عاش العالم تحت وطأة نظام القطب الواحد الذي تُمَثله أمريكا، التي أحكمت سيطرتها على أوروبا بأكملها تقريباً، وتمدد حلف الناتو شرقاً ورجع الصراع إلى أوروبا من جديد لعودة روسيا إلى الواجهة ومحاولتها إنهاء حالة القطب الواحد
أوروبا بوتقة الحروب والصراعات:
لأوروبا تاريخ طويل وحافل بالأحداث والتغيُّرات السياسية والعسكرية والاجتماعية
والثقافية والصراعات طويلة الأمد، وإذا أردنا أن نُلَخص التاريخ الأوروبي في عنوان
واحد فلن نجد أفضل من (تاريخٌ من العداء)، فأوروبا المتعارَف عليها اليوم شهدت على
مرِّ العصور عدداً لا حصر له من النكبات والحروب التي ساهمت بشكل أو بآخر في رسم
خريطتها السياسة والديموغرافية المتعارف عليها اليوم.
وعند إلقاء نظرة سريعة على التاريخ الأوروبي سنجد أنها لم تتمتَّع خلال تاريخها
الطويل الضارب في القدم بالوحدة السياسية أو العيش المشترك إلا في حقبة واحدة
عاشتها في ظل الإمبراطورية الرومانية، التي استطاعت أن تُحكِم قبضتها الحديديَّة
على أغلب الأراضي الأوروبية لمدَّة قُدِّرت بثلاثة قرون من الزمان.
ويُعدُّ انتشار الديانة النصرانية بأوروبا في القرن الأول الميلادي من أوائل
الأحداث الحقيقية التي أحدثت شبه هزة في النسيج الاجتماعي الأوروبي أو الروماني؛ إذ
إن الديانة النصرانية سرعان ما انتقلت من مهدها في فلسطين، وانتشرت في ربوع
الإمبراطورية الرومانية حتى وصلت عاصمتها روما نفسها، وأمام إقبال الشعوب الأوروبية
بكثافة على اعتناقها، تعرَّض النصارى في عهد نيرون (54 - 68م) الذي أحرق روما ومن
جاء بعده لشتى أنواع العذاب والاضطهاد، وحسب مراجع (الكنيسة القبطية الأرثوذكسية)
التي عاصرت تلك الأحداث فقد قتل مئات الآلاف من النصارى فيما يعرف بالتاريخ
النصراني باسم (الاضطهادات العشر الكبرى).
وعلى رغم من حظر الأباطرة الرومان الوثنيين الديانة النصرانية وملاحقة معتنقيها في
سياسة يتوارثها الأباطرة الرومان إلا أن النصرانية أصبحت مع مرور الوقت قوة
ديموغرافية وسياسية لا يمكن التغاضي عنها أو طمسها؛ خاصة بعد انتشارها بين الطبقة
الأرستقراطية وجنرالات الجيش، وهو ما حدا بالإمبراطور الروماني (غاليريوس) أن يصدر
مرسوم التسامح العام في 30 أبريل 311م في نيقوميديا، ومن ثَمَّ أصبحت النصرانية
ديانة رسمية ومعتمدة في روما وأرجاء الإمبراطورية منذ عام 380م.
وفي خضم الاضطرابات والقلاقل والحروب الأهلية التي شهدتها الإمبراطورية الرومانية
في القرن الثالث الميلادي، قام الإمبراطور الروماني (ديوكلتيانوس) في عام 286م
بتقسيم الإمبراطورية إداريّاً إلى نِصفَين حتى يسهل حكمها: قسم شرقي وعاصمته
القسطنطينية، وقسم غربي وعاصمته روما. وبعد وفاة الإمبراطور الروماني (ثيودوسيوس
الأول) في عام 395م أصبح التقسيم أمراً واقعاً، وهو ما ألقى بظلاله على
الإمبراطورية الرومانية الغربية بعد أن فقدت الجزء الكبير من مقدراتها التي كان
يوفرها لها النصف الشرقي من الإمبراطورية.
