إن مدة بقاء المسلمين في جنوبي فرنسا لم تكن طويلة؛ إذ إنها لم تتجاوز أربعين عاماً (102 - 142هـ)، ومقام المسلمين خلالها لم يثبت على هيئة مستقرة في الأماكن التي افتتحوها، إلا الأماكن الحصينة جداً، وفي فترات قليلة
ارتبطت فتوحات المسلمين وعملية استقرارهم في جنوب فرنسا بأربعةٍ من ولاة الأندلس،
هم: السمح بن مالك الخولاني (رمضان 100 - ذي الحجة 102هـ)، وعنبسة بن سحيم الكلبي
(صفر 103 - شعبان 107هـ)، وعبد الرحمن الغافقي (صفر 112 - رمضان 114هـ)، وعقبة بن
الحجاج السلولي (شوال 116 - صفر 123هـ).
وقد تحدثنا سابقاً في مقالات عدة عن الجوانب العسكرية والسياسية لهذه الفتوحات. وفي
هذا المقال سنحاول تسليط الضوء على أسلوب حكم المسلمين للنواحي التي خضعت لسيطرتهم
في هذا الجزء من فرنسا من الناحية الإدارية، وكذلك على مَن نزله وأقام فيه من
المسلمين. وأحوال نصارى جنوبي فرنسا تحت الحكم الإسلامي.
أولاً: مميزات الوجود الإسلامي في جنوبي فرنسا
هناك العديد من المميزات التي ميزت الوجود الإسلامي في جنوبي فرنسا، والتي لا بد من
الإلمام بها قبل الدخول في صلب الموضوع.
ومن تلك المميزات ما يلي:
قِصَر مدة بقاء المسلمين واضطراب أحوالهم:
إن مدة بقاء المسلمين في جنوبي فرنسا لم تكن طويلة؛ إذ إنها لم تتجاوز أربعين عاماً
(102 - 142هـ)، ومقام المسلمين خلالها لم يثبت على هيئة مستقرة في الأماكن التي
افتتحوها، إلا الأماكن الحصينة جداً، وفي فترات قليلة؛ فقد ظلوا طوال مدة وجودهم
هناك في حروب مستمرة مع الفرنجة ودولتهم الصاعدة في الشمال، وفي عمليات كر وفر،
وتقدُّم وانسحاب؛ وبخاصة بعد أن انتصر عليهم هؤلاء الفرنجة في معركة بلاط الشهداء
(رمضان 114هـ)، فهذا الانتصار فتح شهية شارل مارتل رئيس بلاط دولة الفرنجة للزحف
على جنوبي بلاد الغال (جنوب فرنسا) وإخراج المسلمين منها نهائياً، وضمها لدولته
الصاعدة. وفيما بعد تبنَّى أبناؤه وخلفاؤه من الأسرة الكارولنجية هذه السياسة
نفسها، وكانت أسرةً فتية في طور التأسيس، وكان رجالها يجتهدون في إخماد البيت
الميروفنجي الحاكم للاستحواذ على العرش من دونه، وكانوا قد أنشؤوا لأنفسهم جيشاً
قوياً جمعوه من الفرنجة الأشداء ومن انضم إليهم من القبائل الجرمانية، ومضوا
يحاولون إخضاع غالة كلَّها، فأثارهم دخولُ المسلمين البلاد وتوغلُهم فيها وتغلُّبهم
على كلِّ من فكر في مناوأتهم من أهل الجنوب.
عدم ثبات حدود المنطقة التي خضعت للمسلمين:
إن المسلمين أمام تنامي خطر الفرنجة، وانصراف جهودهم المضادة لردهم، ومن ثَمَّ توقف
فتوحاتهم داخل القارة الأوروبية التي كانت مقصدَهم الرئيس من وجودهم في جنوب فرنسا،
اضطروا إلى أن يحتفظوا بمدن جنوبي فرنسا الساحلية، واتخاذها قواعد للدفاع عن وجودهم
هناك، وأيضاً لينطلقوا منها للفتح كلما أمكنهم ذلك. ولذلك نجد أن مساحة المناطق
التي خضعت للمسلمين في هذه الناحية قد تغيرت بين الضيق والاتساع، والتمدد
والانحسار، من آونة إلى أخرى، طبقاً لعمليات الكَرِّ والفَرِّ بينهم وبين الفرنجة.
