وكمظلة لـ«التطبيع» بين الدول العربية والكيان الصهيوني، كانت الدعوة إلى «الإبراهيمية» الزائفة التي أُريد لها أن تكون عنوانًا على انسلاخ المسلم من دينه والانخراط في عقيدة واحدة مع أصحاب عقائد تنسب الأغلاط والأولاد لله -عز وجل، وتعالى عما يقولون علوًّا كبيرً
قبل نحو 1440 عامًا، وقف رؤساء اليهود يجادلون رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، يقولون:
«والله
يا محمد لقد علمتَ أنَّا أَوْلَى الناس بدين إبراهيم منك ومن غيرك، فإنه كان
يهوديًّا، وما بك إلا الحسد»؛
فأنزل الله -تعالى-: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ
اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ
الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68]؛ فأخص النّاس بإبراهيم وأقربهم وأجدرهم بدينه هم
المسلمون.
جادل اليهود حينها؛ فجاءتهم الآية دامغةً تُبيِّن للناس جميعًا أن ولاية إبراهيم لا
تتحقق إلا لمن
«تخلّقوا
بأصول شرعه، وعرفوا قَدْره، وكانوا له لسان صدق دائبًا بذِكْره، فهؤلاء أحقّ به
ممّن انتسبوا إليه لكنهم نقضوا أصول شرعه وهم المشركون، ومن الذين انتسبوا إليه
وأنسوا ذِكْر شرعه، وهم اليهود والنصارى»
[التحرير والتنوير: تفسير الآية].
ثم عاد اليهود والنصارى مجدّدًا اليوم يدندنون حول نفس المعنى، يقولون: إننا جميعًا
إبراهيميُّون؛ فلنكن أصحاب دين واحد يجمع بين الذين أنعم الله عليهم والمغضوب عليهم
والضالين!
فرية قديمة/حديثة تأخذ أشكالًا متنوعة، لكنها تتوحد في غاياتها، وهي زلزلة الاعتقاد
الإسلامي وتمييع العقائد، وسلب الإيمان من قلوب الموحدين، جاءت اليوم بدعوة
«الدين
الإبراهيمي»،
أو
«البيت
الإبراهيمي»،
أو غيره من المصطلحات المعاصرة الرامية إلى تذويب العقيدة الإسلامية في أخلاط
متضاربة المشارب تصهر الإيمان والكفر معًا في بوتقة واحدة!
وكمظلة لـ«التطبيع»
بين الدول العربية والكيان الصهيوني، كانت الدعوة إلى
«الإبراهيمية»
الزائفة التي أُريد لها أن تكون عنوانًا على انسلاخ المسلم من دينه والانخراط في
عقيدة واحدة مع أصحاب عقائد تنسب الأغلاط والأولاد لله -عز وجل، وتعالى عما يقولون
علوًّا كبيرًا-.
وكانت الدعوة إلى
«الإبراهيمية»
الزائفة لتمرير اتفاقات خنوع وتطبيع، وإقامة معابد تُقام فيها صلوات مجمّعة
للمسلمين واليهود والنصارى، وتشكيل تجمُّعات شبابية للتقريب بين أصحاب العقائد
الثلاث، وتغييرات في مناهج التعليم في عدد من الدول المسلمة؛ للقبول بهذه الدعوة
الخبيثة التي تَهدف إلى فرض أداة جديدة للتحكم في المسلمين وإخراجهم من دينهم؛
مصداقًا لقول الله -عز وجل-: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ
يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ
أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109].
هذا هو المقصود، إذن كيف نقاومه، ونقلب سِحْره على أصحابه؟
يتبدَّى الحل الأنجع في معاودة تبيان ما قد دحَض به القرآن الكريم هذه الدعوة أوّل
مرة، سواء في معرض الرد على أصحاب دعوات احتكار دين إبراهيم -عليه السلام-، أو عبر
إيضاح سبيله وملامح دعوته.