وفي الوقت الذي كانت فيه الإمبراطورية الرومانية الغربية تحاول انتشال نفسها من
أزماتها التي عصفت بها، وتسعى جاهدة لترميم آثار انقسام شقيقتها الشرقية عنها، شنت
في أوائل القرن الخامس ميلادي مجموعةٌ من القبائل يطلق عليها مسمى (الهون) الذين
جاؤوا من أواسط آسيا، هجمات ضد القبائل الجرمانية في شمال أوروبا، وهو ما دفع
القبائل الجرمانية للنزوح إلى أطراف الإمبراطورية الرومانية الغربية ومن ثَمَّ
التوغل في أرضيها، وكانت القبائل الجرمانية تتألف من: (القوط، الوندال،
اللومبارديون، الفرنجة، والسكسون، والغوتيون)، كانت الغالبية العظمى من هذه القبائل
يغلب على حياتها طابع الخشونة والوحشية وهو ما جعل الرومان يطلقون عليهم اسم
البرابرة.
شكلت عمليات نزوح وهجرة القبائل الجرمانية عامل ضغط كبير على الإمبراطورية
الرومانية الغربية، وسرعان ما تهاوت وسقطت مقاطعاتها أمام هجمات القبائل الجرمانية،
إذ قام القوط الشرقيون بغزو روما ونهبها، في الوقت نفسه قام الإنجليز والسكسون،
والغوتيون بغزو بريطانيا والاستيلاء عليها، وتوجه الفرنجة (الفرانكيون) واستولوا
على فرنسا، في حين قام القوط الغربيون - وهم الفرع الغربي من القوط الشرقيين الذين
تنقلوا من إيطاليا إلى إسبانيا - بتأسيس مملكة كبيرة لهم هناك، واستقر السلافيون في
شرق أوروبا وعاشوا بسلام مع رومان الإمبراطورية الشرقية، وفي عام 476م تمكن القائد
الجرماني (أودواسر) من خلع (رومولس أغسطلوس) آخر أباطرة الإمبراطورية الرومانية
الغربية التي بسقوطها بدأت العصور الوسطى.
وبعد سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية حلت محلها دويلات وممالك صغيرة في شتى
أرجاء أوروبا، ونتيجة الأحداث المتلاحقة في أوروبا انهارت التجارة وعمَّ الكساد،
وفقدت مدن كثيرة أهميتها، وبدأت الطبقة الوسطى التي كان يعمل أفرادها في الصناعة
والتجارة تتلاشى تدريجياً، وحل محلها النظام الإقطاعي الذي يقوم على تقسيم الأرض
إلى مزارع شاسعة يمتلكها الإقطاعيون الأثرياء، وفي الوقت نفسه أصبحت الكـنيسة
الرومانية الكاثوليكية القوة الوحيدة صاحبة أوسع نفوذ ليس في الأمور الدينية فحسب
بل في الميدان السياسي.
وفي أتون الفوضى التي كانت تضرب أوروبا أنشأ الفرنجة (الفرانكيون) مملكة قوية في
فرنسا، ثم سرعان ما تحولت إلى الإمبراطورية الكارولنجية التي بلغت أوج قوَّتها في
عهد شارلمان (768 - 814م) الذي حاول تقوية الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، وإعادة
تأسيس الإمبراطورية الرومانية الغربية، فأسس دولة ضمت كلّاً من فرنسا وهولندا
وبلجيكا وألمانيا وإيطاليا، وأجزاء واسعة من شرق أوروبا إلا أن إمبراطورتيه سرعان
ما انقسمت إلى ثلاث ممالك متناحرة في كل من فرنسا وإيطاليا وألمانيا.
وأواخر القرن الثامن إلى القرن الحادي عشر بدأت شعوب قادمة من إسكندنافيا (السويد
والدنمارك والنرويج وآيسلندا) في شمال أوروبا تميزوا بالوحشية يطلق عليهم
(الفايكينج أو النورمان أو النورمانديين) بغزو أوروبا واستعمروا سواحل أوروبا
وأنهارها وجزرها على رأسها بريطانيا وسواحل إيطاليا وفرنسا، وأحدثوا نوعاً من
الفوضى والاضطرابات فأحرقوا وقتلوا ونهبوا مستحقين بذلك اسمهم الفايكنغ الذي يعني
القرصان في اللغات الإسكندنافية القديمة.
هذا التطور أدخل أوروبا في حالة من الفوضى والفقر وقلة السكان، وأتاح المجال للنظام
الإقطاعي والكنيسة لفرض هيمنتهما على أوروبا بشكل أكبر، خاصة بعد الانشقاق العظيم
عام 1054م الذي على إثره انقسمت الكنيسة الرومانية الكاثوليكية والكنيسة الشرقية
الأرثوذكسية بسبب العديد من الخلافات الكَنَسيَّة والنزاعات اللاهوتية بين الشرق
الإغريقي والغرب اللاتيني.
