• - الموافق2024/11/05م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
التداول الحداثي لنظرية المقاصد..دراسة نقدية(1)

التداول الحداثي لنظرية المقاصد..دراسة نقدية(1)


يقوم الاتجاه الحداثي على مبادئ مسلَّمة لديه لا يقبل التشكيك فيها أو التردد في قبولها، ويعتقد أن الأخذ بها والخضوع لها أمر محتَّم على الجميع، ويصف كلَّ من لم يأخذ بها أو لم يسلم لها بكل أوصاف الذم والتقبيح.

وأهم تلك المبادئ وأعظمها منزلة وأخطرها شأناً: مبدأ التاريخية الذي يعني: أن للأحداث والممارسات والخطابات أصلها الواقعي وحيثياتها (الزمانية والمكانية) وشروطها (المادية والدنيوية)، وخضوع البنى والمصطلحات والأفكار للتطور والتغير وإعادة التوظيف.

فهذا المبدأ يستفرد برأس الهرم في المنظومة الحداثية ويشكِّل البعد المعرفي الأكثر عمقاً وتقديساً في المشروع الحداثي.

ولأجل هذا لا يزال الخطاب الحداثي يسعى جاهداً إلى إحلال النظرة التاريخية في التعامل مع الشريعة الإسلامية والتراث القائم حولها بدل النظرة المطلقة التي يتعامل بها الفكر الديني كما يقول.

ولا يُخفي الخطاب الحداثي أنه يجد صعوبة بالغة في تأسيس تلك النظرة في العقل العربي المعاصر، ولأجل هذا يلجأ في أحيان كثيرة إلى المراوغة الفكرية؛ فبدل أن كان يتعامل مع التراث بنفسية القطيعة، وأنه شيء مختلف عنه ويمثل طرفاً آخر مبايناً له، أخذ في محاولة البحث عما يمكن أن يمثل جذوراً ولبنات تراثية يبني عليها النظرة التاريخية، وهذا التعاطي يمثل انعطافاً حاداً في الطرح الحداثي، ويكشف بصورة كبيرة عن مقدار الأزمة الانهزامية التي يعيشها الحداثيون العرب.

ومن الأبعاد الشرعية والتراثية التي وجد الخطاب الحداثي فيها منفذاً ينفذ من خلاله إلى تأسيس التأريخ الفكري لأنظمة الشريعة وأصولها وتفاصيل أحكامها (نظرية المقاصد).

ويستوقف القارئَ للمنتَج الحداثي كثرةٌ ملفتة من التداول الموسع لمصطلح المقاصد وحضور مكثف للمفاهيم التي ترجع إليها؛ فقد لقيت تلك النظرية اهتماماً واسعاً ونالت احتفاءً كبيراً في المحافل الفكرية والاجتماعات الحوارية لديه.

وانتهى الخطاب الحداثي من خلال الاعتماد على نظرية المقاصد إلى إهدار أحكام الشريعة التفصيلية والشرائع التكليفية، وتوصَّل إلى اعتبار أن أحكام الشريعة لم تشرع إلا لتحقيق مقاصدها، فهي تقوم مقام الوسائل بالنسبة للغايات؛ فأحكام الحدود لم تشرع إلا لردع مقترفي المعاصي، ومنع الربا لم يشرع إلا لتحقيق مقصد العدالة ومنع استغلال القوي للضعيف، وهكذا الأمر في كل حكم من أحكام الشريعة، فهي لا تحمل أي قيمة في ذاتها؛ وإنما قيمتها من جهة تحقيقها لمقاصدها، فإذا تحقق المقصد من غيرها بحيث إن العصر أو حاجة الناس أوجبت طريقاً آخر يحقق لنا المقصد منها فلا داعي للالتزام بها، ولا يبقى مبرر لاستمرارها، وهذا الحكم شامل لكل العبادات الشرعية؛ فالشريعة إنما جاءت بها لأنها هي التي تحقق أغراضها في زمن الرسالة، وهذا يعني أنها غير مقصودة بالتشريع إلا على جهة الوسيلة فقط[1].

