كان الاهتمام بالقدس هو أحد أهم اهتمامات الدولة الدينية، وترجع أهمية بسط السيادة والسيطرة عليها لأهميتها التاريخية؛ فمقدار قوة الدولة المملوكية بمقدار سيطرتها على هذه المدينة بما فيها من مقدسات أمام الغرب الأوروبي
يمر الزمان وتتغير الأحداث التاريخية؛ وتظل القدس محور اهتمام الدول العربية
والإسلامية، ربما لِـمَا تعرضت له من محن وابتلاءات على مدى تاريخها، أو لأنها كانت
مطمعاً دائماً منذ قديم الزمان وحتى الآن للعديد من قوى الاستعمار باسم الدين؛ ولذا
حرصت الدول الإسلامية منذ القِدم على حمل لواء حماية هذه المدينة المقدسة، ومن ضمن
هذه الدول كانت دولة سلاطين المماليك في مصر، فقد ساعدت الظروف والأحداث السياسية
التي أحاطت بالمنطقة الإسلامية في العصور الوسطى فرسان المماليك على حمل لواء
الدفاع عن الأمة العربية والإسلامية ضد الزحف الصليبي بعد أن تهاوت الدولة الأيوبية
وانشغلوا فيما بينهم من خلافات.
فقد ثبت لفرسان دولة سلاطين المماليك أن قوَّتهم وانتصاراتهم في موقعة المنصورة ضد
الصليبين وفي عين جالوت ضد التتار[1]
لم تكن لتشفع لهم في أن يحكموا الديار المصرية؛ إذ كان لزاماً عليهم أن يجدوا ما
يغلِّف كل ذلك أمام المنطقة شعباً وسلطة؛ فكان لا بد من الواجهة الدينية التي كانت
الإطار أمام المجتمع المصري بمختلف طبقاته، ومن ثَم كان أحد أركان الواجهة الدينية
هو الاهتمام بالقدس، وكان انهيارها بمثابة أحد أسباب سقوط كيان الدولة.
وكان الاهتمام بالقدس هو أحد أهم اهتمامات الدولة الدينية، وترجع أهمية بسط
السيادة والسيطرة عليها لأهميتها التاريخية؛ فمقدار قوة الدولة المملوكية بمقدار
سيطرتها على هذه المدينة بما فيها من مقدسات أمام الغرب الأوروبي؛ لذا حرص رجال
الدولة بداية من رأس الدولة على العناية التامة بالقدس سواء بشكل مادي أو معنوي.
وقد احتلت مدينة القدس أهمية خاصة عند العرب، فهم الذين أطلقوا عليها تسمية القدس
(أي المقدسة)، وقد اتُّخذَت قِبلَة أيام النبي محمد صلى الله عليه وسلم من باب
التقديس لا التقليد، وإليها كان الإسراء ومنها كان المعراج، وترجع أهميتها تاريخياً
إلى أنها
«كانت
محل الأنبياء وقبلة الشرائع ومهبط الوحي»[2].
ويُعد أول من أيقن تلك الأهمية العتيقة هو السلطان الظاهر بيبرس، ففي عام
660هـ/1261م قام بترميم قبة الصخرة، والمسجد الأقصى، وتجديد الحرم الإبراهيمي،
واستمر هذا الاهتمام في عهد السلطان قلاوون والناصر محمد، ولأهمية هذه المدينة
أصبحت نيابةً مستقلة تتبع السلطة المركزية في القاهرة مباشرة بعد أن كانت تتبع دمشق[3].
وربما كان ذلك بسبب إصرار الغرب الأوروبي على الاستيلاء على بيت المقدس، يشير إلى
ذلك قول أحد حجاج بيت المقدس من النصارى الغربيين عند زيارته لها عام 722هـ/1322م:
إن الرب لم يدع بيت المقدس ليظل تحت يد الحكام المسلمين كثيراً. ومن ذلك ما يرويه
المقريزي عندما أرسل ملك فرنسا فليب السادس في طلب القدس وبلاد الساحل فأنكر
السلطان الناصر محمد عليهم ذلك وأهانهم و (رسم بعودتهم إلى بلادهم) وكان ذلك في عام
730هـ/ 1329م[4].
ونظراً لتلك الأهمية التاريخية حرص سلاطين المماليك على زيارة هذه المدينة من وقت
لآخر مثلما حدث عامي 668هـ/1269م، وعامي 817هـ/1414م، وفي عام 824هـ/1421م أبطل
السلطان ططر ما كان يجبى لنائب القدس في كل سنة أثناء زيارته لها وعوض نائبها،
وعموماً كانت الصفة الغالبة على المدينة هي حرص المماليك على تأكيد نفوذهم الديني
عن طريق نشر العدل والتسامح بين طوائف السكان المختلفة من مسلمين ونصارى ويهود[5].
ونظراً لأهمية هذه المدينة فقد أضفى السلاطين رعايتهم لها من خلال بعض الأوامر التي
تصدر بغلق كنيسة القيامة من وقت لآخر نتيجة للاعتداءات الصليبية على المسلمين من
قِبل القراصنة أو نصارى إسبانيا والبرتغال مثلما حدث في أعوام 825هـ/1421م،
892هـ/1486م، أما في عام 916هـ/1510م كان السلطان الغوري شديد اللهجة رغم أن تلك
الحقبة كان فيها غروب شمس الدولة؛ إلا أن الغوري أمر بالقبض على الرهبان في كنيسة
القيامة بسبب قتل الفرنج للأمير محمد، وأخذ مراكب السلطان، وبحضور القساوسة في رجب
قام بتوبيخهم وأمرهم أن يكتبوا لملوك الفرنج لردِّ ما تم أخذه من مراكب وسلاح وإلا
هدمتُ كنيسة القيامة وشنقتُ الرهبان، ووسط كل أجواء الفساد التي أحاطت بالدولة في
الداخل والخارج، جاء قُصَّاد ملك الحبشة في محرم922هـ/ فبراير1516م ليستأذنوا في
زيارة كنيسة القيامة بالقدس فأذن لهم[6].