فكان نفوذ المسلمين يمتد أحياناً ليشمل المنطقة الواقعة ما بين نربونة إلى الجنوب،
متصلاً بالبرت والأندلس على طول الساحل الشرقي، ويمتد في الشمال الشرقي إلى ليون
وأعالي نهر الرون وإلى آرل عند مصبِّه، ويمتد في الشمال الغربي إلى منطقة حوض نهر
الجارون التي تلي قرقشونة، ولم يسيطروا عليها دائماً كلَّها، وأحياناً يتقلص نفوذهم
فلا يتجاوز نيمة في الشمال الشرقي لنربونة، وقرقشونة في شمالها الغربي، وبعض المدن
خرجت عن سيطرة المسلمين، ثم عادت، ثم خرجت ثم عادت، ثم خرجت، ثم تقلصت سيطرة
المسلمين في نهاية المطاف، لتقتصر على نربونة وقرقشونة، حيث كانوا محاصرين فيهما من
قبل الفرنجة، ولم يكن نفوذهم يتجاوز أسوار هاتين المدينتين.
طول مدة الصراع بين المسلمين والفرنجة:
تميز الوجود الإسلامي بجنوبي فرنسا، من ضمن ما تميز به، بالصراع المستمر بينهم وبين
الفرنجة، وهذا الصراع قد أخذ وقتاً طويلاً نسبياً مقارنة بصراعهم مع القوط في
إسبانيا. وإن طول مدة هذا الصراع وحِدَّته وضراوته، وما بُذل خلاله من جهود مضنية،
كل ذلك أكد على أهمية جنوب فرنسا بالنسبة للمسلمين، وبالنسبة للفرنجة أيضاً: أما
المسلمون، فقد عدُّوه أحد الثغور بالغة الأهمية للدفاع عن وجود دولة الإسلام في
الأندلس، وأنه لا بدَّ من حمايته من أي عدوان يقع عليه. وأما الفرنجة فكانوا يرونه
امتداداً طبيعياً لدولتهم، ووسيلتَهم للاتصال بروما مركز النصرانية، وأيضاً
بمرسيليا وسيلتهم للاتصال بالعالم؛ فقد كانت المعاملات التجارية بين المملكة
الفرنجية والشرق، تجري عبر مرسيليا، التي كانت مِلاحتها تربطها بالقسطنطينية والشام
وشمال إفريقية ومصر وإسبانيا وإيطاليا. ولكن وضع الفرنجة - ممثَّلين في الأسرة
الكارولنجية حينذاك - كان أفضل بكثير من وضع المسلمين، نتيجة عوامل عديدة، منها:
القرب الجغرافي، ووفرة العامل البشري، ووحدة الصف؛ ولذلك فقد خضعت لهم هذه المناطق
في نهاية المطاف، على كرهٍ من أهلها القوط.
قلة أعداد المسلمين الفاتحين:
ذلك أن أعداد المسلمين الفاتحين في فرنسا كانت قليلة، ولم تكن كافية لتعمير ما
افتتحوه من بلاد في هذا الجزء البعيد عن الأندلس؛ فما بالك بمركز الخلافة بدمشق:
وكان كلُّ اعتماد المجاهدين في غالة على الأندلس وأهلها، ولم تكن أحوالهم قد استقرت
بعد، بل لم تكن أعدادهم كافية لسيادة الأندلس نفسها؛ فكيف بقُطر جديد تفصله عن
الأندلس جبال وعرة مثل جبال البرتات، وتقوم فيه شعوب جديدة فتية، يعمُر نفوسَ أهلها
من الآمال مثلُ ما كان يعمر قلوب المسلمين؟ ذلك أن عدد من دخل الأندلس من العرب كان
قليلاً، وأن جزءاً عظيماً من هؤلاء استقر في نواحي الأندلس، ولم يشترك في الغزو، في
فرنسا. لذلك فإن استقرار المسلمين الحقيقي بجنوبي فرنسا لم يكن إلا في المعاقل
الحصينة كنربونة وقرقشونة، ولم يتفق لهم أن يستقروا في بلاد واسعة على الرغم من
توغلهم داخل فرنسا أحياناً إلى مسافات بعيدة، وذلك بسبب نقص العامل البشري، وليس
فقط بسبب الجهود الفرنجية المضادة. وقد حال الطول الخَطِر لخطوط مواصلاتهم البرية،
ما بين قواعدهم بالأندلس وإفريقيا، وبين هذه المواقع، دون وضع خطة متكاملة للتوسع
فيما بعد. وقد تُرِك هذا التوسع للمبادرة الفردية من قِبَل الجماعات المغيرة التي
كانت تنقصها التعزيزات والإمدادات اللازمة من أجل الاحتفاظ بالأراضي المفتوحة.
