انتبه المسلمون واستيقظوا لأهمية تحقيق تراثهم التاريخي بالمنهج العلمي الشامل الصحيح بعد حركة الاستشراق
أكّدت الدراسات البحثية مع التحقيق العلمي أن علماء الإسلام سبقوا غيرهم في كتابة
التاريخ وتدوينه بمنهجية علمية قوامها النقل والأسانيد حسب ما ورد في التاريخ، وقد
أنشأوا -بغرض التوثيق- علوم الحديث ومصطلحاته، والتدوين عن رجاله مع عِلْم الجرح
والتعديل؛ لتكون أمانة النقل والكتابة خدمةً لكل وسائل التثبت العلمي للمخطوطات
والكتب.
وقد تفوَّق المسلمون بهذا قبل عصور المستشرقين وجهودهم الاستشراقية، وهذا ما يؤكده
التاريخ عن أصول تدوين الروايات لدى علماء الإسلام والكتابة في الرجال والسِّيَر
والتراجم؛ حيث يتلازم هذا مع معظم كُتب التاريخ الإسلامي ومخطوطاته التي قامت على
الروايات والرواة. بل إن منهجية التحقيق العلمي عند المسلمين تُعدُّ جزءًا من دينهم
وتعبُّدهم لله -تعالى-، وعن هذا قال عبدالله بن المبارك -رحمه الله-:
«الإسناد
من الدِّين، ولولا الإسناد لقال مَن شاء ما شاء»[1]،
وفي هذا وما شابهه عن منهجية المسلمين في النقل ما يؤكد سَبْق المسلمين في العناية
والحفظ للحقوق المتقدمة تاريخيًّا بما يُسمَّى اليوم (حقوق الملكية الفكرية).
وحول هذه المنهجية في التوثيق والتحقيق لدى المسلمين شهد الغربيون أنفسهم للمسلمين
بهذا التفوق في التوثيق؛ حتى قال أحدهم:
«ولكن
بالرغم من أن (نظرية الإسناد) سبَّبت متاعب لا نهاية لها أحيانًا؛ بسبب الأبحاث
التي ينبغي القيام بها لتوثيق كلّ راوٍ، ولفَهْم وضع الأحاديث، وتقليدها أحيانًا في
سهولة، لا يمكن الشكّ في قيمتها في ضمان الصحة، والمسلمون على حق في فَخْرهم بعلم
الحديث»[2].
ومما قيل عن تراث المسلمين مقارنةً بغيرهم ما ورد في كتاب زيغريد هونكه الألمانية
نقلًا عن مؤرخ الطب نوبورجر حين قال:
«إن
العرب هم الذين أدخلوا النور والترتيب على تراث القدماء الذي طالما اكتنفه الغموض
ونقصه التسلسل»[3].
وفي كتابها اعترافات كبيرة وشهادات كثيرة عن أثر تراث المسلمين في نهضة أوروبا
القديمة والحديثة، وكفى بعنوانه شهادةً.
وحسب رأي المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون؛ فإن صحوة المسلمين نحو تراثهم بعد عصور
الاستشراق لا تعدو أن تكون من الدورات التاريخية الطبيعية في النهوض للأمم، كيف
وموضوع التراث العربي الإسلامي ومخطوطاته والاهتمام بها متعلّق بحضارتهم وتراثهم،
كما قال لوبون عن أتباع الدين الإسلامي تحديدًا:
«ولا
نرى في التاريخ أُمَّةً ذات تأثير بارز كالعرب، وذلك أن جميع الأمم التي اتصل العرب
بها اعتنقت حضارتهم، ولو حينًا من الزمن، وأن العرب لمَّا غابوا عن مسرح التاريخ
انتحل قاهروهم كالترك والمغول تقاليدهم، وبَدَوْا للعالَم ناشرين لنفوذهم. أجل،
ماتت حضارة العرب منذ قرون، ولكنَّ العالَم لا يعرف اليوم غير دين أتباع النبيّ
ولغتهم في البلاد الممتدة من المحيط الأطلنطي إلى السند، ومن البحر المتوسط إلى
الصحراء»[4].
