هذا، ويرى العلماء أنَّ معنى قوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} أيْ أنَّ آيات القرآن كلها قد نُظِمت نظْماً محكماً، لا يعتريه إخلال من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى ولا من جهة الهدف والغاية، أوْ أنها أُحكِمت بالحُجَج والدلائل.
لَمْ يتوقف إعجاز القرآن المجيد عند حدود الهداية، ولا عند كشوفاتهِ العلمية، ولا
عند إخباره بالغيبيَّات، أوْ ما يُقدِّمه من نُظُمٍ وتشريعاتٍ وقوانين ربَّانية
فحسب؛ بلْ جاء في أجمل أسلوب، وأرقى حُلَّةٍ أدبية، وأكمل لغةٍ عرفها البَشَر؛ إذ
إنه تحدَّى بلغاء العرب وهُم في ذروة مجدهم فصاحة وبلاغة، فعجزوا عن معارضته،
وخرُّوا أمام أنواره ساجدين!
وفي هــذه السطور القليلة نَعرِضُ وجهاً مِن وجوه الإعجاز القرآني؛ وهو المتمثِّل
في باب (الـمُحكَم والمتشابه)، وهو من المسائل التي شغلت علماءَ التفسير وعلماء
الأصول وعلماء الكلام، وغيرَهم من المهتمين بعلوم القرآن. ومرجع هذه القضية إلى تلك
الآيات التي أشارت إلى هاتيْن الكلمتيْن: (الـمُحكَم) و (المتشابه). قال تعالى:
{الچـر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}
[هود: ١]، فهذه الآية أكَّدت على إحكام القرآن كله. وقال سبحانه: {اللَّهُ
نَزَّلَ أَحْسَنَ الْـحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ
مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر: 23]. فهذه الآية أشارت
إلى تشابه القرآن. وفي موضعٍ آخَر يقول عزَّ وجل: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ
عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ
مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: ٧]. فهذه الآية أثبتت أنَّ في القرآن آيات
مُحْكَمات، وآيات أخرى متشابهات؛ فكيف يمكن التوفيق بين هذه الآيات؟
يقول العلماء: (الـمُحكَم) ما كان قائماً بنفسه، لا يحتاج الرجوع فيه إلى غيره؛
أيْ: ما عُرِفَ تأويله وفُهِمَ معناه وتفسيره، وليس فيه تصريف ولا تأويل عما وُضِع
له.
أمَّا (المتشابه) فهو ما يُرجَع فيه إلى غيره، ويَحتاج إلى بيان لأنه يحتمل وجوهاً
- كما قال الشافعي - وفيه تصريف وتأويل، كآيات الصفات التي تَنازع الناسُ في
معناها. والقصص كذلك: فالقصَّة الواحدة يتشابه معناها في الموضعيْن، فيشتبه على
القارئ أحد اللفظيْن بالآخَر، وهذا التشابه قد تصعب معه معرفة المعاني بلا ريب. وقد
رُويَ عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: إنك لا تفقه كُلَّ الفقه حتى ترى
للقرآن وجوهاً.
هذا، ويرى العلماء أنَّ معنى قوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} أيْ
أنَّ آيات القرآن كلها قد نُظِمت نظْماً محكماً، لا يعتريه إخلال من جهة اللفظ ولا
من جهة المعنى ولا من جهة الهدف والغاية، أوْ أنها أُحكِمت بالحُجَج والدلائل.
ومعنى قوله سبحانه: {كِتَابًا مُّتَشَابِهًا}؛ أيْ أنَّ القرآن الكريم ذو
أجزاء، كلها يشبه بعضها بعضاً مِن حيث الصحةُ والإحكامُ، والبناءُ على الحق والصدق
ومنفعته الخلْق، وتناسُب ألفاظه وتناسقها في التخير والإصابة، وتجاوب نَظْمه
وتأليفه في الإعجاز والتبكيت.
