البربر هذه الأمة التي قبعت تحت هيمنة الرومان الدخلاء الذين جثموا في المنطقة السهلية المحاذية للبحر المتوسط لأكثر من ستة قرون
قال ابن الأثير في حوادث سنة 100هـ:
«وفيها
استعمل عمر بن عبد العزيز إسماعيل بن عبيد الله مولى بني مخزوم على إفريقية واستعمل
السمح بن مالك الخولاني على الأندلس، وكان قد رأى منه أمانة وديانة عند الوليد بن
عبد الملك فاستعمله».
استعد السمح للسفر إلى الأندلس، وبعد أن استوعب ما غمره به الخليفة من نصائح مفيدة
وتوجيهات سديدة غادر دمشق على اليُمْن والبركة. وكان السفر بطبيعة الحال برّاً عن
طريق مصر مروراً بفِلَسْطِين؛ لأن وسيلة النقل البحري لدى المسلمين حينذاك كانت ما
تزال ضعيفة. ثم من أرض الكنانة انطلقت القافلة تغذُّ الخطى في رعاية عين الله التي
لا تنام ورُكِنِه الذي لا يُرام ميمِّمة وجهها شطر بلاد المغرب، وكان يُقْصَد ببلاد
المغرب آنذاك: الأندلس والمغرب معاً، وكانت الإسكندرية هي الحدَّ الفاصل بين المغرب
والشرق ولهذا عُرِفت باسم
«باب
المغرب»
لأنها كانت معبراً لجميع المغاربة القادمين من المغرب أو العائدين إليه سواء بالبر
أم بالبحر بقصد التجارة أو طلب العلم أو الحج.
أولاً: رفقاء رحلة الخولاني إلى سُلَّم المجد:
وسارت القافلة عبر الطريق الساحلي الطويل الذي يسير على أطراف الصحراء الكبرى؛ ذلك
البحر الرملي الذي ليس له نهاية، والذي يفصل المغرب عن السودان. والبحر المتوسط عن
يسارها مدى أرزق موصولاً بالسماء. وكان يرافق السمح في هذه الرحلة - والله أعلم -
أستاذه وصديقه ورفيق دربه التابعي الجليل إسماعيل بن عبيد الله والي إفريقية
الجديد؛ الذي أرسل الخليفة عمر بن عبد العزيز معه عشرة من التابعين من أهل العلم
والفضل، وممن اشتهروا بالدعوة والتجرد ليفقِّهوا أهل إفريقية والأندلس في دينهم
ويُقرِؤوهم القرآن وينشروا اللغة العربية في أوساط القبائل البربرية والأندلسية؛
حتى يسهل عليها بعد ذلك فهم كتاب الله والسنة والتعامل معهما. وقد عُرفت هذه البعثة
باسم
«البعثة
العُمرية»،
ومنهم إسماعيل بن عبيد الأنصاري الذي عرف بـ
«تاجر
الله»
وبكر بن سوادة الجذامي وحِبَّان بن أبي جبلة القُرشي وسعد بن مسعود التجيبي وعبد
الرحمن بن رافع التنوخي وعبد الله بن يزيد المعافري... وغيرهم. وأهل إفريقية يومئذٍ
من الجهل بتعاليم الإسلام وأوامره ونواهيه بحيث لا يعرفون أن الخمر حرام
«حتى
وصل هؤلاء التابعون فبيَّنوا تحريمها»،
وعلَّموا الناس الحلال والحرام وساعدوا ولاة أمور المسلمين على مقاومة النِّحَل
الخارجية وتركيز أحكام الإسلام بين البربر، وانتهت إليهم الإمامة والرئاسة في العلم
وحفظ السُّنة واللغة وأيام العرب في المغرب. وقد فتح الله بهم على إفريقية أضعاف ما
فتحه السيف؛ فإنهم أقرُّوا الدين في نصابه وأعادوا السيف إلى قرابه وحلَّ العلم
والاجتهاد محلَّ الجِلاد والطِّراد حسبما نقلته الأخبار ودلَّت عليه الآثار.