ولأجل تحقيق مزيد من العدل والانضباط في نسبة هذا القول إلى الخطاب الحداثي لا بد من نقل بعض مقولاته الدالة على ذلك.

ومن أكثر من أَوْلى نظرية المقاصد اهتماماً: عبد المجيد الشرفي؛ فإنه انطلق من أن الشريعة تعيش في أزمة مع معطيات الحداثة المعاصرة، وأنه لا سبيل للخروج من تلك الأزمة إلا بالتخلص من المطْلَقَات التي لا تراعي اختلاف البيئة والتاريخ والمكان، وبيَّن أن التخلص من تلك المطْلَقَات المنافية مع الحادثة يتم عبر طرق منها: «ضرورة التخلص من التعلق المرَضِي بحرفية النصوص - ولا سيما النص القرآني - وإيلاء مقاصد الشريعة المكانة المثلى في سَنِّ التشريعات الوضعية التي تتلاءم وحاجات المجتمع المعاصر»[2].

ودعا إلى: «قلب المسلَّمة التي استقرت في الوجدان الإسلامي من القرن الثاني للهجرة، وإلى الإقرار بأن العبرة ليست بخصوص السبب ولا بعموم اللفظ معاً؛ بل في ما وراء السبب الخاص واللفظ المستعمَل له يتعين البحث عن الغاية والمقصد» ثم كشف نتيجة ذلك فقال: «وفي هذا البحث مجال لاختلاف التأويل بحسب احتياجات الناس واختلاف بيئاتهم وأزمنتهم وثقافتهم»[3].

ونتيجة لذلك توصل إلى إلغاء لزوم العبادات الكبرى في الإسلام: من صلاة وصيام وزكاة وحج؛ بحجة أن الشريعة إنما جاءت بأحكامها لمصلحة تناسب ذلك العصر، فإذا تحققت مقاصدها في ترقية الروح وتحقيق العدالة بأشكال أخرى فنحن لسنا ملزمين بتفاصيلها التشريعية[4].

ويجعل حسن حنفي المصلحةَ المصدرَ الأولَ للتشريع والأساسَ الذي تحاكَم إليه نصوص الوحي، والمرجعَ المعتمدَ في التسليم به، فيقول: «تقوم مصادر التشريع كلها... على مصدر واحد هو المصلحة باعتبارها المصدر الأول للتشريع؛ فالكتاب يقوم على المصلحة، والسنة أيضاً تقوم على المصلحة»[5]، ويقول: «كما يؤوَّل النقل لصالح العقل في حالة التعارض، كذلك يؤول النقل لصالح المصلحة في حالة التعارض»[6]، ولم يفرق بين النقل القطعي وغيره؛ فالكل خاضع للمصلحة.

وينتقد الجابري عمل الفقهاء ويصفهم بأنهم انشغلوا بالمسائل اللغوية عن المقاصد الشرعية، وينتقد قاعدة الفقهاء التي تجعل الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، ويدعو إلى تغييرها؛ بحيث يكون الحكم يدور مع مصلحته وجوداً وعدماً، ويضرب لذلك مثلاً، وهو: تحريم الربا في بعض المستندات والاستثمارات البنكية، وجزم بإباحتها لعدم وجود الاستغلال فيها، ويؤكد ذلك بقوله: «ومعلوم أن منه الاستغلال هو الحكمة من تحريم الربا»[7].

وأما نصر حامد أبو زيد فإنه يرى أن الفكر الديني يعاني من سيطرة فكرة قداسة النص الديني عليه وأنه يتعامل معه على أنه نص متجاوِز لواقعه الذي تشكَّل فيه، ويرى أن الحل في التخلص من سلطة النص الديني، وإحلال النظرة التاريخية في التعامل مع العقائد والتشريعات التي تضمنها، يمكن من خلال إحلال النظرة المقاصد في التعامل مع النص الديني، كما فعل عمر بن الخطاب، كما يقول[8].