فالتشابه هنا لا يتنافى بحالٍ مع وصف الإحكام المذكور في قوله: {كِتَابٌ
أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} بلْ يجب الأخذ بكِلاَ الوصفيْن جميعاً في كتاب الله، دون
أن يأتي كلامَ الحقِّ في ذلك باطلٌ من بين يديه ولا من خلفه. فالقرآن مُحكم في
تشابهه، مُتشابه في إحكامه، تصديقاً لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ
عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ
مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: ٧].
يقول الإمام السيوطي: لقد جاء
«النظْم
الواحد في القرآن على صورٍ شتى، تتشابه في أمور وتختلف في أخرى، يطلقون عليه
متشابهَ النظْم أوْ متشابهَ اللفظ»[1].
ويقول الزركشي عن المتشابه:
«ويَكثُر
في إيراد القصص والأنباء، وحِكمته التصرُّف في الكلام، وإتيانه على ضروب لِيُعلِمهم
عجزهم عن جميع طرق ذلك مبتدأ به ومتكرر»[2].
ومِن أمثلة ذلك، قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن
نَّفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ
وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة: 48]، مع قوله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا
تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا
شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة: 123].
وربما يُطلَق المتشابه ليكون صفة مدح لجميع القرآن، وهو المراد بقوله: {اللَّهُ
نَزَّلَ أَحْسَنَ الْـحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ
مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ
وَقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23].
إذنْ، كوْن القرآن كلِّه مُحكماً، أيْ: مِن الإحكام والإتقان، فكله متقَن في بيانه
وبلاغته وأسلوبه وأحكامه، ومهما قلَّبتَ النظر فيه وتدبَّرتَ آياته وجدته في غاية
البيان والإعجاز، وفيه الشفاء والنور والهدى التام، فهو مُحكَم لا عيب فيه ولا نقص
ولا خلَل بأيِّ وجه من الوجوه، فهو: {الچـر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ
فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: ١].
وأمَّا كونه متشابهاً كله، فمعناه: يُصدِّق بعضه بعضاً، فلا تَضارُب فيه ولا
تَناقُض ولا تَعارُض، فهو متشابه متماثل في كماله وبيانه وسموِّه، فلا يمكن أن يكون
فيه نقص أوْ خلل أوْ عيب، بلْ إنه متشابه يُصدِّق بعضه بعضاً، ويشهد بعضه لبعض.
ومِن ذلك التشابه اللفظي بين آياته أن توجد كلمة في سُورة تُشبه كلمة أخرى في
سُورة أخرى، وقد يكون موضوع السورتيْن واحداً، مثل كلمة: {فَانفَجَرَتْ}
[البقرة: ٠٦] وكلمة {فَانْبَجَسَتْ} [الأعراف: 160]. ولكن ذلك مختلف عند
التأمُّل، فكل كلمة، وكل آية لها موضعها وسياقها ولها دلالتها، فهيَ في هذا السياق
غيرها في ذاك السياق، وإنْ كان لفظهما واحداً، وهنا وُضِعت لحكمة وهناك لحكمة، وهذه
السورة لها سياقها وترابطها وموضوعها، وهي غير الأخرى وإنْ تشابهتا.
أحياناً يأتي (التشابه) لاشتراك الكلمة في عدة معانٍ، مثل: كلمة (اليمين) في قوله
سبحانه: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} [الصافات: 93]؛ أيْ:
فأقبلَ إبراهيمُ - عليه السلام - على أصنام قومه ضارباً لها باليمين مِن يديْه لا
بالشمال، أوْ ضارباً لها ضرباً شديداً بالقوة؛ لأنَّ اليمين أقوى الجارحتيْن عادةً،
أوْ ضارباً لها بسبب اليمين التي حلفها، ونوَّه بها القرآن إذْ قال:
{وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ}
[الأنبياء: 57]. كل ذلك جائز، ولفظ (اليمين) مشترك بينها.