وفي الحقبة التي كانت فيها المعالم السياسية والديموغرافية للعالم الأوروبي تتشكل،
تمكن المسلمون في مطلع القرن الثامن الميلادي من نشر الإسلام في المشرق العربي
ومعظم بلاد شمال إفريقيا، وتوجيه ضربات قوية للإمبراطورية الرومانية الشرقية التي
أصبحت تُعرَف بالإمبراطورية البيزنطية، وقد امتدت الفتوحات الإسلامية إلى أوروبا
نفسها فشملت إسبانيا والبرتغال وعدداً من الجزر في البحر المتوسط كقبرص وكريت
وصقلية.
وفي محاولة من الكنيسة الكاثوليكية في روما لفرض سيطرتها على أوروبا وردع المسلمين
بعد انتصارهم على يد السلطان السلجوقي ألب أرسلان على الإمبراطور البيزنطي رومانوس
الرابع في موقعة ملاذ كرد عام 1071م، دعت نصارى أوروبا لوجوب العمل على استرداد بيت
المقدس من المسلمين، فتشكلت على إثرها الحملات الصليبية بين عامي (1096 - 1272م)
وتمكنت بعض حملاتهم من الاستيلاء على سواحل الشام وتأسيس عدد من الإمارات على رأسها
إمارة بيت المقدس، إلا أن المسلمين تمكنوا من ردِّهم على أعقابهم مهزومين عام (1187
- 1291م).
وفي أواخر القرن الرابع عشر الميلادي ظهرت على مسرح الأحداث الدولة العثمانية
الفتية التي بسطت سيطرتها على القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية عام 1453م،
ومن ثَمَّ بدأت تدك القلاع والمدن في شرق أوروبا، وأصبحت قاب قوسين أو أدنى من
التوغل في قلب أوروبا والاستيلاء على حواضرها، وهو ما حدا بالأوروبيين على رأسهم آل
هابسبورغ في مملكة النمسا وروسية القيصرية لتوحيد صفوفهم وتناسي ثاراتهم وخلافاتهم
والتفرغ لصد المد الإسلامي المتمثل بالدولة العثمانية، فعلاً تمكنوا بعد عدد من
المناوشات والمعارك التي استمرت لعقود طويلة من إيقاف التمدد العثماني وإجبارهم على
توقيع معاهدة (كيتشوك كاينارجي) في 21 يوليو عام 1774م.
وبتزامن مع المد العثماني في أوروبا بدأت الكشوفات الجغرافية تحديداً في نهاية
القرن الخامس عشر، فغرناطة آخر معاقل المسلمين في شبه الجزيرة الأيبيرية (إسبانيا
والبرتغال حالياً) كانت قد سقطت عام 1492م، وقبلها بسنوات قليلة كان الملاح
البرتغالي (بارثولوميو دياز) قد اكتشف رأس الرجاء الصالح عام 1488م، وفي سابقة
تاريخية هي الأولى من نوعها تمكن (كريستوفر كولمبوس) من الوصول إلى أمريكا في رحلته
من إسبانيا إلى الهند عام 1492م، كما وصل الملاح البرتغالي (فاسكو دا جاما) عام
1498م إلى الساحل الهندي.
كذلك شكَّل انتصار البرتغاليين في معركة (ديو) عام 1509م على الأسطول المملوكي
قبالة الهند، ضربة قوية لحضارات الشرق الذين فقدوا أهم عناصر قوَّتهم التي تفاخروا
بها أمام العالم لقرون وهو احتكارهم وتحكُّمهم المطلق بالطرق التجارية الدولية، ومن
ثَمَّ أصبح الأوروبيون (البرتغاليون) أصحاب السيادة المطلقة على طرق التجارة
الدولية، وشرعوا بالتمدد والاستيلاء على الموانئ البحرية المهمة واحدة تلو الأخرى
مثل ممباسا ومسقط وكوا وسيلان، وهو ما سمح لهم بتشكيل إمبراطورية يمتد نفوذها من
اليابان شرقاً إلى البرازيل غرباً، وبذلك أحكموا سيطرتهم على تجارة التوابل
والمنسوجات الحريرية المورَّدة إلى أوروبا قرابة مائة عام، وعبَّدوا الطريق للقوى
الأوروبية الأخرى كهولندا وإنجلترا وفرنسا لفرض السيطرة على البحار والمحيطات
وتسيُّد العالم فيما بعد.