وتتابعت إشادات الخطاب الحداثي بنظرية المصلحة على أنها هي التي تمثل الأساس والمرجع للتشريع الإسلامي وهي التي يمكن من خلالها الحفاظ على روح الإسلام في عصر الحداثة، وهي التي من خلالها يمكن للمجتهدين أن يقوموا بنسخ ما فقدت مصلحته، ويمكنهم من خلاله التخلص من سلطة النص الديني كما يقولون ويسيحون أحراراً في كيان التشريع الإسلامي ليغيروا من معالم خريطته بناء على ما يرونه مصلحة[9].

ولا نريد من القارئ الكريم أن يبادر إلى إصدار حكم مَّا على هذه النظرية بمجرد قراءتها؛ إذ ليس من المنهجية الصحيحة في التعامل الفكري مع الدعوة الحداثية إلى تحكيم نظرية المقاصد أن نبادر إلى إنكارها أو نتسرع في الحكم عليها بالبطلان؛ وإنما لا بد - ابتداءً- أن نقوم بالتوجه نحوها بالتحليل ونستحضر المنهجية التي تراعي الضرورات العقلية والدلائل التاريخية والمتطلبات المعرفية.

 وإذا قمنا بذلك فإنَّا سنكتشف بوضوح أنها تعاني من إشكاليات معرفية ومنهجية عميقة أحدثت خللاً كبيراً في بنيتها وفساداً معرفياً في كيانها، وحتى لا يكون الكلام مقتصراً على مجرد الدعوى الخالية مما يسندها من الواقع فلا بد من سرد تلك الإشكاليات توضيحها.

وقد أخذت تلك الإشكاليات أشكالاً متعددة؛ فمنها ما يرجع إلى الفكرة المنتجة، ومنها ما يرجع إلى الآلية التي قامت عليها النظرية، ومنها ما يرجع إلى الذهنية التي تناولت الشواهد والأمثلة.

وتتضح تلك الإشكاليات بأنواعها في الأمور التالية:

الأمر الأول: المفهوم الزئبقي: فعلى الرغم من الأهمية البالغة التي أولاها الخطاب الحداثي للمقاصد، والمنزلة العالية التي حظيت بها لديه؛ إلا أنه لم يقدم للقارئ بياناً لمفهوم المقاصد التي يقدمها على النص الشرعي ويجعلها متحكِّمة فيه، ولم يقدِّم له المضامين المعرفية التي تكشف عن جوهرها وحدودها ومعالمها، وتضمن استعمالها بشكل منضبط؛ فإذا كانت النظرة المقاصدية تبلغ عند الخطاب الحداثي إلى أن تكون أحد المرتكزات الكبرى التي تحاكَم إليها النصوص الشرعية وتفهَم على ضوئها، وتغيَّر قطعيات الشرعية بناءً على تغيرها، فإن هذه المنزلة تتطلب مهامَّ كبيرةً تستوجبها الآثار المترتبة عليها وتؤكدها الأبعاد المعرفية التي بنيت عليها.

ولنا أن نتساءل: هل قام الخطاب الحداثي بتلك المهام الكبيرة بالشكل الذي يلبي المهام المنهجية؟

إننا حين نستقرئ المنتَج الحداثي لا نجد فيه إلا التكرار لأهمية المصلحة والمطالبة بتحكيمها على النصوص الشرعية وتقديمها عليها، ولكنه لم يتوجه إلى بناء منظومة معرفية متكاملة يكشف من خلالها عن ماهية المصلحة التي ينادي بها، وبيَّن فيها هويتها ويوضح معالمها، وبين حدودها وضوابطها، ويشرح أسسها ومبادئها، ويزيل اللبس والغموض عن أقسامها وأصنافها، وبين المعيار الحقيقي في اعتبارها؛ فما المصلحة التي تقدَّم وما شروطها؟ وما ضوابطها؟ وما حدودها؟ ومن يمكنه أن يفعل ذلك؟ وكيف الجواب عما يعارض تلك الفكرة؟ كل هذه الأسئلة المنهجية لا نجد لها جواباً في المنتَج الحداثي.

