موقف الجابري من المعجـزات والغيوب في الإسلام...عــرض ونقـد
ألَّف
الدكتور محمد عابد الجابري أربعة كتب عن الإسلام في نهاية حياته. ومما جعلني أكتب
عنها بعض الدراسات: أنها لقيت رواجاً عند قِطاع كبير من المثقفين من جهة، وأنها
تتضمن محاولة للتقريب بين الإسلام والحضارة الغربية من جهة أخرى. ومن المفيد أن
نذكر أن محاولة التقريب بين الإسلام والحضارة الغربية (أو قل بصورة أدق: محاولة
تطويع الإسلام لمفاهيم الحضارة الغربية) قد احتوت عدداً كبيراً من الكتاب
والباحثين منذ القرن التاسع عشر بدأت برفاعة رافع الطهطاوي، ثم ثنَّت بمحمد عبده
وقاسم أمين، ثم انتظمت عدداً كبيراً في القرن العشرين، منهم: عباس محمود العقاد،
وطه حسين، وحسين أحمد أمين، ونصر حامد أبو زيد، ومحمد أركون، ومحمد شحرور... إلخ.
وها هي تنتظم الجابري، وهو - لا شك - لن يكون آخرهم.
خصص الجابري كتاباً
كاملاً للتعريف بالقرآن الكريم، واعتبر معجزة القرآن الكريم معجزة عقلية. وهو - لا
شك - معجزة عقلية في أحد جوانبها؛ بمعنى أنها قدمت شريعة صالحة للبشرية، وأنها
أقامت دعوتها إلى حقائق الإسلام: من توحيد وشرائع وأحكام ومعادٍ على دلائل من
الكون والحياة والتاريخ... إلخ. وأنها كانت بيانية من جهة أخرى؛ بمعنى أن القرآن
معجز في بيانه وفواصله وصوره ونظمه... إلخ.
وقد خالفت معجزة الرسول صلى
الله عليه وسلم الكبرى (القرآن الكريم) معجزات الأنبياء السابقين الذين قامت
معجزاتهم على خوارق العادات؛ فقد تحولت العصـا إلى حية عند موسى - عليه الصلاة
والسلام - وتحولت الصخرة إلى ناقة عند صالح عليه السلام... إلخ. إن هذا كلام صحيح؛
لكنَّ الجابري أخطأ عندما نفى المعجزات الحسية عن رسالة الإسلام؛ فقد اشتملت بعثة
الرسول صلى الله عليه وسلم على كثير من الآيات والمعجزات الحسية، من مثل: نبع
الماء بين يديه، وإطعام جيش بطعام شخص واحد، وحنين الجذع إليه، وسلام الحجر عليه،
وشفائه لبعض الصحابة من بعض الأمراض... إلخ، وها نحن ننقل بعض الأحاديث التي تؤكد
الآيات التي أشرنا إليها؛ ففي مجال حنين جذع شجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم
نقل البيهقي فقال: (كان يخطب رسول الله إلى جذع فلما اتخذ المنبر تحوَّل إليه فحن
الجذع، فأتاه النبي فمسحه. وفي رواية أخرى: (فلما وضع المنبر حن الجذع إليه فأتاه
النبي فمسحه فسكن)[1].
وفي مجال نبع الماء بين
أصابع الرسول صلى الله عليه وسلم، شهد جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - ما حدث
يوم الحديبية فقال: (عطش الناس يوم الحديبية والنبي صلى الله عليه وسلم بين يديه
ركوة (إناء من جلد)، فتوضأ، فجهش (يعني: أسرع) الناس نحوه، فقال: «ما لكم؟» قالو:
ليس عندنا ماء نتوضأ ولا نشرب إلا ما بين يديك فوضع يده في الركوة، فجعل الماء
يثور بين أصابعه أمثال العيون، فشربنا وتوضأنا، (ولما سئل جابر - رضي الله عنه -
عن عددهم في ذلك اليوم قال: لو كنَّا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة)[2].
وفي مجال شفاء الرسول صلى
الله عليه وسلم لبعض الصحابة فقد حدَّث يزيد بن أبي عبيد قال: (رأيت أثر ضربة في
ساق سلمة، فقلت: يا أبا مسلم! ما هذه الضربة؟ فقال: هذه ضربة أصابتني يوم خيبر،
فقال الناس: أصيب سلمة، فأتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فنفث فيه ثلاث نفثات،
فما اشتكيتها حتى الساعة)[3].