رُبّ ضارة نافعة، والقوم إذ أطلقوها
«إبراهيمية»؛
فقد آن لأهل الحق أن يُوضّحوا ما اندرس في أذهان كثير من الناس عن الملة
الإبراهيمية؛ فكما قيل:
وإذا أراد الله نشر فضيلة
طُوِيت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت
ما كان يُعرَف طِيب عَرف العود
هي فرصة سنحت أن يُتحدَّث عن الإسلام كدين الأنبياء جميعًا، وفي موضع بارز فيهم أبو
الأنبياء خليل الرحمن إبراهيم -عليه السلام-؛ فلمناهضة هذه الدعوة الزائفة
للإبراهيمية لا بد أن يقال:
•
إن دين إبراهيم -عليه السلام- هو الإسلام وحده، وقد تجلى هذا المعنى في القرآن
كثيرًا، يقول الله -عز وجل- عنه: {كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} [آل عمران: 67]،
ويقول -سبحانه-: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَن سَفِهَ
نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَـمِنَ
الصَّالِـحِينَ 130 إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ
الْعَالَمِينَ} [البقرة: 130، 131]، فالراغب عن الإسلام إلى غيره هو سفيه، ولا
مجال للعقلاء في إيجاد أرضية مشتركة لا عقدية ولا سياسية مع السفهاء.
•
إن وصية إبراهيم -عليه السلام- لبنيه ومَن يلونهم هي التمسك بالإسلام لا سواه، يقول
الله -سبحانه-: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132]، فإبراهيم -عليه السلام- لم يُوصِ بديانة تجمع ما
بين إسلام وغيره من العقائد المنحرفة، حاشاه. كما أنه سمَّى هذه الأمة بالمسلمين
-كما قال غير مُفسّر في قوله تعالى-: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ
سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78]، ودعا ربه أن يكون مسلمًا:
{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً
مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128].
•
إن الملة الإبراهيمية لا تلتقي أبدًا مع العقيدتين اليهودية والنصرانية؛ اللتين
اتسمتا بالشرك، كغيرهما من الأديان الباطلة، لا، ولا يصلح أبدًا نسبة إبراهيم -عليه
السلام- لأيٍّ من تلك الملتين: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا
نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
[آل عمران: 67]، {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ
بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة:
135].
•
إن أبرز ملامح دين إبراهيم -عليه السلام- هو البراءة من غير المسلمين عمومًا، بل إن
واحدة من أظهر دواعي تأسّي المسلمين بإبراهيم -عليه السلام- هو ذاك، وإليه دعانا
القرآن العظيم قبل أن تنتشر هذه الدعوة الإبراهيمية الزائفة بأربعة عشر قرنًا، يقول
الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ
وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الممتحنة: 4]، فبراءة إبراهيم -عليه السلام-
من غير الإسلام ثابتة وشاملة لأبيه وقومه وذريته، فكيف يتأسى بإبراهيم -عليه
السلام- في نقيض ذلك تمامًا؟!
•
ويلي ذلك أن نوع العلاقة الصحيحة التي تجمع بين كل
«الإبراهيميين»
الحقيقيين هي الإيمان والإسلام، فحتى البراءة من غيرهم هي مُؤقّتة وتزول بإسلام
هؤلاء؛ فتمام الآية السابقة هي: {إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ
وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4].