فالمصلحة التي يطالب بها الحداثيون، مصلحة هلامية زئبقية فضفاضة بلا هوية ولا معنى ولا كيان ولا حدود، وهذا ما صرح به حسن حنفي حيث يقول عن المصلحة: إنها «أمور إضافية تختلف باختلاف الأفراد والأحوال والظروف، وربما العصور والأزمان»[10].

فهل من المقبول عقلاً أن تتم المطالبة بشيء ويُعلَى من شأنه إلى درجة عالية؛ بحيث يكون هو المتحكم في النصوص الشرعية، ثم يهمَل ويبقى بلا شرح ولا بيان؟ وهل من المقبول عقلاً أن تترك النصوص الشرعية الواضحة في دلالتها والبينة في لفظها والمتسقة في معانيها وتصبح خاضعة لأمر غير واضح ولا محدد المعالم؟

ولو كان الخطاب الحداثي ملتزماً بالمنهجية العلمية الصحيحة لبادر إلى تنفيذ المهام المعرفية الواجبة عليه، ولكنه لم يف بشيء من ذلك.

ولو قمنا بعقد مقارنة بين تعامل الفقهاء والأصوليين وبين الحداثيين مع نظرية المقاصد، لوجدنا أن الفقهاء استوعبوا كل ما تتطلبه المصلحة من مهام؛ فقد اجتهدوا في بيان ماهيتها ومفهومها، ودرسوا تاريخها ومراحلها، وبحثوا في أقسامها وأصنافها، وبالغوا في ترتيبها وتصنيفها، وبيان حدودها وخصائصها، وأوضحوا أهميتها وأقاموا الأدلة الشرعية والعقلية والتاريخية على ذلك، وكشفوا عن فوائدها وآثارها، واستغرق ذلك منهم مئات الصفحات.

ونجد في المقابل الخطاب الحداثي لم يفعل شيئاً من ذلك، مع أن منزلة المصلحة لديه أكبر وأعلى من منزلتها لدى الفقهاء.

ألا يدل هذا على تسرُّب كبير في منهجية البحث العلمي وإهمال للواجبات المعرفية، وتضييع للأمانة العلمية وللأسس الفكرية؟ وهو ما أدى إلى إحداث الخلل في النظرية وفقدانها الانضباط والاتساق في نفسها وانسيابها مع الأصول والمبادئ العملية، ألا يدل إهمال الخطاب الحداثي لتنفيذ المهام الواجبة عليه على عدم احترامه للعقل العربي وعدم تقديره للوعي المعرفي لدي؟

ولا بد من التأكيد على أن المشكلة ليست في ضرورة اعتبار المصلحة ولا في أهميتها، ولا في الإقرار بالارتباط الوثيق بينها وبين أحكام الشريعة، فإن هذه القضية غدت من الضروريات العلمية الواضحة، وهي من البدهيات المعرفية لدى الفقهاء والأصوليين؛ وإنما المشكلة في تحديد ضوابطها ومعالمها وتوضيح معاييرها ومحدداتها[11]، والكشف عن الضمانات الموضوعية التي يعتمد عليها ويرجع إليها في التحقق من المصلحة، وكل هذه الأمور تم طيها وإغفالها في الخطاب الحداثي.

وهذا الإهمال المنهجي الذي ظهر بشكل بيِّن في تعاطي الخطاب الحداثي مع النظرة المقاصدية يتجلى في مواطن عديدة من منتجه المعرفي؛ فقد أضحى الغموض والاعتماد على المصطلحات المجملة الفضفاضة والغامضة سمة بارزة فيه، وتتالت الشكاوى من تلك الاستعمالات حتى من بعض الخطاب نفسه[12].

والعقل المسلم لا يستطيع أن يعتمد على المصلحة الهلامية الحداثية؛ لأنها ستؤدي - حتماً - إلى السيلان في الأحكام الشرعية، وإذابة الحدود التي وضعتها الشريعة لأحكامها، وعلى مخالفة ما أجمع عليه الصحابة الكرام والأمة الإسلامية كلها على مرِّ تاريخها، ويبقى الباب مفتوحاً لتبدُّل أحكام الشريعة القطعية، وتغيُّرها بحسب تغيُّر المصالح الطارئة، ومن ثمَّ تصل النتيجة إلى ذوبان هوية الإسلام نفسه وميوعة أحكامه وضياع معالمه.