والحق أن حضارة العرب المسلمين لم تَمُت، وإنما أصابها المرض والإعياء حسب السنن
الربانية الكونية.
أما عن منهجية التحقيق العلمي لدى عموم المستشرقين فقد كان قائمًا في غالبه على
أمانة نقل النصوص وفق قواعدهم الكلاسيكية الدقيقة في النقل، وليس قائمًا على قواعد
التصحيح والتضعيف للروايات أو تخريجها، ولا كذلك على أعمال منهجية الجرح والتعديل
للرواة، كما هو لدى المسلمين. فقد استفاد المستشرقون وأفادوا غيرهم في جوانب
التحقيق للتراث العربي الإسلامي على طريقتهم من مخطوط إلى مطبوع. وكانت جهود
الاستشراق قد تزامنت مع ولادة الطباعة والمطابع، وذلك نهاية القرن الخامس عشر
وتطورت فيما بعده. فكان تحويل المخطوطات إلى كتب مطبوعة، وكان السبق فيها
للأوروبيين عامة والمستشرقين خاصة، حينما كانت بدايات حضارتهم الحديثة ونهضتهم
العلمية، ثم كان تحقيق المخطوطات العربية أكثر مع ظهور الاستشراق الحديث وتطور
مطابعهم في القرن التاسع عشر الميلادي وما تلاه.
وقد انتبه المسلمون واستيقظوا لأهمية تحقيق تراثهم التاريخي بالمنهج العلمي الشامل
الصحيح بعد حركة الاستشراق. وعن شيء من هذا التاريخ والسبق كتب الدكتور رائد أمير
قائلًا:
«العرب
سبقوا المستشرقين في تحقيق النصوص والمتمثلة في منهج رواة الحديث، والمستشرقون
اكتسبوا من منهج علماء العرب القدماء... وإذا كان النشر يعني تصحيح الأخطاء
الإملائية وشرح الغوامض من المعاني واعتماد النسخة الواحدة لمخطوط متعدد النُّسَخ؛
فزمن نشر التراث العربي يعود إلى القرن التاسع عشر»[5].
التحول التاريخي الواضح بين الاستشراق والاستغراب:
أكَّد كثيرٌ من الباحثين والمهتمين بشأن التراث العربي الإسلامي ومخطوطاته في
التاريخ وغيره، أن عموم الحركة العلمية في العالم العربي والإسلامي شهدت تحولًا
كبيرًا وملحوظًا في الاهتمام بالعلم والتراث والمخطوطات، وهو ما يمكن تسميته
بالاستغراب، وذلك حينما قام المسلمون بعد عصور الاستشراق باستعادة كثير من أمجادهم
العلمية تجاه تراثهم بصحوةٍ معرفية، كانت تقريبًا مع العقد السابع من القرن الرابع
عشر الهجري المتوافق مع العقد الخامس من القرن العشرين الميلادي وما بعده[6]؛
وذلك من خلال جمعياتهم العلمية وجامعاتهم الإسلامية ومراكزهم الدعوية والبحثية،
وكان هذا قد بدأ حدوثه في القارة الهندية، سواءٌ في تحقيق مخطوطات عربية جديدة
وَفْق أصول البحث العلمي بأدواته المعروفة قديمًا في عصور الحضارة الإسلامية، أم
كان في تصحيح وإعادة تحقيق ما حقَّقه وطبعه المستشرقون من كتب التراث وكتب السُّنة
والتاريخ؛ لتكون الإعادة بمشروعات علمية وفق أصول البحث العلمي في معظمها.