ثانياً: الوضع الإداري لجنوبي فرنسا
لقد عدَّ المسلمون المنطقة المفتوحة فيما وراء جبال البرتات ولاية ثغرية تابعة
للأندلس. فقد عُني المسلمون عقب فتح الأندلس بتنظيم شؤون الحكم والإدارة، فقسمت
إسبانيا على ضوء تقسيمها القديم أيام الرومان والقوط، إلى أربع ولايات كبيرة على
رأس كلٍّ منها حاكم محلي يعيِّنه الحاكم العام، ويُسأل أمامه مباشرة عن أعماله.
وتلك القواعد هي: قرطبة، طليطلة، ماردة، سرقسطة. ولَـمَّا اتسع نطاق الفتوح شمالاً
أنشئت ولاية خامسة شمالي جبال البرتات قاعدتها أربونة، وتتبعها نيمة وقرقشونة
وبزييه وأجدة وماجلون ولوديف. وقد ظهرت هذه الولاية سنة 102هـ أيام السمح بن مالك
الخولاني؛ فعلى يديه كان الفتح الثابت والمستقر لهذه المنطقة، وهو الذي أشرف على
قيام حكومة إسلامية فيها، نظَّم أحوالها متخذاً من نربونة عاصمة لها. ولَـمَّا أعاد
يوسف الفهري، آخر الولاة (129 - 138هـ)، تنظيم الأندلس إدارياً، حافظ على ولاية
الثغر كما هي؛ أي ولاية خامسة تابعة للأندلس. ونظراً لأهميتها فقد جعل عليها أحد
أبنائه. وقد تعددت التسميات التي أطلقت على هذه الولاية، مثل (ولاية أربونة)، (ثغر
أربونة)، (ولاية الثغر)، (رباط الثغر). ولهذه التسمية دلالتها، من الناحيتين
الدينية والعسكرية؛ فإن الأربطة أبنية ذات ميزتين إحداهما حربية والأخرى دينية،
ففيها كان يتجمع أهل الرباط لتحقيق أمرين: إعداد أنفسهم للجهاد في سبيل الله عن
طريق التعبد وذكر الله، وحراسة الرباط والتأهب حربياً لمقاتلة أعداء الإسلام. وكان
على رأس هذه الولاية أمير عسكري يسمى أمير الثغر، ويتم اختياره من القادة الفرسان
الشجعان الأقوياء، ومن أبناء البيوتات الذين لهم ثقل قَبَلي، يتضح ذلك من خلال من
عرفنا من أمراء هذه الولاية، وهما اثنان: يوسف بن عبد الرحمن الفهري، حفيد عقبة بن
نافع، في مطلع ولاية عبد الملك بن قطن الأولى (شوال 114 - شوال 116هـ)، وعبد الرحمن
بن علقمة اللخمي، فارس الأندلس، مع انتهاء ولاية ابن قطن الثانية (صفر 123 - ربيع
أول 124هـ)، وظل عليها حتى مقتله في ولاية يوسف الفهري. ودور الفهريين واللخمين في
فتوح المغرب والأندلس معروف، وكذلك ما كان لكلٍّ منهما من ثقل قَبَلِي ومكانة بين
العرب. وكان أمير الثغر يتمتع في داخل ثغره بسلطات تشبه سلطات الوالي في ولايته،
إلا أن الحرب كانت هي المهمة الأولى لأمير الثغر. وكان والي الأندلس هو الذي يعيِّن
أمير الثغر، ويكون مسؤولاً أمامه مباشرة عن أعماله وشؤون ثغره، وله حق عزله وتعيين
من يحل محله، وهذا نظرياً على الأقل، ونقول نظرياً، لأن ولاية ثغر نربونة كانت شبه
مستقلة عن حكومة قرطبة منذ مقتل عبد الملك بن قطن سنة 125هـ وتغلُّب الشاميين على
ولاية الأندلس، وظلت كذلك حتى مقتل حاكمها عبد الرحمن بن علقمة بعد استقرار الأمور
في قرطبة للأمير يوسف الفهري، وقد توفر للمسلمين استقرار ما فيها وتركوا هناك
حاميات لا تخلو من نشاط خارج حدود هذه الولاية. وكانت نربونة هي مركز وقاعدة هذه
الولاية وكان يقيم بها أمير الثغر ومعه الجزء الأكبر من الحامية التي تتولى الحفاظ