ولم يكن استئذان قصَّاد ملك الحبشة في زيارة كنيسة القيامة إلا دليلاً على قوة
الدولة، بالإضافة لخضوع الأحباش دينيّاً لبطريرك الإسكندرية.
ومع كل ذلك كانت هناك عوامل أثَّرت بطريق غير مباشرة على قلة الاهتمام بالقدس في
الداخل، فقد منيت القدس بعدة أوبئة أهمها الوباء الأسود عام 749هـ/1348م، الذي
استمر حتى عام 750هـ/1349م؛ بالإضافة لسوء الأحوال الاقتصادية التي عمَّت دولة
سلاطين المماليك في آواخرها، وقد لعب شحُّ الأمطار دوراً حيويّاً في نزوح كثير من
الناس عن هذه البلاد وهو ما أدى لزيادة الأسعار وهلاك كثير من الناس والحيوانات تحت
وطأة الأوبئة والمجاعات، كما حدث في عام 829هـ/1425م، بالإضافة لمداهمة العربان
القاهرة والقدس والمناطق المتاخمة لها مما يوحي بتدهور دور الدولة السياسي[7]؛
فليس هناك أدنى شك أنه وسط المشاكل الداخلية بالدولة يقل الاهتمام بتلك المدينة في
ظل الظروف المصاحبة لها.
وقد فقدت الدولة السيادة على القدس في عام 922هـ/1516م بشكل نهائي عندما أمضى سليم
خان الشتاء في دمشق ثم تحرك بجيشه نحو غزة حتى دخل القدس فزار بها أضْرحة الأنبياء،
فعلى أقل تقدير استطاع رجال الدولة الاحتفاظ بلقب
«حامي
الحرمين الشريفين والقبلتين»
لعقود عدة[8]،
وبذلك كانت نهاية سيطرة السلطنة على مدينة القدس العتيقة.
فكانت مدينة القدس وما زالـت رمزاً دار حوله الصراع على مدى أجيال عدة في تاريخ
المنطقة، والقدس اليوم رمز في صراع جديد قديم بين القوى العربية والإسلامية وقوى
البغي والعدوان الآتية من خارج المنطقة تفرض الاستيطان العنصري برداء الدين، والقدس
في ماضينا القريب كانت رمزاً لصراع بين العرب والقوى الصليبية التي وفدت إلى
المنطقة تزرع فيها كياناً دخيلاً؛ فما أشبه اليوم بالبارحة! فكانت محور الدعوة
الصليبية بالأمس، كما هي محور الدعاوى الصهيونية اليوم[9]،
وستظل القدس ومقداستها بقلب كل عربي مهما حاولت القوى الخارجية الحالية أن تمحوَها
من ذاكراتنا.
[1] المقريزي، السلوك، (دار الكتب، القاهرة، 2009م)، جـ1ق2، ص350 - 359، 428 - 433.
Holt.p.m ,the position and power of the mamluksultan,bulletin of the
school of oriental and African studies, university of london, 1975,p.237.
[2] القزويني، آثار البلاد، (دار صادر، بيروت، 1960م)، ص159، 160. إبراهيم محمود
زعرور، القدس في العهد الأيوبي، (دار المنظومة، 1998م)، ص90.
[3] القلقشندي، صبح الأعشى، (دار الكتب، القاهرة، 2010م)، 4/199. المقريزي، مصدر
سابق، جـ 1ق2، ص725.
[4] المقريزي، مصدر سابق، ج2ق2، ص319. انظر علي السيد علي، القدس في العصر
المملوكي، (دار الفكر، القاهرة، 1986م)، ص35.
[5] ابن الصيرفي، نزهة النفوس، (دار الكتب، القاهرة، 2010م)، 1/342، 396. ابن إياس،
بدائع الزهور، (دار الكتب، القاهرة، 2008م)، ج1ق1، ص331، 449، 2/72، 73 . انظر علي
السيد، مرجع سابق، ص110.
[6] ابن إياس، مصدر سابق: 2/84، 3/244 - 245، 4/193 - 195، 5/ 12.
[7] المقريزي ، مصدر سابق، جـ2 ق3 ، ص740 - 804، جـ4 ق2، ص609. ابن تغري بردي،
النجوم الزاهرة، (دار الكتب المصرية، القاهرة، 2006م)، 10/ 203 - 211.ابن إياس،
مصدر سابق، 2/104.
[8] وثيقة بيع، (تحقيق عبد اللطيف إبراهيم، ضمن كتاب المدخل إلى دراسة الوثائق
العربية، دار الثقافة القاهرة، 1980م)، ص208 - 213. أوليا جلبي، سياحة نامة مصر،
(دارالكتب، القاهرة، 2009م)، ص167. انظرعلي إبراهيم حسن، دراسات في تاريخ المماليك،
(النهضة المصرية، القاهرة، 1944م)، ص186.
[9] علي السيد علي، مرجع سابق، ص5.