ويُعدُّ مشروع الأستاذ الدكتور فؤاد سزكين (1342-1439هـ)/(1924-2018م) مع الجهات
العلمية الألمانية والجهات المانحة الداعمة أنموذجًا مثاليًّا للاستغراب، بل علامة
فارقة في التحوُّل التاريخي بين الاستشراق والاستغراب، حينما انطلق سزكين بعمل
مؤسسي عملاق مرتبط بجامعة غوتة في فرانكفورت، فكان تأسيس معهد (تاريخ العلوم
العربية الإسلامية) عام 1402هـ الموافق 1981م بمساراته العلمية الثلاثة عشر (13)
بشمولها في خدمة التراث؛ حسب توضيح وشرح تلميذه الدكتور علي النملة، وهو مشروع يهدف
إلى جمع أكبر قَدْر ممكن من المخطوطات العربية والمراجع والمصادر عنها من مكتبات
الغرب ودول العالم الإسلامي، إضافةً إلى افتتاح فصول تعليمية متخصّصة بتعليم فنون
التحقيق وخدمة التراث، وذلك بنُخَب طلابية من المسلمين وغير المسلمين، وقد توّج هذا
العمل الكبير بمتحف يُمثِّل كثيرًا من الآلات والأدوات العلمية والطبية والجغرافية
ومعظم وسائل الحضارة الإسلامية وتراثها ومخطوطاتها حتى وصلت ثمانمائة (800) قطعة؛
حسب الدكتور علي النملة[7].
وكان سزكين قد تأثر بأستاذه المستشرق الألماني هيلموت ريتر الباحث في الأرشيف
العثماني في تركيا آنذاك؛ بغرض دراسة وتحقيق المخطوطات العربية الإسلامية، وقد
لازَمه حوالي ثلاثين سنة بتركيا، واقتنع سزكين بهذا التخصُّص الذي أخذ عليه قلبه
وعقله، ولم يكن قد دخل الجامعة لدراسة الطب التي كان يرغبها، فقد أصبح الاهتمام
بالتراث والمخطوطات هو مشروعه في الحياة، ليصبح هذا الاهتمام حركة علمية رائدة
تحتاج إلى رعاية أكثر وإلى تشجيعٍ للأجيال بصورة أكثر من السابق، وعن هذا كتب
الدكتور عرفان يلماز:
«ولقد
قاد الأستاذ فؤاد سزكين حركةً رائدةً تهدف إلى الإلمام بالحضارة الإسلامية العظيمة،
ويجب أن يزداد بمرور الزمن عدد أتباع هذه الحركة الرائدة التي أطلقها الأستاذ فؤاد،
ونتمنَّى من خلال تأليف هذا الكتاب [مكتشف الكنز المفقود] أن نصل إلى مبتغانا
بإشعال روح الحماس لدى بعض شبابنا من أجل الاهتمام بمجال تاريخ العلوم والتكنولوجيا
الإسلامية، وتشجيعهم على التقدُّم في هذا المجال»[8].
ويقول سزكين عن هذه الأهمية موضِّحًا الحق التاريخي في الإسلام ولدى المسلمين، لكنه
هنا يتميز بالنقل عن أحد المستشرقين الألمان:
«إن
الأشياء التي تشير إلى أن الإسلام ليس له علاقة بالعِلْم كانت مخالفةً تمامًا لما
قاله (ريتر)، وكنا نعتقد أن العالم الإسلامي لم يُسْهِم بأيّ شيء في تقدُّم العالم
المعاصر وتطوُّره، وقد أقرَّ (ريتر) بالحقِّ بالرغم من كونه مستشرقًا؛ فشجَّعَتْني
كلماته تلك وحمَّستني لدراسة العلوم الإسلامية وتعلُّمها، فتركتُ جميع أعمالي
واجتهدت ليل نهار من أجل تحقيق الهدف»،
ويقول سزكين عن أهمية العمل بجد وقوة في هذا المجال العلمي لا سيما في ظل توفُّر
وسائله التي أسهمت بشيء كثير من التحول التاريخي لدى المسلمين:
«لن
تستطيع أن تكون عالمًا بهذا الكمِّ من المذاكرة، إذا أردتَ أن تكون عالمًا فعليك
زيادة عدد هذه الساعات، فقد كان أستاذي (إلهارد فيديمان) يذاكر ويعمل أربعًا وعشرين
ساعة في اليوم، ولو كان اليومُ أكثرَ من أربع وعشرين ساعة لكان استغلها كلها في
العمل والدراسة»[9].