عليها وحماية ما وراءها، وأيضاً النهوض منها للغزو مع الأمير المقيم بها إن أمكنته
الفرصة لذلك؛ وهذا كحملة يوسف بن عبد الرحمن الفهري على وادي الرون سنة 117هـ، أو
مع عامل الأندلس نفسه إذا أقبل كحملة عقبة بن الحجاج فيما بعد. ولا بد أيضاً أنه
كانت هناك حامية إسلامية صغيرة تقيم في كل بلد كبير خضع للمسلمين في جنوبي غالة نخص
منها بالذكر مدينة قرقشونة وتكون هذه الحامية تحت قيادة أمير يكون تابعاً لقيادة
أمير الثغر. ونلاحظ أن المسلمين على أيام عقبة بن الحجاج اتخذوا سياسة جديدة لحكم
ما تحت أيديهم من أرض فرنسا؛ تقوم على إقامة حاميات قوية في المدن وتحصين قلاعها
واتخاذ هذه القلاع مراكز للحكم والحرب... هكذا كان الحال في ليون وأبنيون وآرل
وغيرها. ولكن هذه السياسة لم تستمر بسبب عودة عقبة إلى الأندلس نتيجة اندلاع ثورة
خوارج البربر ومن ثَمَّ زحف الفرنجة على هذه المنطقة.
ثالثاً: من نزل في جنوبي فرنسا من المسلمين
ويُذكر أن جماعات من المسلمين من أنجاد المقاتلين قد استقرت في نربونة وما حولها،
منها جماعة من غافق قبيلة عبد الرحمن الغافقي أحد كبار القادة المجاهدين في فرنسا،
وهم بيت زيد الغافقي المشهورون بالفروسية. كما استقرت بها جماعة من بجيلة قبيلة
الصحابي الجليل جرير بن عبد الله صاحب المواقف المشهودة في فتوحات العراق وفارس.
ويذكر بعض الباحثين استناداً إلى مصادر نصرانية أن المسلمين
«أحضروا
من الشمال الأفريقي أُسراً بكاملها نسائها وأولادها وشيوخها حتى يتمكنوا من توسيع
قاعدة عملياتهم الحربية ويغيِّروا التركيبة السكانية».
ولا نعلم ما مدى صحة هذه المعلومة ولكننا نعلم من مصادرنا العربية أن أمير الأندلس
عقبة بن الحجاج أسكن جماعة من المسلمين في نربونة وكذلك في جليقية وبنبلونة. فذكر
ابن بشكوال أن عقبة أقام بالأندلس
«سنين
محمود السيرة مثابراً على الجهاد مفتتحاً البلاد حتى بلغ سكنى المسلمين أربونة وصار
رباطهم على نهر رودنة».
وهو يذكرنا بإسكان الخلفاء في المشرق بعض القبائل العربية في المدن الشامية
الساحلية التي نزح عنها كثير من سكانها الروم أثناء الفتوحات مع إقطاع تلك القبائل
الإقطاعات لضمان تموينها واستقرارها في تلك المدن الساحلية. وكانت كل مدينة من
المدن الخاضعة لسيطرة المسلمين في جنوبي فرنسا تحيط بها أراضٍ زراعيةٌ خصبة وتخترق
بعضها الأنهار، وكانت الزراعة هي الحرفة الرئيسية لسكانها. وكانت هذه الأراضي هي
المصدر الوحيد للقوت والأصل الأول للغنى والثروة؛ لأن فرنسا الميروفنجية كانت تعتمد
إلى حدٍّ بعيد على الأرض فقط مصدراً أساسياً للثروة، ومعظم الأراضي الصالحة كانت
تملكها الأسر الرومانية الغنية ورؤساء القبائل القوطية والفرنجية، ثم انتقلت ملكية
هذه الأراضي في نهاية الأمر إلى الكنيسة. وبعض هذه الأراضي صارت للمسلمين في هذه
المنطقة بحكم الفتح، وقد ذكرت الحوليات الكنسية التي ترجع لذلك العصر أن السمح بن
مالك الخولاني بعد أن فتح نربونة وبسط السيادة الإسلامية عليها قام بتوزيع جزء من
أراضي البلاد على جنوده والجزء الباقي التزم أصحابه من أهل البلاد بدفع الخراج.