وبفعل الكشوفات الجغرافية وزيادة الثروات التي تصل لأوروبا من مستعمراتها في أمريكا
والهند، انطلقت شرارة عصر النهضة في أواخر العصور الوسطى في إيطاليا بين عامي (1300
- 1600م)، وسرعان ما انتشرت النهضة في معظم أوروبا خلال القرنين الخامس عشر والسادس
عشر الميلاديين، فازدهرت العلوم والفنون والفلسفة التي أسهمت إلى حدٍّ بعيد في ظهور
مفهوم الديمقراطية، والاهتمام بالتعليم والبحث العلمي، وظهرت في عصر النهضة كشوفات
مهمة في مجالات عدة كالتشريح والفلك والكيمياء وعلم الهندسة، وفي حوالي عام 1440م
تم اخترع المطبعة على يد العالم الألماني (جوهانس جوتـنبرج)، وبحلول عام 1500م كان
في أوروبا ما يزيد على ألف مطبعة، ومن النتائج الملفتة لعصر النهضة فقدان النظام
الإقطاعي والكنيسة الرومانية الكاثوليكية قدراً كبيراً من نفوذهما، وفي الوقت نفسه
زادت قوة الملوك في أوروبا.
وفي القرن الخامس عشر الميلادي ظهرت على مسرح الأحداث في أوروبا حركة الإصلاح
الديني (اللوثرية) على يد مارتن لوثر الراهب الألماني ابتداءً من عام 1517م، ولقد
أدت انتقادات مارتن لوثر وأتباعه لسياسة الكنيسة الرومانية الكاثوليكية والبابا إلى
انفصالهم نهائياً عن الكنيسة الكاثوليكية، إلا أن مارتن لوثر وأتباعه استمروا في
النضال حتى انتشر مذهبهم الجديد (البروتستانتية) انتشاراً واسعاً في شمال أوروبا
كألمانيا، في حين ظل جنوب أوروبا متمسكاً بالمذهب الكاثوليكي، وقد أدى الانقسام
(الكاثوليكي - البروتستانتي) إلى اندلاع سلسلة من الحروب الدينية، انتهت بحرب
الثلاثين عاماً التي شاركت فيها معظم الدول الأوروبية أو تأثرت بها، وقد امتدت هذه
الحرب من عام 1618م إلى عام 1648م.
بطبيعة الحال مع نهاية العصور الوسطى ساهمت الكشوفات الجغرافيا وعصر النهضة وحركة
الإصلاح الديني (اللوثري) في تمكين ملوك أوروبا من بسط سلطتهم على ممالكهم ودولهم
والحد من سلطة رجال الإقطاع وتدخلهم في شؤون الدولة، وهو ما أدى إلى ظهور الدولة
الأوروبية الحديثة، كفرنسا وبريطانيا وإسبانيا والبرتغال وهولندا وروسيا القيصرية
وبروسيا (ألمانيا لاحقاً).
وفي ظل التطورات المتسارعة والمتلاحقة في أوروبا نمت الحركات الديمقراطية لدرجة
كبيرة، وظهرت القومية التي وحدت أفراد كل شعب من شعوب أوروبا في نضالهم من أجل
الحكم الديمقراطي، فثار الشعب الإنجليزي ضد الملكية المستبدة عام 1688م، وعلى إثرها
تشكل البرلمان الإنجليزي الذي مُنِح سلطات واسعة حدت من سلطة الملك. أما الحدث
الأكبر الذي هز أوروبا عدة مرات فكانت الثورة الفرنسية التي نادت بالديمقراطية،
والتي استمرت من عام 1789م إلى عام 1799م، فلقد ثارت الطبقتان الدنيا والوسطى ضد
الملك لويس السادس عشر ومن ثَمَّ تم إعدامه، وفي سابقة هي الأولى في تاريخ أوروبا
أعلنت الجمعية الوطنية الفرنسية المنبثقة عن الثورة الفرنسية وثيقة إعلان مبادئ
حقوق الإنسان والمواطن.
وأمام هذا الحدث الخطير توحد ملوك أوروبا لوأد الثورة الفرنسية في مهدها بعد أن
انتابهم الهلع مما تنادي به الثورة الفرنسية، فبرز من بين صفوف الجيش الفرنسي
القائد العبقري نابليون بونابرت، الذي تمكن من هزيمة ملوك أوروبا مجتمعة في أكثر من
موقعة والاستيلاء على مساحات شاسعة في البر الأوروبي، ففي عام 1812م تمكن نابليون
من غزو روسيا والاستيلاء على موسكو عام 1812م، إلا أنه فقد معظم جيشه في العام
نفسه، وقد وصل تعداده إلى 450 ألف جندي أثناء انسحابه من روسيا.