ولم يكن نشاطهم مقتصراً على مدينة القيروان وما حولها؛ بل الظاهر من تراجم هؤلاء
أنهم كانوا نشيطين في دعوتهم وجهادهم؛ يتجولون في المغرب من أدناه إلى أقصاه. وكان
هؤلاء الفقهاء العشرة فضلاً عن علمهم وفقههم يتصفون بالزهد ويمارسونه، وكانوا
نموذجاً لمن أتى بعدهم من الصالحين والعلماء العاملين في إفريقية والمغرب. كما أنهم
كانوا قبل ذلك أبطالَ معارك وفرسانَ مياديين في البر والبحر، وكان بعضهم قد شاركوا
في فتح الأندلس مع القائد موسى بن نصير ثم قفلوا عنها بقفوله بعد اكتمال عملية
الفتح... ومنهم التابعي الجليل عبد الله بن يزيد المعافري ثم الحبلي، والتابعي
الجليل حبَّان بن أبي جبلة القُرشي. وقد يكون السمح بن مالك استقى منهما ومن غيرهما
خلال رحلته الطويلة معهما من دمشق إلى القيروان كثيراً من الأخبار والمعلومات حول
الأندلس. وهكذا أخذت القافلة تطوي المراحل مرحلةً مرحلة، وتجتاز كل صعبٍ وذلولٍ
فيها وتتنقل من مدينة إلى مدينة؛ من الفسطاط إلى الإسكندرية، ومن الإسكندرية إلى
برقة، ومن برقة إلى طرابلس، ومن طرابلس إلى القيروان... تارةً تحت حر الشمس اللاهب،
وتارةً في ظلام الليل القارس وعبر الرمال التي تثيرها هبات الرياح والزوابع التي
تصفر في أرجاء الصحراء وتحملها لتلفح بها الوجوه بين فينة وأخرى حتى استقر بها
القرار في القيروان مركز ولاية إفريقية.
ثانيا: الخولاني وذكريات فتح إفريقية:
وأثناء ذلك كانت الخواطر والصور تتوارد وتتداعى في ذاكرة السمح عائدةً به عشرات
السنين إلى الوراء. فهذه الطريق هي الطريق نفسها التي تعاقبت على المرور فيها جيوش
الفتح الإسلامي منذ أن خرجت حاملةً معها أمانة الدين الجديد لتبليغه لقبائل البربر
القاطنة في جبال أطلس والأوراس وسائر أنحاء بلاد المغرب الكبير.
البربر هذه الأمة التي قبعت تحت هيمنة الرومان الدخلاء الذين جثموا في المنطقة
السهلية المحاذية للبحر المتوسط لأكثر من ستة قرون؛ وذلك على الرغم من لفظ ورفض
أهلها البربر لهم، وشعورهم بالغربة عنهم. فلماء جاء الإسلام قاومه البربر أول الأمر
بشدة لم يعرف العرب لها مثيلاً في بقية الأقطار التي فتحوها. فعلى رمال صحاري
المغرب المترامية وفي سهولها الواسعة وشواطئها الممتدة وتضاريسها الوعرة خاض
المسلمون عشرات المعارك، وسطروا أروع صور الجهاد في سبيل الله. في عملية فتح هي
الأطول والأصعب على الإطلاق في تاريخ الفتوحات الإسلامية قاطبةً، واْستُشهدَ خلالها
آلاف من الصحابة والتابعين ووجوه العرب. لقد كان السمح يتخيل صورهم أمامه وكان يشم
رائحة دمائهم الزكية التي ضمخت كل بقعة من هذه البلاد. فمن المعروف أن العرب فتحوا
العراق والشام ومصر في عشر سنوات، أما هذه البلاد فقد استغرق فتحها سبعين عاماً من
عام 23هـ حتى عام 91هـ، وهذا راجع إلى عدة أسباب، أهمها:
سعة بلاد المغرب ومناعتها ووعورة تضاريسها: فالمغرب عبارة عن جزيرة جبلية شاسعة
تمتد من الشرق إلى الغرب (حوالي 4000 كم)، يحيط بها البحر المتوسط شمالاً والمحيط
الأطلسي غرباً، وتحدها شمالاً سلسلة جبال الريف الممتدة من المحيط إلى تلمسان
شرقاً. وتحدُّها جنوباً سلسلة جبال أطلس الممتدة من المغرب الأقصى إلى المغرب
الأدنى.
كثرة
قبائلها وشدة مراسها في القتال: ولذلك لم يغنِ فيهم الغَلَب الأول الذي كان لابن
أبي سرح عليهم وعلى الإفرنجة شيئاً، وعاودوا بعد ذلك للثورة والرِّدة مرةً بعد
أخرى، وعظُم إثخان المسلمين فيهم. قال ابن أبي زيد: ارتدت البرابرة بالمغرب اثنتي
عشرة مرة ولم تستقر كلمة الإسلام فيهم إلا لعهد ولاية موسى بن نصير.