ولا بد من التأكيد أيضاً على أن المطالبة بالكشف عن ماهية المصلحة وتبيين حدودها وضوابطها ليست خاصة بالمصلحة ولا بالخطاب الحداثي فقط، بل الأمر عام في كل الأصول المنهجية التي يرجع إليها في دراسة الشريعة؛ فمَن طالَبَنَا بالأخذ بالنصوص لا بد أن يقدم لنا الشروط والضوابط التي تضمن لنا الاعتماد على تلك النصوص بالشكل المنضبط، ومن طالَبَنَا بالاعتماد على الإجماع أو القياس، لا يُقبَل منه كلامه حتى يكشف عن ماهية ما يدعو إليه وحدوده.

الأمر الثاني: الاختزال الشديد: فالمتجول في المنتج الحداثي يجد أنه قد مارس تضييقاً واسعاً في طبيعة المصلحة التي ادَّعى أنها مقدَمة على الشريعة، أو ادَّعى أن الشريعة خاضعة لها؛ فالمتلمس لطبيعة المصلحة التي ينادي بها الخطاب الحداثي يجد أن الطابع الغالب عليها هو الطابع المادي، الذي يقوم على إبراز المصالح الراجعة إلى الحياة المادية كالحفاظ على المال وشؤون الحياة اليومية، أو الطابع الذي يرجع إلى المصلحة المحسوسة فقط، ولا شك أن هذه المصالح أمور مقصودة للشريعة، ولكنه يغفل المصالح المعنوية، والمتعلقة بالجوانب الروحية والنفسية والأخروية، ويغفل المصالح الخفية المتعلقة بسياسة النفس الإنسانية والمجتمعات البشرية.

 والسبب وراء الاختزال الحداثي لنظرية المقاصد: أنه لم يقم باستقراء النصوص الشرعية؛ وإنما اكتفى بالعموميات فقط، ولو رجعنا إلى المنتج الفقهي والأصولي لوجدنا تأكيد عدد من علماء المقاصد على أن الشريعة اهتمت ببيان المقاصد التي يريد الشارع تحقيقها بوضوح.

وهذا ما تؤكده دلالة العقل أيضاً؛ فبما أن المقاصد قضية محورية في الشريعة فمن المستبعَد عقلاً ألا تتضمن نصوصها بياناً لها؛ فإن الشريعة قد بينت تفاصيل الأحكام الشرعية، وهذا يقتضي بالضرورة أن تبين – نصاً أو إشارة - مقاصدها الأصلية والفرعية، وهذه القضية كانت واضحة بشكل كبير لدى علماء المقاصد – كالشاطبي وغيره – ولهذا تراهم كثيراً يؤكدون على أن السبيل إلى معرفة المقاصد المؤثرة في الأحكام هو نصوص الشريعة نفسها.

وإذا رجعنا إلى النصوص الشرعية (الكتاب والسنة) لنتحقق من طبيعة المصالح التي انبنت عليها الأحكام الشرعية نجد أنها شملت كلا النوعين (المصالح المادية والمعنوية) بشكل متوازن ولم تفرق بينهما، بل أبانت عنهما بشكل واضح، وأقامت لكلا النوعين وزناً وثقلاً معتبراً في الأحكام التفصيلية.

ومن الأمثلة الشرعية التي تبرز فيها المصالح المعنوية: قوله - تعالى -: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْـمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45]، فهذه نبهت على أن مقاصد الصلاة منها ما يرجع إلى المعاني المعنوية والعبادية ومنها ما يرجع إلى المعاني المادية الظاهرة.

ومن أمثلة ذلك: قوله - تعالى -: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103] فهذه الآية دالة على أن من مقاصد الزكاة مقصداً معنوياً، وهو تطهير النفس وتزكيتها.