ورغم هزيمة نابليون بونابرت في معركة واترلو عام 1815م وعودة النظام الملكي إلا أن
أفكار الثورة الفرنسية استمرت في الانتشار في كل أنحاء أوروبا، فعلى سبيل المثال
اندلعت عدت ثورات متأثرة بفكرة الثورة الفرنسية في أوروبا ضد الحكم الملكي في كلٍّ
من إيطاليا وإسبانيا عام 1820م، وفي اليونان عام 1821م، ثم انتقلت عدواها إلى كلٍّ
من بلجيكا وفرنسا وبولندا.
وفي عام 1861م توحدت إيطاليا تحت حكم دولة واحدة، تبعتها دولة ألمانيا في عام
1871م، واتخذتا من الثورة الصناعية التي انطلقت من بريطانيا خلال القرن الثامن عشر
الميلادي من خلال اختراع الآلة البخارية ميداناً للدخول في معترك التنافس
الاستعماري مع بريطانيا العظمى وفرنسا، ومن هنا أصبح العالم على صفيح ساخن قابل
للانفجار في أي وقت.
وفي يوم 28 يونيو عام 1914م قام قومي صربي يدعى (غافريلو برينسيب) باغتيال ولي عهد
النمسا الأرشيدوق فرانز فرديناند مع زوجته في سراييفو في البوسنة والهرسك، وهو ما
دفع النمسا لإعلان الحرب على صربيا، فانقسمت دول أوروبا حيال هذه الأزمة إلى
مجموعتين بعضهم ضد بعض؛ إذ انضمت إلى المجموعة الأولى كلٌّ من بريطانيا وفرنسا
وروسيا التي عرفت بدول الوفاق أو الحلفاء، تقابلها المجموعة أخرى ضمت كلّاً من
ألمانيا والمجر والنمسا والدولة العثمانية التي عرفت بدول المحور.
وفي أتون الحرب العالمية الأولى التي اندلعت عام 1914م انضمت الولايات المتحدة
الأمريكية لمعسكر الحلفاء عام 1917م، ثم قامت في روسيا في العام نفسه الثورة
البلشفية فانسحبت على إثرها روسيا من الحرب، وفي عام 1918م انتهت الحرب العالمية
الأولى بانتصار دول الوفاق أو الحلفاء على دول المحور، فتم التوقيع على معاهدة
فرساي عام 1919م التي على إثرها تقاسمت الدول المنتصرة أملاك الدول المنهزمة.
ورغم انتهاء الحرب العالمية الأولى إلا أن ألمانيا لم تكن راضية عن هزيمتها
وإذلالها بعد إجبارها على نزع السلاح وفــرض عليها دفع تعويضات هائلة للدول الحلفاء
فوق طاقتها، لذلك ومنذ اليوم الأول لاعتلاء أدولف هتلر سدة الحكم في ألمانيا عام
1933م وهو يُعِدُّ العدة ليثأر لهزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، وفعلاً في
أول سبتمبر عام 1939م اندلعت شرارة الحرب العالمية الثانية بعد أن استولت ألمانيا
على النمسا وتشيكوسلوفاكيا وقامت بغزو بولندا.
وعلى إثرها انقسم العالم إلى معسكرين: الأول معسكر دول المحور وضم كلّاً من ألمانيا
وإيطاليا واليابان. والآخر معسكر دول الحلفاء وضم فرنسا وبريطانيا والاتحاد
الســوفييتي والولايات المتحدة، وعند اندلاع الحرب حاولت كلٌّ من فرنسا وبريطانيا
إيقاف تقدم ألمانيا في البر الأوروبي، إلا أن هتلر وحليفه موسوليني تمكنا عام 1941م
من احتلال جميع دول أوروبا تقريباً، ثم حاولت ألمانيا الاستيلاء على الاتحاد
السوفييتي إلا أنها فشلت.
ومن جانب آخر شنت اليابان هجوماً على قوات الولايات المتحدة في ميناء بيرل هاربر
بهاواي، وهو ما دفع الولايات المتحدة الأمريكية لدخول الحرب، ومن هنا تغيرت مجريات
الحرب تدريجياً لصالح دول الحلفاء، فسقطت إيطاليا في عام 1943م، أما ألمانيا فقد
واصلت الحرب في أوروبا حتى سقطت برلين في أواخر أبريل عام 1945م، وختمت الولايات
المتحدة الحرب بإلقاء قنبلتين نوويتين على مدينتي هيروشيما وناكازاكي في 6 - 9
أغسطس عام 1945م.