الغارات
البحرية البيزنطية: فقد كان البيزنطيون يريدون أن يحتفظوا بهذه البقعة بأي ثمن بعد
أن طردهم المسلمون من مصر والشام؛ ولذلك فقد تعرَّض المسلمون لضربات قاسية من
أسطولهم الذي ركز قواه هناك. وذلك أن الإمبراطور قسطنطين الثاني خليفة هرقل بعد
هزيمته في وقعة ذات الصواري سنة 34هـ نقل مقرَّه إلى صقلية لحماية الأم (روما) قبل
حماية البنت (القسطنطينية).
قلة
أعداد المسلمين الفاتحين مع بُعْدهم عن قواعدهم في الجزيرة والشام: وهو ما كان
يحرمهم من المدد الواسع الكثيف، فضلاً عن الحروب الأهلية التي لفحت دولة الخلافة
بنيرانها بعد مقتل الخليفة عثمان رضي الله عنه، ثم تجدُّد هذه الحروب بعد وفاة
معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وانتقال الخلافة بالوراثة إلى ابنه يزيد. فقد أدت
هذه الحروب المتواصلة إلى إيقاف الفتح مرتين ولسنوات عديدة.
ثالثاً: القيروان واستحضار اسم عقبة
وأخيراً وليس آخراً حطت القافلة رحالها في القيروان حاضرةِ ولاية إفريقية والمدينة
الوادعة القابعة في أحد الوديان ذات الأشجار الكثيفة غير البعيدة عن الساحل، وهي
التي أمَّها ونزلها وسكن فيها عدد من أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم ، وعشرات من
كبار التابعين، ودخلها السمح للمرة الأخيرة في حياته بعد أن كان قد غاب عنها أكثر
من عامين في دمشق. وعندما تذكَّر القيروان تذكَّر القائد العربي الكبير والمحارب
الجريء البطل الشجاع الفاتح المؤسس عقبة بن نافع الفهري باني القيروان ومجاب الدعوة
صاحب الغزوات والآثار الحميدة. فقد كان عقبة من أوائل المجاهدين في المغرب إذ إنه
دخل برقة مع ابن خالته عمرو بن العاص سنة 23هـ وقيل مع أبيه نافع بن عبد القيس
الفهري، وكان زوج أخت عمرو بن العاص، وكان عمره وقتذاك أقلَّ من أربعة عشر عاماً
فظل مرابطاً هناك مع المرابطين منذ ذلك الوقت متنقلاً ما بين برقة وفزان وودان
وزويلة من مراكز الصحراء، ومشاركاً في الغزوات التي قام بها المسلمون في إفريقية.
وهكذا نشأ عقبة في هذا الجو نشأة جهاد وتمرُّس بشؤون القتال ثم أصبح قائداً شاباً
من قادة الجيوش الإسلامية العاملة في الجناح الغربي، فوالياً لولايةِ إفريقية كلها
وتحول مع الزمن إلى شخصية عربية إفريقية مجاهدة نذرت نفسها للفتوح وكانت شديدة
الاتصال بشؤون المغرب ووثيقة العلاقات بالعرب والبربر في الوقت نفسه. وعندما يذكر
عقبة نافع يذكر قولته المشهورة عندما بلغ في فتوحاته المغرب الأقصى على ساحل المحيط
الأطلسي الذي كان يسمى بحر الظلمات وهو يخوض فيه بفرسه ويرفع يده إلى السماء
مناجياً ربه:
«اللهم
اشهد أني بلغت المجهود، ولولا هذا البحر لمضيت في البلاد أقاتل من كفر بك حتى لا
يُعبَد أحد من دونك».
