودلَّس،
فما أكثر من يتحلى بصناعة الكيمياء؛ لما في النفوس من محبة الذهب والفضة... وجماهير
العقلاء من الأولين والآخرين الذين تكلموا بعلم في هذا الباب يعلمون أن الكيمياء
مشبه، وأن الذهب المخلوق من المعادن ما يمكن أن يصنع مثله؛ بل ولا يصنع، وكل ينكشف
قريبًا، أو بعيدًا؛ ولكن منه ما هو شديد الشَّبَه، ومنه ما هو أبعد شَبَهًا منه»[13].
ومن الإنصاف العلمي القول: إنَّ الحضارة الإسلامية في تفوقها في العلوم التجريبية
والتطبيقية أكبر من أخطاء أفراد من علماء حضارة الإسلام كانت لديهم أخطاء فلسفية
عقدية! أو حتى اجتهادات لعلماء وفقهاء معتبرين في الشريعة في أي عصر من العصور! ومع
هذا فإن لمواقف كثير منهم تفسيرها الذي سبق إيضاحه بأنموذج ابن تيمية، وليس هذا
بموضع بسط الكلام عن هذا الموضوع الكبير.
من تاريخ الغرب مع العلم والعلماء:
كانت بعض علوم الغربيين التجريبية مرفوضة عند بعضهم خاصة من رجال دينهم وملوكهم
آنذاك، بل إن بعض علمائهم كان قبل القرن السابع عشر الميلادي من ألدّ الأعداء
بتسفيه كنائسهم –وكانوا على حق في ذلك-، ومع هذا بقي هؤلاء وأمثالهم محسوبين على
حضارتهم الغربية، وفي المقابل فلا غرابة أن يرفض المسلمون علوم بعض علمائهم في
الفلسفة وما يُخالف ثوابت الدين، أما أقوالهم وعلومهم الأخرى في المجالات التطبيقية
في الطب أو الرياضيات والبصريات وما شابهها، فقد كانت مقبولة تبناها الخلفاء
ومكتبات الحضارة الإسلامية، وأشاد بها تاريخ الإسلام عبر العصور.
وعن التأكيد حول ما سبق عن فظائع الغرب الكبيرة تجاه علمائه بما لا يُقاس عليه بحال
موقف فقهاء الإسلام من بعض علماء الإسلام التجريبيين، فالقراءة عن محاكم التفتيش
الكنسية –غير محاكم الأندلس- كافية في إدراك حجم رفض العلوم والمعارف لديهم ملوكًا
وكنائس؛ حيث كانت تَحكُم بالهرطقة على كل من يخالفها في العلوم الفلسفية والطبيعية،
وذلك بالسجن أو قطع اللسان أو الحرق باتفاق بين الكنيسة والملوك، والمقصود بالهرطقة
عندهم العلوم والمعارف التطبيقية والتجريبية، وعن هذا أورد الدكتور سلطان العميري
في بحثه المؤصَّل (ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث) حول محاكمات علماء
الغرب مع بداية عصر النهضة الأوروبية (1400م، 1500م) القرنين الخامس والسادس عشر،
وفيه قال:
«يُعدُّ
الفيلسوف جيوردانو برونو (1600م) من أقوى فلاسفة القرن السادس عشر، وقد اطلع على
الفلسفة اليونانية، وتبنَّى نظرية ديمقريطس الذرية، التي تقول: إن الكون مكون من
عدد لا نهائي من الذرات، وتبنى آراءً عديدة خارجة عن القانون الكنسي؛ كتبنِّيه
نظرية كوبرنيكوس في إثبات دوران الأرض، وتبنِّيه القول بأن الشمس هي مركز العالم،
وقد قبضت عليه محاكم التفتيش، وحكمت عليه بالإعدام حرقًا بالنار. وأما على مستوى
العلوم التجريبية؛ فقد شهدت الساحات الغربية في هذه المرحلة ثورة هي من أكبر
الثورات العلمية التي هزَّت مكانة الكنيسة هزة عنيفة، وكان لها أثرٌ مُدوٍّ في
الساحة الفكرية، تلكم هي الثورة الكوبرنيكية، وهي ثورة ضخمة كبيرة، اشترك في
تطويرها ودفع عجلاتها شخصيات علمية متعددة، ابتداءً من الراهب كوبرنيكوس، الذي
قرَّر في نظريته أن (الشمس هي مركز الكون)، وأن الأرض هي التي تدور حولها»[14].