وكان من أبرز إنتاج سزكين العلمي قبل وصوله ألمانيا وبعدها كتاب (تاريخ التراث
العربي) 18 مجلدًا الذي بدأ ظهورُ أول مجلدٍ له عام 1954م/1374هـ، وتُعدُّ هذه
المجلدات موسوعةً علمية من أعظم إنجازاته وإسهاماته في خدمة التراث العربي
الإسلامي، كما أنها أضافت ما اكتشف من سرقات التراث ومخطوطاته بانتحالها لغير
أهلها، وهو ما يُعدُّ من التحول التاريخي بين الاستشراق والاستغراب.
وقد كتب عن هذا الدكتور عرفان الذي وصف جهود سزكين وحركته العلمية المؤسسية بكتابه
المثير والمفيد (مكتشف الكنز المفقود فؤاد سزكين - وجولة ثقافية في اختراعات
المسلمين)، ومما قال فيه عن السرقة والانتحال على سبيل المثال:
«لقد
انتحل الأوروبيون مؤلَّفات العلماء المسلمين المُترجَمة في صقلية والأندلس من دون
الإشارة إلى مصادرها الأصلية، لذا يُنسبُ فضل تأسيس الحضارة والعلوم الغربية إلى
الحضارة الإغريقية القديمة العريقة السابقة على الحضارة الإسلامية، بينما يُهضَمُ
حقُّ الحضارة الإسلامية ودورُها البارز في هذا المضمار، بَيْدَ أننا حين نعقد
مقارنةً بين الحضارات الموجودة في تلك الحقبة الواقعة بين الحضارة الإغريقية
القديمة والعلوم الأوروبية؛ نجد أن الفترة التي تطوَّرت فيها العلوم بأسرع وتيرةٍ
كانت في العالم الإسلامي، ونرى المسلمين قد ساهموا في حدوث طفرةٍ علميَّةٍ سريعة
للغاية في الحضارات المجاورة اعتبارًا من السنوات العشر الأولى التي ظهروا فيها على
مسرح التاريخ، وعلى عكس ما هو معروف اليوم، فإن تأسيسَ معظم فروع العلم الحديث لا
يرجع إلى قرن أو قرنين من الزمان، بل يرجع إلى العلماء المسلمين الذين عاشوا في
الفترة ما بين القرنين التاسع والسادس عشر الميلادين»[10].
وقد كانت إنجازات سزكين كبيرة لا تُقَدَّر بثمنٍ، لا سيما أنَّ معظمها يصُبّ في
ميدان الاستغراب، وتَستحق أن تُوصف جهود سزكين وأعماله بأنها من أبرز مشروعات
النهضة المعرفية للتراث العربي الإسلامي بألمانيا، ولهذا فإن سزكين ليس محقِّقًا
فحسب، بل أكبر من مُحقِّق للتراث، فهو صاحب مشروع مؤسسي في التحقيق بأهداف قريبة
المدى وبعيدة، وهو بحقٍّ جديرٌ باستحقاق وَصْفه بخادم التراث العربي والإسلامي
ومخطوطاته في القرن العشرين الميلادي، وقد حاز أول جائزة لمؤسسة الملك فيصل
العالمية في الدراسات الإسلامية عام 1399هـ/1979م.
ومما يُعدُّ من نماذج مخرجات مشروع سزكين التعليمي التدريبي تخريج مجموعات من
المتخصصين، ومن هؤلاء تلميذه الدكتور عليّ النملة الذي تخصَّص في الاستشراق فيما
بعد مرحلة الملازمة العلمية لسزكين؛ فأجاد وأفاد في هذا التخصص، مستفيدًا من تخصصه
العلمي السابق في اللغة العربية وعلوم المكتبات، وقد أصبح مرجعية علمية بكتبه
وإصداراته المتخصصة التي تَستحق أن تُوصف بموسوعة الاستشراق.
وإضافة إلى هذا؛ فقد أصبح هذا الاهتمام بالتحقيق لكتب التراث ظاهرًا لدى كثير من
دول العالم العربي مصاحبًا وتاليًا لجهود سزكين، وذلك من خلال جامعاتهم ومراكز
النشر والطباعة والتحقيق. وقد تتابعت طباعة إصدارات كُتُب السُّنة وكُتُب الرجال
والتراجم والتاريخ والمعاجم وغيرها، وفي غالبها أن التحقيق تمَّ وَفْق الأصول
العلمية الإسلامية، كما هو في تحقيق كتب التاريخ على سبيل المثال، مثل (البداية
والنهاية) لابن كثير، وكتاب (تاريخ الأمم والملوك) للطبري، وكتاب سِيَر أعلام
النبلاء للذهبي، و(تاريخ بغداد) للخطيب البغدادي، وإخراج (مجلدات تاريخ دمشق) لابن
عساكر مصورًا بمروياته جاهزًا للتحقيق، وغير هذا كثير.