•
إن مغزى الاقتداء بإبراهيم -عليه السلام- في رَفْضه للشرك يتَّسع ليشمل سياسة فرض
العقائد الباطلة بقوة الطغيان، وهو الذي تبدَّى من تحدّي خليل الرحمن لواحدة من
أقسى أنواع
«العولمة
الشركية»؛
فكان رفضه لشرك النمروذ هو رفض كذلك لإرادة كهذه تفرض سطوتها على عالم كامل كان
يحكمه النمروذ، وتحدّاه بمنتهى الشجاعة والجرأة والقوة والإيمان أبو الأنبياء -عليه
السلام-. وإنّ الطريقة القسرية التي يُراد بها فَرْض الإبراهيمية الزائفة لا تَبتعد
كثيرًا في مضمونها عن تلك الجبرية التي أرادها النمروذ؛ فرفضها الخليل. إن مقتضى
التأسي بالإبراهيمية الحقة هو رفض الإبراهيمية الزائفة بالقوة ذاتها التي ناهض بها
الخليل الإرادة النمروذية العالمية.
•
إن واحدة من الصفات التي لازمت إبراهيم -عليه السلام- في كثير من المواضع في كتاب
الله -عز وجل- أنه كان {حَنِيفًا}؛ أي مائلًا إلى الحق، وهذا يُؤشّر إلى أنه
لم يكن يومًا متوسطًا بين الحق والباطل، ولم يكن ليرضى بالجمع بين الحق والباطل،
والإيمان والكفر، على شاكلة ما تدعو إليه الإبراهيمية الزائفة. والحق أن الحنيفية
بمعنى الميل إلى الحق هي مضادة تمامًا لليهودية والنصرانية بنص تلك الآية: {مَا
كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا
مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67]، بل لقد كان خليل
الرحمن يُوصَف بأنه
«رئيس
الموحدين»
مثلما ورد في جملة من التفاسير؛ فدعوته للتوحيد الخالص ونَبْذ كل ألوان الشرك
ظاهرةٌ في قصص القرآن عنه كثيرًا.
•
إن السلام الذي يتظلل بدعوة إبراهيمية زائفة هو مثلها زائف لا يمكن له أن يتحقق،
وإن الأمن الذي يقوم عليها هو وَهْم مُحَال أن يتجسَّد واقعًا، وهذا ما يُؤكّده أبو
الأنبياء -عليه السلام- بنفسه، فمفهوم الأمن عنده هو في إقامة التوحيد ونَبْذ كل
أنواع الكفر والشرك، ولهذا يجادل المشركين بقوله: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا
أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ
بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إن كُنتُمْ
تَعْلَمُونَ 81 الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ
أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 81، 82].
•
إن الصراط المستقيم الذي ارتضاه الله للمؤمنين، وأرشدهم لتلمُّسه، والدعاء
بالاهتداء لسلوكه في سورة الفاتحة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}
[الفاتحة: 6]، ثم بيَّن -سبحانه- أنه صراط {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ
وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]؛ أي اليهود والنصارى، وهو ذاته صراط إبراهيم
-عليه السلام- الذي قال عنه -سبحانه- أنه {اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 121].
•
إن الملة الإبراهيمية ليست غريبة على الأمة الإسلامية حتى تحتاج لوساطة من
مناهضيهما للتعرف إليها؛ فهي في قلب اعتقادنا وشريعتنا، إليها ننتسب؛ فهي ملة أبينا
إبراهيم، وهي هادية إلى نُسُكنا الذي نتنسك به؛ فأحد أركان الإسلام الذي نتعبَّد به
هو نفسه الحج الذي قام به إبراهيم -عليه السلام-؛ في كلّ مشاعره، وحركاته وسكناته،
والركن الثاني لا يخلو كذلك من ذِكْر إبراهيم -عليه السلام- في التشهُّد، ما يعني
أن الإبراهيمية المزعومة هي طريقة مبتدعة مجافية لتلك السلسلة الممتدة الناظمة
لعلاقة هذه الأمة بأبيها إبراهيم -عليه السلام-.
هذا ما يقتضيه الإيمان بكتاب الله -عز وجل-، وما يرشد إليه من التعرُّف إلى
الإبراهيمية الحقة التي يتضح ابتعادها تمامًا عن تلك الزائفة التي تناقضها في كل
ثوابتها ومضامينها ومحالّ القدوة فيها.