السؤال: لماذا وُجِد المتشابه في القرآن؟ ولماذا لمْ يكن القرآنُ كله مُحْكَماً؟
نعم، لِمَ كان في القرآن متشابه لا يعلمه إلاَّ الله والراسخون في العِلْم، ولا
يعلمه سائر الناس؟ ولِمَ لمْ يكن كله مُحْكماً يستوي في فهمه جميعُ الناس، وهو قد
نزل هادياً، والمتشابه يحول دون الهداية بما يُوقع مِن اللَّبس في العقائد، ويفتح
باب الفتنة لأهل التأويل؟
يرى السادةُ العلماء أنَّ هناك عدة فوائد للمتشابه[3]:
الأولى:
أنَّ اللهَ أنزل المتشابهَ في القرآن ليمتحن قلوبنا في التصديق به، فلوْ كان كلُّ
ما ورد في الكتاب معقولاً واضحاً لا شُبهة فيه عند أحد من الأذكياء، ولا من
البُلَداء لَـمَا كان في الإيمان شيء من معنى الخضوع لأمر الله تعالى، والتسليم
لرسله.
الثانية:
جعلَ اللهُ المتشابهَ في القرآن حافزاً لعقل المؤمن إلى النظر، كيلا يضعُفَ فيموت،
فإنَّ السهل الجليَّ جداً لا عملَ للعقل فيه. والدِّين أعزُّ شيء على الإنسان،
فالعقل شيء واحد إذا قَوِي في شيء قَوِي في كلِّ شيء، وإذا ضعُفَ [في شيء] ضعف في
كل شيء. ولذلك قال: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: ٧] ولم يقل:
والراسخون في الدين؛ لأنَّ العلم أعمُّ وأشمل، فمِن رحمتِه تعالى أن جعل في الدين
مجالاً لبحث العقل بما أودع فيه من المتشابه، فهو يبحث أولاً في تمييز المتشابه من
غيره، وذلك يستلزم البحث في الأدلة الكونية والبراهين العقلية، وطُرق الخطاب ووجوه
الدلالة، ليصلَ الباحثُ إلى فهمه ويهتديَ إلى تأويله. وهذا الوجهُ لا يأتي إلاَّ
على قول من عطف {وَالرَّاسِخُونَ} على لفظ الجلالة. أيْ: إنهم يعرفون تأويل
المتشابه.
الثالثة:
أن الأنبياء بُعِثوا إلى جميع الأصناف من عامة الناس وخاصتهم، سواء كانت بعثتهم
لأقوامهم خاصة كالأنبياء عليهم السلام، أوْ لجميع البشر كنبيِّنا الكريم صلى الله
عليه وسلم ، فإذا كانت الدعوة إلى الدِّين موجَّهةً إلى العالِم والجاهل والذكي
والبليد، وكان من المعاني ما لا يمكن التعبير عنه بعبارة تكشف عن حقيقته وتشرح
كُنهَهُ بحيث يفهمه كلُّ مخاطَب به، عاميّاً كان أوْ خاصيّاً، يكون في ذلك من
المعاني العالية والحِكَم الدقيقة، ما يفهمه الخاصة، ولوْ بطريق الكناية والتعريض،
ويؤمر العامة بتفويض الأمر فيه إلى الله تعالى، والوقوفِ عند حدِّ المحكَم، فيكون
لكلٍّ نصيبُه على قدر استعداده، ولوْ كان كله محكماً كان كله للعوام ولم يكن للخاصة
فيه نصيب.
مثال ذلك: إطلاق لفظ {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ}
[النساء: ١٧١] على عيسى. فالخاصةُ يفهمون مِن هذا ما لا تفهمه العامة. ولذلك
فُتِنَ النصارى بمثل هذا التعبير؛ إذْ لم يقفوا عند حدِّ الـمُحكَم، وهو التنزيه
واستحالةُ أن يكون لله جنسٌ أوْ أُمٌّ أَوْ ولد. والـمُحكم عندنا في هذا قوله
تعالى: {إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ
ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران: 59].