وعن إشفاء الرسول صلى
الله عليه وسلم لعيني علي بن أبي - طالب رضي الله عنه - ذكر سهل بن سعد - رضي الله
عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: «لأعطين هذه الراية غداً
رجلاً يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله». قال: فبات الناس
يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه
وسلم كلهم يرجون أن يعطاها، فقال: «أين علي بن أبي طالب؟» فقيل: هو - يا رسول الله
- يشتكي عينيه. قال: «فأرسلوا إليه». فأُتي به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم
في عينيه، ودعا له، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية[4].
وقد أشار القرآن الكريم
إلى بعض المعجزات الحسية التي وقعت للرسول صلى الله عليه وسلم من مثل انشقاق
القمر؛ فقد قال الله - تعالى -: {اقْتَرَبَتِ
السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: ١]، وقد أورد
البخاري ومسلم والترمذي أحاديث صحيحة تحدثت عن هذا الانشقاق، فذكر البخاري عن ابن
مسعود فقال: (انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين: فرقة فوق
الجبل، وفرقة دونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشهدوا»)[5].
ومن المعجزات الحسية
الأخرى التي وقعت للرسول صلى الله عليه وسلم: الإسراء والمعراج وشق الصدر؛ فقد ذكر
القرآن الكريم واقعة الإسراء فقال - تعالى -: {سُبْحَانَ
الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ إلَى
الْـمَسْجِدِ الأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا
إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: ١]، كما تحدث
القرآن عن المعراج في سورة النجم، فذكر أنه رأى جبريل - عليه السلام - على صورته
الملائكية، فقال - تعالى -: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ
الْقُوَى 5 ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى 6وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى 7ثُمَّ دَنَا
فَتَدَلَّى 8 فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى 9 فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ
مَا أَوْحَى 10 مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى 11 أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا
يَرَى 12 وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى 13 عِندَ سِدْرَةِ الْـمُنتَهَى 14
عِندَهَا جَنَّةُ الْـمَأْوَى 15 إذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى 16 مَا
زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى 17 لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}
[النجم: 5 - 18].
وقد تحدثت كتب الحديث
والسيرة عن الإسراء والمعراج وشقِّ الصدر، فقال البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك،
عن أنس بن صعصعة - رضي الله عنهما -: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن
ليلة أسري به: «بينما أنا في الحطيم - وربما قال في الحجر - مضطجعاً إذ أتاني آتٍ
فقد» قال: وسمعه يقول: «فشق ما بين هذه إلى هذه» فقلت للجارود - وهو إلى جنبي -:
ما يعني به؟ قال: من ثغرة نحره إلى شعرته، وسمعته يقول: من قصه إلى شعرته،
«فاستخرج قلبي ثم أُتيت بطست من ذهب مملوءة إيماناً، فغسل قلبي، ثم حشي، أُتيت
بدابة دون البغل وفوق الحمار الأبيض»، فقال له الجارود: هو البراق يا أبا حمزة؟
قال أنس نعم، يضع خطوه عند أقصى طرفه، «فحُمِلْتُ عليه، فانطلق بي جبريل حتى أتى
السماء الدنيا فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل...»[6]، ثم ذكر الحديث صعودَ الرسول صلى الله عليه وسلم إلى السماء الثانية
والثالثة حتى السماء السابعة، ثم رؤيتَه سدرة المنتهى ثم رجوعَه بأداء الصلوات
الخمس.
ماذا كان موقف الجابري
إزاء المعجزات الحسية التي وقعت مع الرسول صلى الله عليه وسلم، والتي جاءت فيها
أحاديث صحيحة، من مثل: حنين الجذع إليه، ونبع الماء بين أصابعه، وشفائه لبعض
الصحابة... إلخ؟ لقد رفضها الجابري؛ لأنه لا يأخذ بالأحاديث النبوية الشريفة،
ولأنه لا يعتبر أن هناك سنة صحيحة ويعتبر أن الأحاديث المدونة وُضعَت من قِبَل
الفرق السياسية والمذهبيه والكلامية والدينية المتصارعة، التي تكونت في بدايات
التاريخ الإسلامي، ولم يعتمدها في جميع دراساته، واعتمد على القرآن الكريم وحده.