أما ما يقتضيه الواقع؛ فإن الدين الإبراهيمي أو الإبراهيمية بمعانيها التي يسوقها
عرّابو التطبيع سواء أعمدت إلى دمج الإسلام مع غيره، أم زعمت أنها مجرد فكرة
للتعايش بين ما يُسمَّى بأصحاب الديانات الثلاث هي في مضمونها تحمل أهدافًا سياسية
تمر عبر:
- إقامة حلف إقليمي في المنطقة العربية تقوده
«إسرائيل».
- إضفاء قداسة لها مردود سياسي على
«مسار
إبراهيم»
المارّ بعدة دول في المنطقة تطابق جغرافية
«إسرائيل
الكبرى»
من النيل إلى الفرات.
- تذويب قضية القدس في إطار ديني مشترك.
- مَحْو قضيتي المستوطنات وحقّ العودة.
وإذا كان التسويق لدين جديد يضم الإسلام واليهودية والنصرانية يبدو بعيد المنال على
الداعين إليه؛ فإن الأهداف السياسية هي عين ما يسعى إليه مطلقو الدعوة إلى
الإبراهيمية ومغزاها الرئيس، وما الدعوة الإبراهيمية إلا محاولة للتظليل على أشعة
الإخضاع الغربي الكامل للعرب لمصلحة
«إسرائيل»
الحارقة، والانتقال من فكرة
«التطبيع»
التقليدية القائمة على
«التعايش»
مع
«إسرائيل»
كأمر واقع مبني على القبول الوجودي للكيان الصهيوني والتعامل الاقتصادي وغيره معه،
إلى تسليم لجام النظم العربية تمامًا للكيان وخضوعها عسكريًّا لقيادة
«إسرائيلية»
للمنطقة تحت مظلة
«الإبراهيمية»،
والتي وضعت جميع الاتفاقات مع الكيان في الآونة الأخيرة أسفل لافتتها المشبوهة.
المطلوب فَضْح هذا المخطط برُمّته، بشقيه الشرعي والسياسي، وفي شقه الأخير لا بد من
كشف الآثار السياسية والاجتماعية والاستراتيجية لهذا المخطط:
استراتيجيًّا:
يتعين التوكيد على أن الأحلاف لا تُقام بين قوًى متفاوتة في القوة مثلما هو الحال
بين الكيان الصهيوني المدعوم كليًّا من الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الغربية
الرئيسة، والدول العربية الهزيلة في قوتها العسكرية، الهشّة في اقتصاداتها
الاستهلاكية، التي لا تَملك أيًّا من مقوّمات القوة؛ فالأحلاف التي تقوم على قوى
متفاوتة كثيرًا في القوة كهذه ليست إلا احتلالًا مقنعًا، وهذا سيعني شرعنة الاحتلال
الصهيوني ليس لفلسطين والجولان وحدهما، وإنما شرعنة ذلك في جغرافيا واسعة باتت تشمل
الآن حدود
«إسرائيل
الكبرى»،
وتجعل منها واقعًا عسكريًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا.
ينبغي إذن تشديد المراكز البحثية والوسائل الإعلامية المؤمنة بافتراق الطريق بين
الإسلام وغيره الإلحاح على هذا المعنى ونشره وترديده في كل مَحْفل متاح.
ثقافيًّا:
أُريد للإبراهيمية أن تتخطَّى حدود فكرة التعايش الديني إلى ترسيخ القبول بالسيادة
الصهيونية على القدس؛ فإذا حاولت منظمة الأونروا حذف عبارة
«القدس
عاصمة فلسطين»،
من مقرراتها الدراسية للصفوف الابتدائية، لتحل عبارة
«القدس
مدينة إبراهيمية»
مكانها؛ فإن ذلك يعني أن الجهات التي تقف خلف الدعوة الإبراهيمية الزائفة أدخلت
مخططاتها حيّز التنفيذ الثقافي، وأمست تُمثّل تهديدًا ثقافيًّا للنشء ليس في فلسطين
وحدها؛ التي تيَّقظ أهلها، فأوقفوا تلك المهزلة بعد موجة سخط واعية من الأهالي
هناك، وإنما سيُصار إلى تنفيذها في كلّ بلد تُصيب مسؤوليه غفلة أو شيء قريب منها.