وذلك قبل استشهاده هو وجماعة من أصحابه في بلدة تهودة في المغرب الأوسط وتحديداً في
أحواز نهر الزاب جنوبي جبال أوراس وهو في طريق رجوعه إلى القيروان من هذه الغزوة
بعيدة المدى والأثر، وكان قد أمر جيشه بالعودة إلى القيروان فوجاً بعد فوج، وبقي هو
في جماعة قليلة
«ثقة
منه بما دوَّخ من البلاد وأنه لم يبقَ أحد يخشاه»؛
فلما توسط البلاد داهمه كسيلة رئيس قبيلة أوربة على رأس جيشه كثيف العدد إلى جانب
من كان معه من قوات الروم فقتلوه هو ومن كان معه، وذلك في سنة 64هـ ولا يزال موضع
تهودة يعرف اليوم بـ (سيدي عقبة) وهو عبارة عن واحة جميلة من النخيل بالقرب من
مدينة بسكرة في جنوبي قسنطينة، وفيها مقام هذا الفاتح العربي الكبير. وكانت خولان
قبيلة السمح ذاتَ حضورٍ بارزٍ في هذه المدينة. فقد كانت من بين القبائل التي ساهمت
بدَور ملموس في فتح هذا البلاد وعمارتها ونشر الإسلام في ربوعها، كما كان لها الدور
نفسه والحضور نفسه تقريباً في فتح الأندلس الذي حدث بعد ذلك.
رابعاً: سياسة والي إفريقية الجديد
وها هنا في القيروان تنتهي رحلة والي إفريقية الجديد وصديق السمح ورفيقه في هذه
الرحلة وفي رحلته السابقة إلى دمشق التابعي الجليل (إسماعيل بن عبيد الله بن أبي
المهاجر) مولى من مخزوم ومَن معه من فقهاء التابعين باستثناء ثلاثة قيل إنهم دخلوا
الأندلس مع السمح. وكان قد استعمله عمر بن عبد العزيز على أهل إفريقية ليحكم بينهم
بكتاب الله عز وجل وسُنة نبيه صلى الله عليه وسلم ويفقههم في الدين. وكان أيضاً قد
«دفع
إليه كتاباً بولاية عبد الله بن المغيرة قضاء إفريقية»
«لِـمَا
صح عنده من فضله»،
«ودخل
إسماعيل القيروان ومعه الكتاب يقول فيه: قد قلدت القضاء فيكم عبد الله بن المغيرة
لِـمَا صحَّ عندنا من دينه وزهده ونفاذه في علمه ومعرفته وثقته في نفسه وشدة ورعه».
فقبل ذلك عبد الله بن المغيرة وسار في أهل إفريقية بسيرة أهل العدل وأقام فيهم كتاب
الله عز وجل وسنة نبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم . وتجدر الإشارة إلى أن
إسماعيل بن عبيد الله نجح نجاحاً كبيراً في مهمته في إصلاح شؤون ولاية إفريقية،
وعدَّه المؤرخون أحسن ولاة بني أمية في المغرب، وتصفه المصادر التاريخية فتقول: كان
حَسَن السيرة عالي المنزلة، وفي غاية الزهد والتواضع، وبأنه سار في أهل المغرب
بسيرة العدل والحق. وتقول المصادر أيضاً بأنه أسلم على يديه كثيرمن البربر، وأنه
كان حريصاً على إسلامهم، وأن الخليفة عمر بن عبد العزيز كان يرسل إليه بالرسائل
لدعوة أهل الذمة للدخول في الإسلام فيقرؤها عليهم في النواحي؛ لذلك غلب الإسلام على
المغرب في عهد هذا الوالي، وكان كأميره بارّاً تقيّاً عادلاً. وتُعدُّ ولايته من
أجمل أيام الدهر على إفريقية وملحقاتها. وقد امتاز عهده الميمون بنشر العلم
والتهذيب وتوزيع الفقهاء والمعلمين على البلاد. وقد بلغ من توفيق إسماعيل في إقرار
السلام في البلاد أنه
«لم
يبقَ في ولايته يومئذٍ من البربر أحدٌ إلا أسلم»
كما يقول ابن عبد الحكم: ولم يبالغ راويتُنا الجليل كثيراً في ذلك؛ فالواقع أن
حُسْن سياسة إسماعيل وحرصه على نشر الإسلام؛ قد كسب للدين عدداً عظيماً جداً من
البربر، فلو قلنا: إن ولايته ثبَّتت الإسلام في إفريقية ما بالَغْنا لأن المغرب
أصبح بعد ولايته بلداً إسلامياً يغلب على أهله الإسلام. وفي أُخريات أيام هذا
الأمير أخرج قائدَ أسطوله محمد بن أوس الأنصاري لمعاودة غزو جزيرة صقلية فنال من
سواحلها ثم عاد إلى إفريقية ظافراً يحمل أكاليل النصر. وكانت هذه الغزوة سنة
102هـ.