لم تجلب الحرب العالمية الثانية لأوروبا سوى الدمار والخراب إذ قُدِّرت أعداد قتلى
الحرب من العسكريين والمدنيين بـ 62 مليون نسمة أي ما يعادل 2% من سكان العالم
وقتها، وكان نصفهم من المدنيين، يضاف إلى هذا العدد عشرات الملايين من الجرحى
والمعاقين، كذلك أضعفت الحرب القارة الأوروبية ودمرتها وأذلت شعوبها وسلبتها
هيمنتها عن جميع مستعمراتها في إفريقيا وآسيا، وهو ما دفعها للانسحاب من معظم
مستعمراتها إثر ثورات ومطالبات شعوب المستعمرات باستقلالهم، فشهد العالم ظهور عدد
كبير من الدول المستقلة خلال مرور خمسة عشرة عاماً على انتهاء الحرب.
وبنهاية الحرب ظهر الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية على أنهما قوتان
عظيمتان في العالم، إذ قام الاتحاد السوفييتي بالاستيلاء على العديد من دول أوروبا
الشرقية، في حين ارتمت أوروبا في أحضان الولايات المتحدة واعتمدت عليها اقتصادياً
وسياسياً وعسكرياً بالكلية، فأنشأت الولايات المتحدة في عام 1948م ما عُرِف بمشروع
مارشال لإعادة بناء أوروبا اقتصادياً، كما أسست مجموعة من الدول الأوروبية في عام
1951م المجموعة الأوروبية للفحم الحجري والفولاذ (ecsc)
بهدف تطوير صناعة الفحم الحجري والحديد والفولاذ في بلجيكا وفرنسا وإيطاليا
ولوكسمبرغ وهولندا وألمانيا الغربية وسرعان ما انضم للمجموعة عدد من الدول
الأوروبية في أوقات متباعدة، ثم تأسس الاتحاد الأوروبي بعد معاهدة ماستريخت
الموقَّعة عام 1991م.
وبعد مدة قصيرة من نهاية الحرب العالمية الثانية دخل العالم فيما صار يُعرَف فيما
بعد بالحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي (الاشتراكية) والولايات المتحدة
الأمريكية (الرأسمالية)، وأصبحت أوروبا مركزاً للصراع بين الدولتين العظميين، وحتى
تكون الدول الأوروبية قادرة على مقارعة الاتحاد السوفييتي اشتركت الولايات المتحدة
وكندا ومعظم دول أوروبا الغربية عام 1949م في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، في
المقابل أسس الاتحاد السوفييتي في عام 1955م ما عرف باسم حلف وارسو وضم دول شرق
أوروبا، وبناء على هذه الأحلاف دخل الاتحاد الســوفييتي والولايات المتحدة في حالة
صراع وتوتر وتنافس محموم في تطوير الأسلحة والتقدم الصناعي وتطوير التكنولوجيا
والتسابق الفضائي، وتكديس الترسانات النووية والحروب غير المباشرة باستخدام وكلاء،
كالحرب الكورية عام (1950 - 1953م) والحرب السوفييتية في أفغانستان عام (1979 -
1989م).
استمر العالم على ثنائية القطب حتى أعلن رئيس الاتحاد السوفييتي ميخائيل غورباتشوف
في 25 ديسمبر 1991م استقالته في خطاب وجَّهه إلى الشعب السوفييتي، أشار فيه إلى أن
مكتب رئيس اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية قد تم حلُّه، وأعلن تسليم كافة
سلطاته الدستورية بما فيها السلطة على الأسلحة النووية الروسية إلى الرئيس الروسي
بوريس يلتسن، قبل الحل الرسمي للاتحاد، وخلال المدة من أغسطس 1991م إلى ديسمبر
1991م، كانت جميع الجمهوريات المكوِّنة للاتحاد، بما فيها روسيا نفسها، أعلنت
انفصالها عن الاتحاد بشكل فردي.
وعاش العالم تحت وطأة نظام القطب الواحد الذي تُمَثله أمريكا، التي أحكمت سيطرتها
على أوروبا بأكملها تقريباً، وتمدد حلف الناتو شرقاً ورجع الصراع إلى أوروبا من
جديد لعودة روسيا إلى الواجهة ومحاولتها إنهاء حالة القطب الواحد.