وأقول: وعندهم - أيْ: النصارى - ما يدلُّ على هذا المعنى، وهو أنَّ عيسى رسول من
الله، مثلُ قول المسيح في الإنجيل:
«وهذه
هي الحياةُ الأبديةُ أن يعرفوك (أنت) الإلهَ الحقيقي وحدَك ويسوعَ المسيحَ الذي
أرسلتَه»
(يوحنا الإصحاح 17: 2).
يقول الشيخ رشيد رضا:
«ومِن
المتشابه ما يحتمل معاني متعدِّدة، وينطبق على حالات مختلفة لوْ أُخِذ منها أيُّ
معنىً وحُمِل على أية حالةٍ لصح. ويوجد من هذا النوع في كلام جميع الأنبياء، وهو
على حدِّ قوله تعالى: {وَإنَّا أَوْ إيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ
مُّبِينٍ} [سبأ: 24]، ومنه إبهام القرآن لمواقيت الصلاة لِحكمة. وقد بيَّن
النبيُّ ذلك في بلاد العرب المعتدلة بالأوقات الخمسة للصلوات الخمس. وما كانت العرب
تعلم أنَّ في الدنيا بلاداً لا يمكن تحديدُ هذه المواقيتِ فيها، كالبلاد التي تشرق
فيها الشمس نحوَ ساعتيْن، لا يزيد نهارُ أهلِها على ذلك. أشار القرآن إلى مواقيت
الصلاة بقوله: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ 17
وَلَهُ الْـحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ}
[الروم: 17 - 18].
وسبب هذا الإبهام: أنَّ القرآن دِين عام لا خاصٌ ببلاد العرب ونحوها. فوجب أن
يسْهُلَ الاهتداءُ به حيثما بلغ. ومثلُ هذا الإجمال والإبهام في مواقيت الصلاة
يجعلُ لعقول الراسخين في العلم وسيلةً للمراوحة فيه واستخراج الأحكام منه في كل
مكان بحسبه. فأينما ظهرت الحقيقة وَجدْتَ لها حكماً في القرآن، وهذا النوع من
المتشابه من أجلِّ نِعَم الله تعالى، ولا سبيل إلى الاعتراض على اشتمال الكتاب
عليه. {وَمَا يَذَّكَّرُ إلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [البقرة: 269]؛ أيْ:
وما يَعقِل ذلك ويفقهُ حِكمَته إلاَّ أربابُ القلوب النيِّرة والعقول الكبيرة،
وإنما وُصِفَ الراسخون بذلك لأنهم لم يكونوا راسخين إلاَّ بالتعقل والتدبُّر لجميع
الآيات المحكمة التي هي الأصول والقواعد، حتى إذا عرض المتشابه بعد ذلك يتسنَّى لهم
أن يتذكروا تلك القواعد الـمُحكَمة وينظروا ما يناسب المتشابه منها فيردُّونه إليه».
ويُعقِّب الشيخ رشيد رضا على هذا التخريج بقوله:
«وهذا
التخريج يَصْدُق على أحد الوجهيْن السابقيْن من أنَّ المتشابه يحتمل معانيَ
متعددةً، يُعرَف الصوابُ منها بردِّه إلى المحكم. وأمَّا على القول بأنَّ المتشابه
ما كان نبأً عن عالَم الغيْب، فهُم الذين يعلمون أنَّ قياس الشاهد على الغائب قياسٌ
مع الفارق»[4].
[1] الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي، مكتبة مصر، القاهرة.
[2] البرهان في علوم القرآن، للزِّركشي، دار المعرفة، بيروت، 1391هـ.
[3] لغة القرآن، محمد القوصي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.
[4] تفسير المنار، للشيخ رشيد رضا.