ومع أن هذا الوالي الكفء (إسماعيل بن عبيد الله) قد عُزل عن ولاية إفريقية بعد وفاة
الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز في رجب من سنة 101هـ من قبل خلفه يزيد بن عبد
الملك؛ إلا أنه مكث في القيروان معلماً للناس وناشراً للسنة إلى أن توفي فيها سنة
132هـ طبقاً لرواية المالكي.
خامساً: البربر والإسلام وما كسبه كلٌّ منهما من الآخر
وبعد أن أخذ الراحة الضرورية في القيروان كان على السمح أن يواصل رحلته البرية عبر
سهول وفيافي وجبال وأودية المغربَين الأوسط والأقصى. وطال الطريق وعادت الذكريات
ذكريات الفتح والجهاد تتزاحم وتتشعب مرةً أخرى في ذاكرة السمح. فالمعارك التي خاضها
المسلمون في هذا الجزء والتضحيات التي بذلوها لا تقل عما قاموا به في المغرب
الأدنى. وكانت أعظم مقاومة واجهت المسلمين في هذه المنطقة هي المقاومة التي أبدتها
(الكاهنة) في جبال أوراس بالمغرب الأوسط، وهي التي لم يتم سحق جيشها وقتلها إلا بعد
حروب طاحنة خاضها المسلمون تحت قيادة حسان بن النعمان. وكانت المرحلة النهائية في
هذا التقدم نحو المحيط الأطلسي مهمة موسى بن نصير، الذي نجح خلال ولايته في اجتثاث
مقاومة البربر العنيفة واستكمال أطول فتح في تاريخ العرب، وفي إرساء روح التلاحم
بين العرب والبربر في إطار الإسلام. أي أن تضحيات العرب المسلمين الجسيمة لم تذهب
سدىً، وبفضلها دانت المغرب كلها لحكم الإسلام ودخل البربر أفواجاً في دين الله. ولم
يكتمل القرن الأول الهجري حتى كانوا قد صاروا جميعاً مسلمين صادقين في إسلامهم
ومتحمسين لرفع رايته وصاروا يتحدثون العربية ويكتبونها، واكتسبوا ما تفيده من تفكير
وتعبير، فصارت لهم العقلية العربية نفسها، وصار يوجد فيهم الفقهاء والشعراء
والخطباء. ولولا الإسـلام لَـمَا بقيت للعروبة بقيَّة في هذه الربوع التي ظلت على
مرِّ العصور هدفاً للحملات الصليبية المتعاقبة وحسبُك مائة وثلاثون عاماً من
الاستيطان المسعور والتغريب المسموم والفَرْنَسة الحاقدة. ودخول العروبة إلى هذه
الربوع في ظل الإسلام؛ هو الذي ضمن لها المقومات الأساسية من لغة وحضارة وفكر
وثقافة، ودعم هذه المقومات بالروح والعقيدة. ومن هذا المنطلق حفظ الإسلام للعروبة
في شمال إفريقيا مواقف وبطولات على مرِّ العصور وخرَّج لها أبطالاً وقواداً وبناةَ
حضارة. كما أكرم الله العرب المسلمين بعد تلك التضحيات الكبيرة التي قدموها في فتح
إفريقية والتي توِّجت بإسلام هذا الشعب الأبي الشجاع (البربر)، ثم أكرمهم بفتح
إسبانيا تلك البلاد الواسعة المشهورة بخضرتها وأنهارها وخيراتها الكثيرة، التي قام
البربر الذين آمنوا بدين الله بصدق وحمية وانتقلوا من وضع الهامشية إلى وضع
الفاعلية بدور كبير في فتحها من خلال حملة عسكرية كان على رأسها طارق بن زياد
البربري مولى موسى بن نصير... وكانت غالبية جيشه من المسلمين البربر الذين تحمسوا
لهذه العقيدة حبّاً لها وتضحية من أجلها؛ لا طمعاً في مغنمٍ أو حرصاً على جاه.
وكانت عملية فتح الأندلس عظيمة الأثر في إفريقية؛ فقد كانت دافعاً لمن بقي على دينه
إلى الدخول في الإسلام حتى يتاح له الالتحاق بجند المسلمين. ومن ثَمَّ كان فتح
الأندلس معجِّلاً بإسلام بقية البربر، وأصبحت المغرب تحتل مكانة إستراتيجية هامة في
الدولة الإسلامية، وكانت صلة وصل بين المشرق الإسلامي وإسبانيا من جهة، وصدراً
إستراتيجياً يحمي الأندلس والبحر المتوسط والجناح الغربي للأمة الإسلامية في مواجهة
الغرب من جهة أخرى.