لقد ولدت
«الإبراهيمية»
الزائفة في أرحام جامعة هارفارد وجامعة فلوريدا، ثم أظهرتها
«راند»،
لكنها سرعان ما ستَخترق مراكز ومؤسسات عربية مستفيدةً من رضا أطراف نافذة في بلاد
عربية محيطة بفلسطين من جهاتها الأربع.
هذا التسويق ينبغي أن يجد مَن يتصدَّى له، كاشفًا ما وراء تسويق دعوة كتلك،
ومردودها في الإخضاع الثقافي الشامل للشعوب المسلمة.
وكما تقدَّم، استراتيجيًّا؛ فإنه أيضًا ثقافيًّا لا تمر الفكرة كلون من ألوان
التحالف المتكافئ -مع تحفُّظنا بالطبع على تحالف الأديان أو توحيدها!- فحسب، بل هي
حتى في هذا السياق واقعة تحت تأثير القوة الأكبر في هذا الخليط المزعج، أليس غريبًا
أن
«البيت
الإبراهيمي»
الذي كاد أن يُستكمل بناؤه في دولة خليجية قد وقع اختيار تصميمه على المعماري
العالمي الشهير اليهودي السير ديفيد أجايي أوبي من ضمن مصممين من
«كافة
الأديان»؛
كما أعلن؟!
حقوقيًّا:
ينبغي التحذير من فكرة الإبراهيمية الزائفة تلك، لا لكونها تتعارض مع الإسلام فحسب؛
بل لأنها كذلك تهدّد حرية المعتقد المُعترَف بها دوليًّا كحق للأفراد والمجتمعات؛
فالجهات التي تحاول التسويق للإبراهيمية غير مأمونة على تلك الحرية؛ لأنها هي ذاتها
التي باتت تُمثّل تهديدًا للحريات الشخصية والجماعية في العالم؛ فهي ذاتها التي
تَفرض اتفاقات السيداو وغيرها، وهي التي تجعل من مناهضة الشذوذ جريمة، وهي التي
تفرض تفسيرًا واحدًا للإرهاب يستثني إرهاب الدول الكبرى وأتباعها، وهي التي تفرض
نظامًا دوليًّا يركّز السلطة الدولية في أيدي خمسة من الدول المتجبرة التي تمارس
الاحتلال والإخضاع لسائر دول العالم.. إنها باختصار سلطة غير أمينة على
«حرية
المعتقد»
في العالم. ولهذا حذّر شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب من سياسة أحادية كتلك، فيقول:
«إن
الدعوة لـ«الإبراهيمية»
تبدو في ظاهر أمرها دعوة للاجتماع الإنساني والقضاء على أسباب النزاعات والصراعات،
وهي في الحقيقة دعوة إلى مصادرة حرية الاعتقاد وحرية الإيمان والاختيار».
إنَّ التسويق لديانة كتلك مقصود منه إخضاع أصحاب الديانات الحقة وغير الحقة لمفاهيم
وممارسات واحدة بشكل سلطوي؛ يبدأ اختياريًّا ثم يؤول إلى نوع من الجَبْر والقهر
عليه، على خلاف ما عليه الإسلام الذي يتيح للناس حرية الإيمان به -ابتداءً- أو عدم
الإيمان به. وعليه؛ فإنه يتوجب على مناهضي الإبراهيمية الزائفة أن ينتبهوا إلى هذه
النقطة أيضًا، ويقاوموها بالقول والعمل.