وقد سطعت في سماء التحقيق العلمي للمخطوطات العربية بعض الأسماء الذين أصبحوا
يُعَدُّون أساتذة وعلماء في تحقيق التراث الإسلامي، خاصةً مَن اشتهروا بهذا العمل
الذي ملأ المطابع وخِزَانات الكتب ومعارضها الدولية، ومن هؤلاء على سبيل المثال
والاختصار دون الحصر أو الإسهاب: الشيخان شعيب وعبدالقادر الأرناؤوط، ومحمد ناصر
الدين الألباني المُحدِّث المُحقِّق، وبشار عواد معروف، وأحمد شاكر وتلميذه محمد
محيي الدين عبدالحميد، وعبدالسلام هارون، وأكرم ضياء العمري، وعبدالكريم زيدان،
ومحمد حامد الفقي، ومحمد فؤاد عبدالباقي، وإبراهيم شبوح، وغيرهم كثير مما لا يسع
المقام لذِكْر القوائم الكثيرة منهم.
والمسلمون بهذا التحقيق والطباعة تجاوزوا إلى حدٍّ كبير الاحتياج السابق إلى كتب
التراث بالتحقيقات الغربية الاستشراقية، وما عليها، وبما فيها من إيجابيات. وهي
التي أدَّت في مرحلة تاريخية سابقة دورًا لا يُستهان به في صعيدها الإيجابي من
التعريف بحجم التراث، لكنَّ المكتبة العلمية الإسلامية ظَهَرت خلال السبعين السنة
الماضية تقريبًا بشخصيتها المستقلَّة في توفير صورٍ لمخطوطاتٍ كثيرة من أنحاء
العالم في معاهد ومكتبات وجامعات عربية وإسلامية، وتحويل بعضها بعد التحقيق إلى
مطبوع، لا سيما من المخطوطات المتاحة، وكذلك من إعادة بعض المطبوع بتحقيق آخر أكثر
دقة وقوة علمية.
بل أصبح من الواضح أن المكتبة العربية الإسلامية تجاوزت إلى حدٍّ كبير مُنتجات
مكتبات الاستشراق في كتابة بعض مؤلفات التاريخ ورواياته ومناهجه. وتمت إعادة طباعة
أمهات كتب التاريخ وذلك بتحقيقات علمية متميزة -كما سبق-. وهذا من اليقظة المعرفية
التي نهضت بها كثيرٌ من الجامعات والمكتبات ومراكز البحث العلمي والمكتبات العامة
العربية والإسلامية. وصاحَب هذا اهتمام كبير لدى كثيرٍ من أجيال العلم والمعرفة
وبعض شيوخ العلم ورموز التحقيق بعموم التاريخ ومناهجه، وما سبق من نهضة علمية
بكُتُب التراث لدى العرب والمسلمين هو ممَّا يمكن تسمية معظمه بالاستغراب.
ومما يمكن أن يُعَدَّ مِن هذا الاستغراب أو مِن هذه الصحوة أو اليقظة العلمية لدى
المسلمين في عصورهم المتأخرة ما يدخل في دراسة أحوال الغربيين وبحوثهم وحياتهم
ووسائل تطوُّرهم المعرفي ونقاط قوتهم وضعفهم، علمًا بأن هذه الوسيلة بالقراءة عن
الآخرين ليست جديدة؛ حيث الترجمة لدى العرب المسلمين كانت قد بدأت زمن أبي جعفر
المنصور (135-158هـ)، ثم كان بيت الحكمة الذي أَسَّسَه هارون الرشيد (170-193هـ)
زمن الدولة العباسية، مما قد يُعدُّ آنذاك من أدوات الاستغراب في جوانب الترجمة،
وإن لم تكن هذه التسمية ودراسة أحوال الغرب تحديدًا، وقد كَتَبَ في موضوع الاستغراب
أساتذة متمكنون علميًّا مثل الدكتور حسن حنفي والدكتور علي النملة والدكتور أحمد
الشيخ، وغيرهم بِكُتبٍ وكتاباتٍ علمية.