فإذا كان جزء من هذه الأراضي قد صار للمسلمين فلا بدَّ أنهم كانوا يستغلونها
ويدفعون عنها ما يُستَحق من ضريبة. ولدينا إشارة تؤيد ذلك فقد ذكر الحميري عند
الحديث عن طرسونة أنها:
«كانت
مستقر العمال والقواد بالثغور، وكان أبو عثمان عبيد الله بن عثمان المعروف بصاحب
الأرض اختارها محلاً وآثرها على مدن الثغور منزلاً؛ وكانت ترد عليه عُشر مدينة
أربونة وبرشلونة».
وإن كان هذا الخبر يتعارض مع القول بأن نربونة سقطت بيد الفرنج سنة 142هـ/ 759م لأن
عبيد الله بن عثمان كان أميراً على الثغر بعد هذا التاريخ بحوالي ربع قرن. وهذا لا
يعني أن المسلمين قد اشتغلوا في الأرض بأنفسهم، وإن كان المستشرق الفرنسي رينو لم
يستبعد ذلك؛ فإنه قال عند الحديث عن المسلمين في جنوبي غالة:
«وكان
الوادعون منهم يشتغلون بالفلاحة والزراعة وربما أدَّوا الضرائب عن محصولاتهم إلى
أمير البلاد التي كانوا فيها».
ولكن حسين مؤنس يستبعد أن يكون المسلمون في جنوبي غالة قد اشتغلوا بالفلاحة في هذه
النواحي لاضطراب الأحوال وعدم استقرار الأراضي في أيديهم أزماناً طويلة... لأن من
كان فيها من المسلمين ظلوا مجرد جند قلقون يقيمون في المدن أو يخرجون للغزو ولم
تتحْ لهم الفرصة للانتشار في الأرض وامتلاكها والاختلاط بأهلها ونشر الإسلام فيهم
وتعريبهم. ولا شك أن المسلمين قاموا باستمالة الفلاحين من أهل البلاد لزراعة الأرض
وإعمار الضياع التي تركها أصحابها؛ وذلك أنه كان يتعذر على المسلمين العمل في
الحقول وممارسة الزراعة بأنفسهم نتيجة لقلَّة عددهم وضرورة إيجاد محاصيل زراعية
لمدِّهم بغذائهم.
رابعاً: نصارى جنوبي فرنسا تحت الحكم الإسلامي
إن المسلمين تركوا للنصارى في الأندلس حرية التمسك بدينهم والاحتكام إلى شرائعهم
وقوانينهم الخاصة؛ وذلك مقابل: الالتزام بدفع الجزية وأحكام أهل الذمة وعدم منع أي
نصراني يريد الدخول في الإسلام. وكان النصارى يشكلون أقليات كبيرة ضمن المجتمع
الإسلامي في القواعد الأندلسية مثل قرطبة وأشبيلية وطليطلة، ولذلك فقد أنشأت
الحكومة الأندلسية منذ الفتح منصب القومس ليكون مرجعاً رئيسياً للنصارى في شؤونهم
الروحية وللإشراف على النظام والسكينة ولجمع ما هو مقرر عليهم من جزية وخراج. وكان
القومس يمارس سلطات مأمور الشرطة على طائفته، وكان منوطاً به جباية الضرائب يعاونه
قاضٍ خاصٌّ هو (قاضي العجم)، وهو الذي يفض المنازعات التي تنشب بين النصارى وذلك في
مقابل الحصول على بعض الامتيازات الاقتصادية والاجتماعية، منها الإعفاء من الخراج
والجزية. هذا عن سياسة المسلمين إزاء النصارى في الأندلس، وهي تنسحب بشكل عام على
سياستهم تجاه نصارى جنوبي فرنسا على اعتبار أن ولاية ثغر جنوبي فرنسا ما هي إلا
إحدى الولايات التابعة للأندلس؛ فيخضع النصارى فيها من ثَمَّ للنظم والأحكام نفسها
التي يخضع لها إخوانهم في الأندلس. وقد يَعدُّ بعض المؤرخين هذا تعميماً لا يتفق مع