اجتماعيًّا:
سيُفضي الإيمان بقَدْر من
«الإبراهيمية»
الزائفة، كدين أو كمجموعة أديان متضافرة إلى شرعنة التهجير القسري للفلسطينيين،
وبناء المغتصبات الصهيونية؛ لاعتبارها ضمن إطار جامع لأتباع الإبراهيمية يدحض فكرة
أحقية المسلمين بأرض فلسطين بغضّ النظر عن القدرة على إنهاء الاحتلال من عدمه؛ لأن
الاحتلال حينها سوف لن يكون سوى تجسيد للإبراهيمية ومسارها الذي يجمع ما بين دول
تركيا وسوريا والعراق ومصر والأردن ولبنان والسعودية وإيران وفلسطين؛ باعتبارها
الدول التي تضم
«المسار
الإبراهيمي المقدّس»
الذي بدأ من حران بتركيا، وانتهى بالخليل في فلسطين المحتلة، وهو المسار الذي لا
يعدو أن يكون مطابقًا لحدود
«إسرائيل
الكبرى»،
ويجعل من هذا المسار مرجعًا جغرافيًّا لتوحيد دول الإقليم تلك في حلف إقليمي تقوده
«إسرائيل»،
ويقنن هيمنتها واحتلالها الممتد.
هذا المسار إن جاز للمسلمين أن يُولُوه عنايةً ما؛ فإنه لا ينبغي أن يَخرج عن إطار
توحيدي للشعوب المسلمة نفسها، ولا يَحيد عن دين الإسلام ذاته ودعوته إلى التوحيد
الخالص من كافة أنواع الشرك، هذا الدين الذي أتى به إبراهيم وموسى وعيسى -عليهم
السلام-، هذا التوحيد الجغرافي لا بد أن يكون تحت عنوان توحيد الله -عز وجل-
والاستسلام له إذعانًا وإسلامًا، مصداقًا؛ لقوله -عز وجل-: {وَقَالُوا كُونُوا
هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا
كَانَ مِنَ الْـمُشْرِكِينَ 135 قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إلَيْنَا
وَمَا أُنزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن
رَّبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ 136
فَإنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَّإن تَوَلَّوْا
فَإنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ} [البقرة: 135 - 137].
* * *
بهذه الإحاطة وذاك الشمول لا بد أن تُقاوَم فكرة الإبراهيمية الزائفة، وإذا كنّا لا
نتوقّع لها نجاحًا كبيرًا في مسارها الشرعي؛ لصعوبة فكرة توحيد الأديان تلك، ورَفْض
كبريات المؤسسات الدينية المسلمة والنصرانية في المنطقة لها؛ فإنَّ أربابها لا
يَطمعون بالضرورة في هذا التوحيد، بل في تمييع المفاهيم الدينية من جهةٍ، واستثمار
تلك الهشاشة الدينية لدى الشعوب المسلمة لتقبُّل الخضوع التّام لحكم تل أبيب
وحكامها من جهة أخرى.
وهنا يتعين أن تتيقظ الأمة، نُخْبتها، ودُعاتها، وإعلامها، ومراكزها الفكرية،
وينبغي أن يُتَّخذ من هذه الفتنة فرصة للتعريف بأبجديات هذا الدين، واتصال الدعوة
الإبراهيمية ماضٍ نحو آدم -عليه السلام-، ومستقبلًا نحو محمد صلى الله عليه وسلم ..
ويتوجب أن تُهتَبل هذه المساحة التي وفَّرها أعداء إبراهيم -عليه السلام- لنشر
دعوته والتعريف بمساحة التوكيد الواسعة في خطابه عن الإسلام، وترسيخ مفهوم الإسلام
بمعناه الحقيقي الذي يضمّ صفًّا طويلًا جدًّا مِن الذين أنعم الله عليهم من غير
المغضوب عليهم (اليهود ومن شاكلهم)، ولا الضالين (من النصارى ومن شابههم).