وحول هذا المصطلح (الاستغراب) دون تعقيدات لغوية، فهو: معرفتنا بالغرب وعلومه
وأحواله. وهو عند النملة:
«مفهومُ
قديمٌ في محتواه وطُرُقه، فهو غير جديد؛ إذ إنه ذو علاقة بما بين الشرق الإسلامي من
جهة والغرب المسيحي اليهودي أو العلماني من جهة أخرى»[11]،
ومصطلح الاستغراب ما يزال علمًا في بدايته، لكنْ بالتأكيد له قواعده التي لم تتشكل
بعدُ بصورتها النهائية[12]،
وظهور هذا التوجه العلمي لدى بعض علماء المسلمين ومفكريهم لا يخرج عن يقظتهم تجاه
تاريخهم وتراثهم مخطوطًا كان أم مطبوعًا.
ومن (الاستغراب) كذلك القراءة والكتابة حول الغرب والاستشراق، وقد بدأت هذه الحركة
العلمية بكتب ومؤلفات عربية كَتَبَت عن تاريخ الغرب وتحولاته الفكرية ومدارسه
ومناهجه وطرائقه ودوافعه وأهدافه ورصده، بل وحصر إنتاجه بمعاجم، ولكن يصعب حصرها[13].
ويُمكن أن يُعدَّ من الاستغراب نَقْل حداثة الغرب أو نقدها، لا سيما مع تحولات
احتضار ثقافة الغرب وصعود الإسلام عقيدةً وفكرًا وثقافةً واعتناقًا مع أُفول سيادة
ما يمكن تسميته الإمبريالية العلمية، وانحسار مفاهيم السيادة الفكرية الغربية،
إضافةً إلى تنامي الدراسات النقدية للغرب، وما صحب هذا من سهولة الطباعة والترجمة
وتطلعات التحرر الثقافي والسيادي بصورة عامة لدى كثير من نُخَب المجتمعات الإسلامية
وكثير من شعوبها. لكن هل سيواجه الاستغراب صعوبة التبني بمؤسسات واستراتيجيات
ومشاريع علمية مثل غيره من تحديات وسائل النهضة الأخرى؟ ولعل في ظروف هذه التحولات
العالمية حول أفول بريق الحضارة الغربية مع فوز الإسلام وانتشاره وانتصار أفكاره
يكون العمل بأَوَّلية إجراء تحول جوهري في بنية التفكير لدى النخب الفكرية
والسياسية ما أمكن ذلك[14].
ولهذا فالتعاطي الصحيح مع مشروع الاستغراب يكون بالتضحية والبذل في سبيل إنجاحه
بمشروع مختلف الأهداف والوسائل عن الاستشراق، ويتَّسم بالعدل والموضوعية، والمنهجية
العلمية، وهو ما يتطلب تضافر جهود الجهات الرسمية العلمية المعنية مع الجهود غير
الرسمية؛ لإنجاح قوته وفاعليته واستمراره، فالخطوة الأولى في طريق السيادة هي
بتحرير العلم والمعرفة، ودعم الفكر المستقل.
وقد جاء هذا الاستغراب الذي ظهرت آثاره العلمية المفيدة في كثير من الكتابات
والتحقيقات العلمية، بالرغم من عدم وجود استراتيجيات متكاملة ومشاريع جماعية مؤسسية
عربية؛ حيث إن هذا الاهتمام يُعدُّ في معظمه جهودًا فردية بنزعة فطرية وغيْرةٍ
للحفاظ على الهوية والاعتزاز بها، وهو في الوقت ذاته اهتمام مشترك بين بعض النخب في
دراسة الحياة الغربية بأدبياتها التاريخية والاجتماعية واللغوية والسياسية
والاقتصادية والصناعية. وقد قامت دراسات نظرية زخرت بها كثير من المكتبات العامة
والخاصة، وكذلك تضاعفت البحوث والدراسات العربية عن تاريخ الغرب وثقافته، حينما
نُقِلَت بعض كتبهم وأبحاثهم بترجمتها إلى اللغة العربية، فصدرت مجموعات وإصدارات من
الكتب والمؤلفات عن جوانب مهمة وكثيرة متنوّعة من الحياة الغربية نقدية وغير
نقدية.