ومن أمثلة ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: «تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، في رواية ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوني في معروف؛ فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب شيئاً من ذلك فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له وطهورٌ»[13]، فهذا الحديث يدل على البعد المعنوي في مقاصد إقامة الحدود بخلاف التصور الحداثي عنها.

وقد تكرر التنبيه في النصوص الشرعية على المصالح المعنوية بشكل مكثف، كما جاء في وجوب الصيام، وتقديم الهدي في الحج، وتحريم الخمر، ووجوب القصاص وغيرها.

وهذا الحال يستوجب على من أراد أن يتعامل مع النصوص الشرعية بالنظرة المقاصدية أن يراعي جميع أصناف المقاصد التي جاءت الشريعة لتحقيقها، وعليه أن يكون مدركاً للفرق بين المقاصد الأصلية من العبادة وبين المقاصد التابعة، ومتى لم يكن لديه الإدراك الكافي للفرق بين النوعين فإنه سيقع في الخلل والانزواء نحو الجور في التعامل مع الشريعة المتكاملة المتزنة.

وانظر إلى الشاطبي كيف كان مدركاً لهذه الحقيقة، وكيف استطاع أن يتعامل مع مقاصد الشريعة بمهارة فائقة، واستمع إليه وهو يقول عن الصلاة: «الصلاة - مثلاً - أصل مشروعيتها الخضوع لله - سبحانه - بإخلاص التوجه إليه، والانتصاب على قدم الذلة والصغار بين يديه، وتذكير النفس بالذكر له. قال - تعالى -: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]، وقال: {إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْـمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45]، وفي الحديث: «إن المصلي يناجي ربه».

ثم إن لها مقاصد تابعة: كالنهي عن الفحشاء والمنكر، والاستراحة إليها من أنكاد الدنيا في الخبر: «أرحنا بها يا بلال»، وفي الصحيح: «وجُعلَت قرة عيني في الصلاة»، وطلب الرزق بها. قال الله - تعالى -: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: 132]، وفي الحديث تفسير هذا المعنى، وإنجاح الحاجات: كصلاة الاستخارة وصلاة الحاجة، وطلب الفوز بالجنة والنجاة من النار، وهي الفائدة العامة الخالصة، وكون المصلي في خفارة الله، في الحديث: «من صلى الصبح لم يزل في ذمة الله»، ونيل أشرف المنازل. قال - تعالى -: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مُّحْمُودًا} [الإسراء: 79]؛ فأعطى بقيام الليل المقام المحمود»[14]، فهو يفرق بوضوح بين المقاصد الأصلية والمقاصد التابعة، ويحقق التوازن بين المقاصد الظاهرة والمقاصد المعنوية.

ونبَّه ابن تيمية منذ زمن مبكر على خطورة تغليب المصالح المادية وإغفال المصالح الروحية والمعنوية، وحذر من ذلك وكشف عن آثارها وكأنه يتنبأ بالخطاب الحداثي؛ حيث يقول: «وكثير من الناس يقصر نظره عن معرفة ما يحبه الله ورسوله من مصالح القلوب والنفوس ومفاسدها وما ينفعها من حقائق الإيمان وما يضرها من الغفلة والشهوة كما قال - تعالى -: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]، وقال - تعالى -: {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إلاَّ الْـحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النجم: 29] {ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ} [النجم: 30] فتجد كثيراً من هؤلاء في كثير من الأحكام لا يرى من المصالح والمفاسد إلا ما عاد لمصلحة المال والبدن. وغاية كثير منهم إذا تعدَّى ذلك أن ينظر إلى سياسة النفس وتهذيب الأخلاق بمبلغهم من العلم.