ويواصل الدكتور العميري سرد الأدلة عن محاكمات الغرب للعلماء التجريبين الغربيين من
قِبل الطوائف الكنسية من الكاثوليك والبروتستانت! وذلك بقوله:
«ثم
تفجرت النظرية (دوران الأرض) مرة أخرى في حدود سنة 1616م، على يد العالم الشهير
جاليليو، الذي وُصف بأنه من أعظم مؤسسي العلم الحديث، ولكنها هذه المرة كانت أكثر
وضوحًا وأوسع انتشارًا وأقوى ثبوتًا واستدلالًا، وقامت الطوائف المسيحية
–الكاثوليكية والبروتستانتية- بمحاربتها ومطاردتها في كل مكان، ومحاسبة كلِّ من
يعتنقها أو يؤيدها، ومنعوا تدريسها في الجامعات، وباتت مجرَّمةً غاية التجريم، ولم
يكتفوا بذلك وإنما عقدوا لجاليليو مجالس كَنَسية عديدة؛ لمناظرته، وإقناعه بترك
النظرية المشؤومة! التي تخالف عقيدة الكنيسة، حتى اضطر لإعلان تراجعه عن آرائه»[15].
وهذا ما يتطلب قراءةً أكثر عن الانفصام بين الدين والحياة في المجتمعات النصرانية
لمعرفة الفروقات مع الإسلام وشمولية منهجه.
من مصادر الثورة العلمية الكبرى للعالم وموقف الكنيسة:
تُوضح الكتابات التاريخية عن الثورة العلمية التي كانت ببعض دول الغرب بأن صحبها
ردود أفعالٍ عنيفة، كما كان للمسلمين فضل السبق فيها، ومن ذلك ما كتبه الباحث طاهر
صيام عن الثورة الكوبرنيكية وأصولها العلمية وآثارها حسب المصادر الغربية للباحث،
ومما قال عنها:
«فضل
المسلمين على الثورة الكوبرنيكيَّة العلمية الكبرى، في عام 1500م أعلن كوبرنيك
نظرية (مركزية الشمس ودوران الأرض)، فكانت من أكبر الثوراتِ العلميةِ والتجريبيةِ
التي هزّت مكانةَ الكنيسة، وكان لها أثرٌ مدوٍّ في الساحة الفكرية، وغيّرت مسارَ
الفكرِ والعقل الأوروبي ونظرةَ الناسِ إلى مكانة الكنيسةِ العلميةِ، وإلى
اللاهوتيةِ وعلوم اليونان فاتحةً الطريق إلى عصر تقديس العقل والتجريب ومذاهب
التنوير والحداثة. وقد اشتركَ لاحقًا في تطويرِها ودفعِها شخصياتٌ علميةٌ، فسُجِنَ
على إثرِها (غاليلو) وحُرِقَ (برونو)، وطاردت محاكمُ التفتيشِ كلَّ مَن يهمسُ بها.
واعتُبر كتاب كوبرنيك حول (دورانِ الأفلاك) من أهم الكتبِ التي غيّرت وجه التاريخ.
لكن السؤال: مِن أين أتى كوبرنيك بذلك؟
لقد قامت نظريته على نماذجَ فلكيةٍ عربيةٍ نُقلت من الطوسيّ وابنِ الشّاطرِ، فيما
كان الكاتب الأول الذي وضع نقدًا منهجيًّا للنموذج الفلكي الأرسطي ثم البطلمي هو
ابن الهيثم في كتابه (الشكوك على بطليموس). كما صرّح دونالد هبل بأن كوبرنيك
اقتبسَ عن كل مِن البتاني والزرقالي في كتابه (دورة الأفلاكِ). كما نوّه المؤرخ
الألماني ويلي هارتنر وإدوارد كينيدي بأن كوبرنيكوس استعملَ في كتابه رسمًا مماثلًا
جدًّا لرسمٍ موجودٍ في كتاب الطوسي (تذكرة في علم الهيئة)»[16].
وعن مواقف الغرب من العلم التجريبي بالتكفير والتعذيب والقتل للعلماء خلال قرون
أوروبية طويلة من الزمن كتب الدكتور سلطان العميري عن موقف الكنيسة بقوله:
«أصدرت
الكنيسة بيانًا تُدين فيه نظرية دوران الأرض، وحكمت فيه عليها بالبطلان والفساد،
وجاء فيه:
«من
حيث إن القضية الأولى، وهي أن الشمس ثابتة في مركز الكون، وأنها لا تدور حول الأرض؛
فقضية سخيفة معتلة، مردودة لا يُقرها الدين، وهي زيغ وكفر؛ لمناقضتها لما ورد في
الكتب المقدسة»...
وأصدرت بيانًا آخر، أدرجت فيه مؤلفات كوبرنيكوس في قائمة الكتب المحظورة، ومنعت من
تداولها؛ لزيغها عن الدين، وأدرجت معها كل الكتابات التي تقول بدوران الأرض، وظلت
كل هذه المؤلفات في القائمة السوداء، مدة تقرب من قرنين من الزمان، حتى رُفع عنها
الحظر نهائيًا عام 1863م.