ويمكن أن تكون بعض جوانب الابتعاث الطلابي إلى الغرب من دول العالم الإسلامي
تُشَكِّل ببعض تفاصيلها ما يمكن تسميته بالاستغراب. وهذا الاستغراب يُعدُّ من
المؤشرات الإيجابية للصحوة المعرفية في ساحات الفكر والثقافة، لا سيما عند نَقْل
المفيد ونقد غيره من تراث الغرب وعلومه، والأيام دُوَل بين الأمم والشعوب والحضارات
في تبادل العلوم والمعارف وتطويرها واستثمارها.
وحينما يرى الباحثون هذه الجهود العلمية المكتوبة عن الاستشراق بمؤلفات وبحوث
ومعاجم يُدرك الراصد العلمي أن الاستغراب قد وضع قدمه بين العلوم والمعارف مع
الاستشراق، إن لم يزد عليه في بعض الجوانب ويتفوق عليه.
وأقول مختتمًا عن هذه اليقظة أو الصحوة العلمية المعرفية: إنها يقظة عامة عالمية
مرتبطة بصورة مباشرة أو غير مباشرة بكِتَاب مُقدَّس لا يموت، ولا يموت أتباعُه،
فأُمّة الإسلام تمرض ولا تموت، وتراثها كذلك، لا سيما بعد ما حَمَلت وبلَّغت
الحضارة بشموخ إلى الإنسانية جمعاء دون تمييز، ولو كانت ستموت بتراثها لماتت بعد
غزوات المغول، أو بعد محاكم التفتيش وسقوط الأندلس، أو بعد الحملات الصليبية القديم
منها والحديث، أو مع حِقَب الاحتلال الكبير لمعظم أطراف العالم الإسلامي وأقاليمه،
ولكنَّ الحقيقة، حسب سنن التاريخ، أن الاستشراق واحتلال الغرب لأقاليم العالم
الإسلامي كان على أُمَّةٍ قد أعياها المرض، فكانت فرصة لقفز استشراق الغرب، فهي
السنن الربانية باغتنام الفرص، والأيام دُوَل بين الناس.
فالراصد لحركة التاريخ يرى أن كل حملات الصليب الخشنة والناعمة (العسكرية
والفكرية)، وكل احتلال جغرافي أو فكري لا يأتي إلا مع مرض أو بعد استرخاء لدى أمة
الإسلام، فالتاريخ يُعلِّم الأجيال أن بعد كلّ سبات نوم عميق تكون اليقظة والنهوض
حسب السنن الكونية للحياة؛ كما هو الاستغراب بعد الاستشراق.
ويمكن أن يُضاف إلى هذا الواقع للاستغراب شيءٌ من الرؤية الاستشرافية لهذا العلم
ومستقبله؛ حيث تشير بعض المؤشرات إلى نُمُوّ الاستغراب وأُفُول مدارس الاستشراق
التي أدَّت دورها خاصةً بجانبها الاستعماري (الاحتلال)، إضافةً إلى مؤشرات تنامي
النهضة العلمية والمعرفية المستقلة لدى المسلمين، ويبقى أن العنصر الغائب لهذه
الرؤية المتفائلة هو دَفْع هذا العمل الجادّ بقوة لتحقيق السنن الربانية الكونية
التي تحكم الحياة؛ كما قال المولى -جل وعلا-: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت:69]، مع مراعاة ما يقابلها من السنن
الإلهية الأخرى؛ ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ
لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمد:38].