الواقع السائد آنذاك؛ ذلك أن مدن الأندلس عُرِّبت وصارت مدناً إسلامية ولم يكن
النصارى بها سوى أقليات تعيش في مجتمعات إسلامية، بعكس الحال في مدن جنوبي فرنسا
التي لم يكن المسلمون في مدنها سوى أقلية وعلى شكل حاميات عسكرية في حين أن أغلبية
سكانها ظلت نصرانية؛ ومن ثَمَّ لا يمكن قياس الأسس التي طبقها المسلمون في معاملة
نصارى الأندلس على الأسس التي طبقوها في معاملة نصارى جنوبي فرنسا. ومع ذلك فلا
يوجد ما يمنع من ذلك القياس إذا راعينا خصوصية ثغر غالة باعتباره ولاية ثغرية،
ولِـمَا ذكرناه آنفا فلا بدَّ أن يكون المسلمون قد اتخذوا ممن قبل الخضوع لسيادتهم
من زعماء جنوبي فرنسا أعواناً لمساعدتهم في حكم البلاد وإدارة شؤون أهلها؛ وهذا على
الأقل في المدن والقواعد التي خضعت لهم خضوعاً كلياً، واستقروا فيها استقراراً
حقيقياً كنربونة وقرقشونة ومجلونة ونيمة. مع أخذ المسلمين تدابيرَ احترازيةً لضمان
عدم خروج أولئك الزعماء عن الطاعة، ومن ذلك أخذهم رهائن من أبنائهم، وهذا ما فعله
عنبسة بن سحيم مثلاً مع زعماء نصارى نيمة بحسب ما ورد في المصادر الإسلامية. كما
ذكرت بعض الحوليات الكنسية أن السمح بن مالك سبق له أن اتخذ التدبير نفسها مع زعماء
نصارى نربونة. أما بالنسبة للمدن والقواعد البعيدة عن سبتمانيا التي كان المسلمون
يُخضعونها ولا يستقرون فيها؛ فقد كانوا يتركون أمر إدارتها للدوقات الذين يتعاونون
معهم ويُبقون لهم ما كان لهم من حقوق وامتيازات موروثة على بلادهم مثل (مارونت) دوق
مرسيلية؛ وكان قد قبل الدخول طواعية في تحالف مع المسلمين بعد معركة بلاط الشهداء
فاعترف بالسيادة الإسلامية على هذه الأنحاء مقابل اعتراف المسلمين بسيادته؛ أي أنه
احتفظ لنفسه بالحكم في دوقيته وذلك لمواجهة عدوهما المشترك شارل مارتل؛ أي أنه كان
تحالفاً فرضه الأمر الواقع.
ومع تزايد الأخطار المحدقة بالمسلمين وقلة أعدادهم وتوقف الإمدادات والنجدات من
الأندلس وتورط الجنود المرابطين في الثغر في الحرب الأهلية بين البلديين والشاميين
ومقتل المئات منهم... كل ذلك وغيره أدى لتخلي أمراء ثغر غالة تلقائياً عن تحالفهم
مع دوق مرسيلية، كما جلعهم يطلقوا الحبل على الغارب لقومسات أكثر المدن التي كانت
خاضعة لسيادتهم في إدارة شؤون مدنهم... وقد أدى ذلك إلى تزايد نفوذ وخطر هؤلاء
القومسات وتطلعهم من ثَمَّ للتخلص من حكم المسلمين لهم؛ بل أعلن بعضهم الثورة عليهم
كما فعل أنزيموند كونت نيمة.
هذا، وتعترف بعض المصادر النصرانية أن نصارى جنوبي فرنسا قد تمتعوا في ظل السيادة
الإسلامية لهذه المنطقة بنوع من الاستقرار لم يألفوه من قبل؛ لا سيما من الناحية
الدينية. وقد أسلم مئات من أهل تلك البلاد وبخاصة خلال ولاية عقبة بن الحجاج
الطويلة والمستقرة نسبياً لكن ذهاب سلطان المسلمين بعد ذلك أوقف انتشار الإسلام
فانتهى أمر أولئك المسلمين خلال الزمن.