ولم تكتفِ الكنيسة بذلك، بل مارست التعذيب، والتنكيل والإرهاب على العلماء الذين
أعلنوا تبني النظريات التي تخالف ما هي عليه؛ ففي القرن الخامس عشر، ظهر عالم مهتم
بالتاريخ الطبيعي اسمه (باقون)، وكانت له آراء طبيعية تخالف ما تعتقده الكنيسة،
فقامت بحملة عنيفة ضده، وهددته بالعذاب والقتل، حتى اضطر إلى التراجع عن آرائه،
وأعلن اعتذاره بقوله:
«أعلن
إقلاعي عن ما جاء في كتابي خاصًّا بتكوين الأرض، وجملةً عن كل ما جاء فيه مخالفًا
لقصة موسى»[17].
وحول هذا الصراع التاريخي بين الكنيسة والعلم كتب الدكتور سلطان العميري، قائلًا:
«وكانت
تلك العدائية للتقدم العلمي، من أكبر الأسباب التي أضرَّت بصورة الدين ورجاله
وتعاليمه، وَأَخَذَ كثير من الناس يربطون بين الدين والتخلف العلمي والفكري،
واعتقدوا أنه مُحارِبٌ لكل ما يؤدي إلى تطورهم ورفاهيتهم وسعادتهم، واستقر في
عقولهم أن الدين مُعَادٍ لكل ما يُخلِّصهم من الجهل والفقر والأمراض والأوبئة. كثير
من المعارضين للدين من الملاحدة وغيرهم، الذين كانوا مقموعين وشواذَّ في ذلك العصر،
استثمروا تلك الحالة العدائية، لينفِّروا الناس من كل ما يتعلق بالدين والتدين»[18].
وأقول مُعلِّقًا:
إن هذا الواقع للكنيسة ولممالك الغرب مع العلوم التجريبية لا يخرج عن كونه حالةً من
الانفصام بين العلم والدين الكنسي، وقد انتقلت هذه الحالة جهلًا إلى ملاحدة
المسلمين ليُسقِطوا واقع الغرب الديني المنحرف أصلًا مع العلم على الإسلام الذي
تَحثُّ عقيدته وتشريعاته على العلم وتشجيع العلماء وبصورة تختلف جذريًّا مع الدين
الكنسي؛ حيث الواقع التاريخي يختلف عند المسلمين، فدينهم وممالِكهم المتعاقبة عبر
التاريخ كانت محفِّزًا للعلم وخير مشجّع وداعم، بغضّ النظر عن مواقف محدودة لبعض
فقهاء الإسلام وعلماء الشريعة عن بعض العلماء التجريبيين، وبعضها كان مُحِقًّا، كما
أن بعضها الآخر لها تفسيرها أو مُبرّرها الذي يطول شرحه، وموضوع اتهام ابن تيمية في
موضوع الكيمياء يُعدُّ أنموذجًا!
ومما قال سزكين عن أبرز هذه الشبهات المثارة حول تفوق المسلمين في العلوم
التجريبية وأن الاتهام بالاعتزال والعقلانية لبعض علماء الإسلام في العلوم
التجريبية لم يمنع من الاستفادة من هذه العلوم والإشادة بحضارة الإسلام من أعدائه
وأنصاره، كما أن منظومة العلم والعلماء في الحضارة الإسلامية أكبر من أشخاص فقط، بل
كانت جوامع وجامعات وحواضر ومكتبات كدار الحكمة والزيتونة والقرويين وقرطبة ودمشق
وبغداد بأقوال واضحة عن حضارة أمة الإسلام بعيدًا عن الاختزال ببعض الأفراد أو بعض
المواقف منهم، وذلك بقوله باختصار:
«أنتم
تحبُّون المعتزلة على ما يبدو، وأنا لا أحمل كراهيةً لهم؛ إذ يطلق عليهم لقب
الجماعة العقلانية، وبينهم أناس عظماء، لكننا يجب علينا أن ننظر إليهم على أنهم
ظاهرة وجزءٌ من حضارةٍ نامية، فيظهر على سبيل المثال عالم كـ(جابر بن حيان)، فيجتهد
في الذَّرِّيَةِ والتجربة وما إلى ذلك، فلا يجوز لنا أن نُبالغَ في ذلك أو نحتقره،
أي إنَّه ينبغي لنا اعتباره واحدًا من مظاهر الحضارة الإسلامية العظيمة المثيرة
للاهتمام... شَهِدَت الحضارة الإسلامية إنجازاتٍ كبيرة في مجالات الرياضيات
والفيزياء والفلك حتى في القرن السادس عشر، فأنتم لا تعرفون ذلك؛ فالكتب المدرسية
لا تعرض شيئًا سوى فكرة أن المسلمين لم ينجزوا شيئًا بعد عهد السلطان محمد الفاتح»[19].