وبهذه اليقظة العلمية أو الصحوة المعرفية الحديثة لدى النُّخَب من العرب والمسلمين
حول علومهم وتراثهم، بل وعن الغرب وعلومهم أصبح لدى المسلمين تجاه تحقيق تراثهم
بديلٌ منافِسٌ لإنتاج المستشرقين السابق في ميدان التحقيق أو ميادين التأليف، وهذا
القول عن مستوى المنافسة بين (الاستشراق وبداية الاستغراب) قائم على الاستنتاج
العام، وشيء من الاجتهاد في المقارنة أو الملاحظة الشخصية العامة أكثر من كونه
قائمًا على الإحصاء والدراسة عن حجم هذا التحول الإيجابي لدى المسلمين مع تراثهم،
ولعل هذا يكون موضع اهتمام وبحث علمي (مقترح) مِنْ قِبَلِ أيّ مُؤرّخ أو باحِث؛
لتكون نتائجه أدق وأوضح.
وقد يكون في هذا الاستنتاج ونتيجته العامة عَوْدٌ للحق إلى نصابه، والله
أعلم.
[1] انظر: (مقدمة صحيح مسلم: 1/15)، (الكفاية: ص 558)، (الجرح والتعديل: 2/16).
ويمكن الرجوع للمزيد عن تشريعات التوثيق لدى المسلمين في موضوع (ملامح تقريبية
لمنهج ابن سعد في رجال الأسانيد) في هذا المبحث.
[2] انظر: مارجوليوث، دراسات عن المؤرخين العرب، ترجمة حسين نصار، بيروت: دار
الثقافة، ص31-32.
[3] انظر: زيغريدج هونكه، شمس الله تسطع على الغرب – أثر الحضارة العربية في
أوروبا، ط8، بيروت: دار الجيل/ دار الآفاق الجديدة، 1413هـ (1993م)، ص286.
[4] انظر: غوستاف لوبون، حضارة العرب، القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2013م، ص584.
[5] انظر: رائد أمير عبدالله، بحث بعنوان: (المستشرقون الألمان وجهودهم تجاه
المخطوطات العربية الإسلامية)، ص30.
[6] كَتب كَثيرٌ من الباحثين المسلمين بعض الكتب عن قواعد وأصول تحقيق المخطوطات
–بعد ظهور الطباعة والمطابع-، وهي قائمةٌ على منهج مَن سبقهم من علماء المسلمين،
انظر على سبيل المثال: صلاح الدين المنجد، قواعد لتحقيق المخطوطات، ط7، بيروت: دار
الكتاب الجديد، 1987م، ص7-8، وغير هذا كثير.
[7] انظر: علي بن إبراهيم النملة، محاضرة بعنوان: (محمد فؤاد سزكين: انطلاقة عالم).
[8] انظر: عرفان يلماز، مُكتشف الكنز المفقود فؤاد سزكين، ص14-15.
[9] انظر: المرجع السابق، ص22-23.
[10] انظر: المرجع السابق، ص108-109.
[11] انظر: علي بن إبراهيم النملة، كُنْه الاستغراب.. المنهج في فهمنا الغرب،
الرياض: بيسان للنشر والتوزيع، 1436هـ، ص30.
[12] انظر عن تفاصيل ومعلومات إضافية حول الاستغراب الأستاذ الدكتور أحمد الشيخ،
(من نقد الاستشراق إلى نقد الاستغراب.. المثقفون العرب والغرب)، وانظر الدكتور علي
النملة، (كُنْهُ الاستغراب.. المنهج في فهمنا الغرب).
[13] انظر على سبيل المثال بعض إصدارات مركز تكوين ومنها: كتاب (ظاهرة نقد الدين في
الفكر الغربي الحديث) لسلطان العميري، في مجلدين، ومن ذلك مشروع أسلمة المعرفة الذي
بدأه الفاروقي في أمريكا، ونتج عنه نشأة المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
[14] انظر: محمود حيدر، ما هو علم الاستغراب؟.. تصورات أولية في المفهوم والمصطلح،
موقع أكاديميا (academia)،
على الرابط التالي:
https://bit.ly/3tSmBUW،
وحول الأُفول والفوز يمكن الاطلاع على كتاب (المفكر الألماني مراد
«ويلفرد»
هوفمان – رؤيته في احتضار الغرب وصعود الإسلام) للدكتور محمد السلومي.