سادساً: من هنا مرَّ طارق بن زياد
وتواصلت الرحلة رحلة السمح إلى الأندلس والذكريات أيضاً عبر سهول ووديان ومرتفعات
ومنخفضات المغربَين الأوسط والأقصى، ومن مدينة إلى مدينة انتهى الطريق إلى آخر
نقطةٍ من بَرِّ عُدوة المغرب، وهي مدينة سبتة بساحل بحر الزقاق. وهذه النقطة هي
النقطة التي سيعبر منها السمح ورفاقه على ظهر أحد المراكب إلى برِّ عُدوة الأندلس
عبر خليج الزقاق الذي صار يعرف باسم مضيق جبل طارق منذ أن عبره طارق بن زياد على
رأس حملته العسكرية لفتح إسبانيا سنة 92هـ. وشكَّل جبل طارق منذ فتحه بابَ الأندلسِ
وصِلَة الوصل بين المسلمين في الأندلس وشمال إفريقية، وظل الجبل بوابة لدخول الجيوش
الإسلامية وكذلك المهاجرين من العرب والبربر إلى الأندلس.
لقد كان طارق عسكرياً ناجحاً ممتازاً مخلصاً للإسلام متحمساً لنشره، وكان موسى يثق
به وبكفاءته لهذا العمل الذي أناطه به؛ ألَا وهو عبور هذا المضيق وفتح الأندلس،
ونفَّذ طارق المهمة التي كُلِّف بها على أحسن وجه وحقق الله فتح الأندلس على يديه.
فلما سمع موسى بن نصير بما حصل من النصرة لطارق عبَرَ الجزيرة بمن معه ولحق بمولاه
طارق فقال له: يا طارق! إنَّه لن يجازيك الوليد على بلائك بأكثر من أن يبيحك
الأندلس فاستبحه هنيئاً مريئاً فقال له طارق: والله! لا أرجع عن قصدي هذا ما لم
أنته إلى البحر المحيط وأخوض فيه بفرسي يعني البحر الشمالي، فلم يزل طارق يفتح
وموسى معه إلى أن بلغ إلى جليقية وهي على ساحل البحر المحيط. وسيعبر السمح بن مالك
من خلال هذا المضيق إلى جبل طارق تحديداً؛ ذلك الجبل المنيف الذي يحيط بقمته الغمام
مهما كانت الشمس ساطعة، والذي يُعدُّ قاعدة الوصل بين المغرب والأندلس، والذي
يتراءى لعابر المضيق على الجهة الأخرى من الشاطئ كأنه سرج فرس، أو كأنه أسد منتصب
أمامه، مؤخرته إلى البحر المتوسط ورأسه إلى المحيط الأطلسي (كما وصفه بعض الرحالة).
وسرعان ما انتهت عملية عبور برزخ الماء ووصل السمح بن مالك إلى الشاطئ المقابل
شاطئِ الأندلس بخير وسلامة. ومن جبل طارق والجزيرة الخضراء كان عليه أن يتدرج في
طريقه شمالاً مخترقاً الطبيعة الساحرة لهذه الولاية الإسلامية الفتية وما تزخر به
من سهول فيحاء خصبة ومن مرتفعات ذات طبيعة خلَّابة ومن عيون وأنهار وشلالات ومن قرى
ومدن عامرة ومن حصون ومزارع وبساتين نحو وسط الفردوس الأندلسي حيث مدينة قرطبة. وفي
أثناء ذلك كانت مشاعرُ وأفكارٌ تدور في نفس السمح وفي عقله؛ إنه الآن في البلاد
الجنة كما حلا للبعض أن يصفها... إنه الآن في الأندلس التي قدَّر الله له أن يتولى
أمور أهلها وكانت هذه هي زيارته الأولى لها، لهذا يعدُّه المؤرخون من الداخلين إلى
الأندلس بعد الفتح. ولم يكن السمح بمفرده في هذه الرحلة فهناك مجموعة من العرب دخلت
معه إلى الأندلس وانضمت إلى إخوانها في الاستقرار هناك.