ولهذه النصوص وما يُماثلها من أقوالٍ كثيرة وثرية حول الحضارة الإسلامية فإن جهود
فؤاد سزكين العلمية قد كشفت بوضوح حقيقة الحضارة الإسلامية وبعض هذه المزاعم
والدعاوى على المسلمين وحضارتهم وتراثهم، لا سيما عن السبق الحضاري للإسلام وتعدد
علمائه من المسلمين عبر العصور، وفي كتاب الدكتور عرفان يلماز (مُكتشف الكنز
المفقود فؤاد سزكين - وجولة ثقافية في اختراعات المسلمين) ما يثري حول هذه
الموضوعات وكذلك عن جهود سزكين في اكتشاف كنوز المسلمين المسروقة بالإخفاء
والانتحال، وهو الكتاب الذي يحسن قراءته وترجمته إلى لغات متعددة لإيصال حقيقة
الحضارة الإسلامية بتاريخها وتراثها للأجيال ولكل من ينشد الحقيقة.
[1] انظر: عرفان يلماز، مُكتشف الكنز المفقود فؤاد سزكين، ص107.
[2] انظر: عرفان يلماز، مُكتشف الكنز المفقود فؤاد سزكين، ص207.
[3] انظر: عرفان يلماز، مُكتشف الكنز المفقود فؤاد سزكين، ص207.
[4] انظر: عرفان يلماز، مُكتشف الكنز المفقود فؤاد سزكين، ص204.
[5] انظر: طاهر صيام، بحث بعنوان: (جحود الغرب والإمبريالية الغربية)، مجلة رواء،
العدد 13، بتاريخ رجب 1443هـ الموافق (فبراير 2022م)، ص34.
[6] انظر: طاهر صيام، بحث بعنوان: (جحود الغرب والإمبريالية الغربية)، مجلة رواء،
العدد 13، بتاريخ رجب 1443هـ الموافق (فبراير 2022م)، ص35.
[7] انظر: يوسف السويدي، الإسلام والعلم التجريبي، ط2، الكويت: مكتبة الفلاح للنشر
والتوزيع، 1420هـ (2000م)، ص113، وانظر:
Sarton,
The
History of
Science and New Humanism. 1956. P.73-75.
[8] انظر: تاريخ الإسلام للذهبي: ج6/ص463.
[9] انظر عن أنموذج من التعداد للعلماء التجريبيين المسلمين نماذج كثيرة من
العلماء: عرفان يلماز، مكتشف الكنز المفقود فؤاد سزكين، ص187-189.
[10] انظر: ساسة بوست، مقال بعنوان: (علماء مسلمون لكن ملحدون)، بتاريخ 27 ذو
القعدة، 1435هـ، الرابط التالي:
https://www.sasapost.com/opinion/muslim-scientists-but-atheists/
[11] انظر: سلطان العميري، ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث، ج1/ص57، نقلًا
عن ويل ديورانت وغيره.
[12] انظر: أحمد ابن تيمية، مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، جمع وترتيب:
عبدالرحمن بن قاسم وابنه محمد، المدينة المنورة: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف
الشريف، 1425هـ (2004م)،ج29/ص374.
[13] انظر كلام ابن تيمية المطول عن الكيمياء في: مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن
تيمية، ج29/ص374، 391.
[14] انظر: سلطان بن عبدالرحمن العميري، ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث،
الخبر: مركز تكوين للدراسات والأبحاث، 1439هـ (2018م)، الجزء الأول، ص62-63، نقلًا
عن: (تاريخ الفلسفة الحديثة، وليك كلي رايت ص50-59) و(تاريخ الفلسفة الغربية،
برنراند ج3/ص58-63) ومصادر أخرى.
[15] انظر: سلطان العميري، ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث، ج1/ص64، نقلًا
عن: (الدين والعلم برنراند رسل ص32/35).
[16] انظر: طاهر صيام، بحث بعنوان: (جحود الغرب والإمبريالية الغربية)، مجلة رواء،
ص33-37، نقلًا عن: (ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي، لسلطان العميري، ص 63). (كتب
غيرت وجه العالم ص 249) (العلوم والهندسة في الحضارة الإسلامية، لدونالد هيل، ص31)
(وماذا لو سرق الغرب أسس ثورته العلمية من علماء العرب؟ مقال الفلكي سليم زاروبي).
[17] انظر: سلطان العميري، ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث، ج1/ص68-69.
[18] انظر: المرجع السابق، ج1/ص70.
[19] انظر: عرفان يلماز، مُكتشف الكنز المفقود فؤاد سزكين، ص98-99.