وقوم من الخائضين في أصول الفقه وتعليل الأحكام الشرعية بالأوصاف المناسبة، إذا تكلموا في المناسبة وأن ترتيب الشارع للأحكام على الأوصاف المناسبة يتضمن تحصيل مصالح العباد ودفع مضارهم ورأوا أن المصلحة نوعان (أخروية ودنيوية): جعلوا الأخروية ما في سياسة النفس وتهذيب الأخلاق من الحكم، وجعلوا الدنيوية ما تضمن حفظ الدماء والأموال والفروج والعقول والدين الظاهر، وأعرضوا عما في العبادات الباطنة والظاهرة من أنواع المعارف بالله - تعالى - وملائكته وكتبه ورسله، وأحوال القلوب وأعمالها: كمحبة الله وخشيته وإخلاص الدين له والتوكل عليه والرجا لرحمته ودعائه وغير ذلك من أنواع المصالح في الدنيا والآخرة. وكذلك في ما شرعه الشارع من الوفاء بالعهود، وصلة الأرحام، وحقوق المماليك والجيران، وحقوق المسلمين بعضهم على بعض، وغير ذلك من أنواع ما أمر به ونهى عنه حفظاً للأحوال السنية وتهذيب الأخلاق. ويتبين أن هذا جزء من أجزاء ما جاءت به الشريعة من المصالح. فهكذا من جعل تحريم الخمر والميسر لمجرد أكل المال بالباطل؛ والنفع الذي كان فيهما بمجرد أخذ المال»[15]، فابن تيمية في هذا النص يؤكد على ضرورة التوازن في مراعاة المقاصد التي جاءت الشريعة بها، وأنه لا يجوز تغليب نوع على نوع ولا إغفال نوع لحساب نوع آخر.

ومرة أخرى، فإنا لو قمنا بالمقارنة بين جهود الفقهاء والأصوليين وبين جهود المشروع الحداثي في بيان مقاصد الشريعة العامة والخاصة والمادية والمعنوية منها، فإنا نجد أن الفقهاء بذلوا جهوداً كبيرة، وقطعوا مسافات شاسعة في البحث والتنقيب عن مقاصد الشرع، واستطاعوا من خلالها أن يتوصلوا إلى أنواع من المقاصد التي جاءت الشريعة بتحقيقها ونحن لا ننكر أن مشروعهم ذلك قد وقعت فيه أخطاء ومبالغات، ولكن القارئ يستطيع أن يخرج من جملة ما قدموا بصورة ناضجة يتبين بها أحقية الشريعة ووجاهتها ولزوم تطبيق ما جاءت به من أحكام وحدود، وأنها جاءت على أكمل وجه وأنصع صورة وأبين حالة، ويجد في المقابل قصوراً ظاهراً في الخطاب الحداثي في هذه القضية، وهو ما أوقع بحوثهم في أخطاء كبيرة مخالفة للتاريخ فضلاً عن مخالفتها للنص الشرعي نفسه.

-  التداول الحداثي لنظرية المقاصد "دراسة نقدية" (1)

- التداول الحداثي لنظرية المقاصد "دراسة نقدية" (2)

 


[1] انظر: القراءة الجديدة للنص الديني، عبد المجيد النجار (ص69).

 [2] لبنات، الشرفي (ص162).

 [3] الإسلام بين الرسالة والتاريخ، الشرفي (ص70).

 [4] انظر: الإسلام بين الرسالة والتاريخ، الشرفي (ص59) وما بعدها.

 [5] من النص إلى الواقع، حسن حنفي: (2/488  - 489).

 [6] حصاد الزمن ( الإشكالات)، حسن حنفي (ص76).

 [7] وجهة نظر، محمد الجابري (ص61)، وانظر بنية العقل العربي (ص63).

 [8] انظر: مفهوم النص، نصر حامد أبو زيد (ص104).

 [9] انظر في جمع مقولاتهم: العلمانيون والقرآن، أحمد الطعان (382 - 418).

 [10] من النص إلى الواقع، حسن حنفي: (2/487).

 [11] انظر: الاجتهاد، النص الواقع المصلحة، أحمد الريسوني، ومحمد باروت (ص33)، وضوابط المصلحة، البوطي (ص141).

 [12] انظر: التفسير السياسي للقضايا العقدية، سلطان العميري (ص19).

 [13] أخرجه: البخاري (3892).

 [14] الموافقات، الشاطبي: (3/142 - 143).

 [15] مجموع الفتاوى، ابن تيمية: (32/233 - 334).

 

أعلى