هذا بالنسبة للأحاديث
النبوية؛ فماذا كان موفقه من المعجزات الحسية التي تحدث عنها القرآن الكريم من مثل
انشقاق القمر والإسراء والمعراج وشق الصدر؟
كان موقفه الرفض لها؛ فهو
اعتبر أن القمر لم ينشق على زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وفسر الآية بأنها تعني
أن القمر سينشق في المستقبل، أما بالنسبة لواقعة الإسراء والمعراج فهو اعتبرها
رؤيا منامية ولم تحدث بالجسد، ولم يتعرض إلى شق الصدر في سورة الشرح لأن الواقعة
ذكرتها الأحاديث، وهو لا يعول على الأحاديث في أحكامه وآرائه كما ذكرنا سابقاً.
والآن ما موقف الجابري من
عالم الغيب في الدين الإسلامي: كالجنة، والنار، والسحر، والجن، والشياطين، ورؤية
الله يوم القيامة، وتكليم الله موسى عليه السلام؟
لقد كان موقفه منها رفض
حقيقتها حيناً، واختيار الرأي الذي يضفي عليها المعقولية حيناً أخرى؛ فقد اعتبر أن
كلام القرآن الكريم عن الجنة والنار إنما هو تخييل وذكرى، وأن السحر لا حقيقة له،
واعتبر أن الصوت الذي كلم الله به موسى - عليه السلام - خرج من الشجرة، وأنكر رؤية
الله يوم القيامة ومال إلى تفسير المعتزلة بأن الرؤية لا تعني الرؤية البصرية بل
انتظار ثواب الله.
فما الذي قصده الجابري من
اعتبار القرآن معجزة عقلية وأنها المعجزة الوحيدة التي جاء بها الرسول محمد صلى
الله عليه وسلم؟ وما الذي قصده من إنكار المعجزات الحسية الأخرى التي أشار إليها
القرآن الكريم والأحاديث النبوية؟ وما الذي قصده من إنكار حقيقة كثير من الغيوب
التي قررها الإسلام؟
قصد أن يضخم من دور العقل
على حساب النقل من أجل تطويع الدين الإسلامي لصالح الحضارة الغربية؛ فكأنما يريد
أن يقول: إن الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم يختلف عن الأنبياء السابقين، في أن
معجزته صلى الله عليه وسلم لم تقم على خوارق العادات، وأن القرآن الكريم معجزة
عقلية فقط، وفي هذا يلتقي الإسلام تمام الالتقاء مع الحضارة الغربية التي هي مبنية
على العقل وحده، ولا مكان للغيوب فيها؛ لذلك فإنه علينا الأخذ بالحضارة الغربية
لأنها تتفق مع أهم أصل يقوم عليه ديننا وقرآننا.
إن أكبر وأخطر محاولتين قامتا لتطويع الإسلام لصالح
الحضارة الغربية، هما:
الأولى: محاولة محمد عبده (ت
1905م) في مطلع القرن العشرين؛ وذلك بتضييق مساحة عالم الغيب في الإسلام لصالح
مادية الغرب.
والثانية: محاولة الجابري (ت
2010م) في مطلع القرن الحادي والعشرين الميلادي؛ وذلك بتضييق مساحة النقل لصالح
العقل.
وكما لم تحقق الأُولَى
أهدافها، فقد أخذ كلٌّ من عالَم الغيب وعالَم الشهادة حقهما في فهم الإسلام وفي
الدعوة إليه عند العلماء التالين لمحمد عبده، وكذلك ستفشل محاولة الجابري في تضخيم
دور العقل على حساب النقل، وسيأخذ كلٌّ من العقل والنقل دورَه في التعامل مع كتاب
الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن كل هذا من الفطرة التي فطر الله الناس
عليها.
[1]
دلائل النبوة: 2/556.
[2]
متفق عليه واللفظ للبخاري.
[3] صحيح البخاري، رقم (4206).
[4] صحيح البخاري، رقم (4210).
[5] صحيح البخاري، رقم (4864).
[6] صحيح البخاري، رقم (3887).