ولا عزاء للبوسنيات
اهتزت الجدران حين رن جرس البيت، فهرعت لفتح الباب، وكدت أن أقع من شدة عجلتي، وتبسمت ساخرة لعودتي بذاكرتي إلى الوراء وأنا أتعجب من نفسي؛ إذ كيف أمضيت حياتي في بيت أهلي وأنا أرفض الرد من خلال السماعة على جرس البيت، أو حتى على الهاتف، وحين ترجوني أمي، أصرخ بالعاملة أن ترد، بل أزيدها تعنيفاً: ألا تسمعين؟ أليست لك يد لتفتحين؟ فقد كنت أترفَّع أن أفتح الباب لإخوتي الصغار، الذين كانوا يحترقون تحت أشعة الشمس في الخارج، وينتظرون الوقت الكثير أمام المنـزل، يرجون أن تتفضل العاملة بفتح الباب لهم، بينما أنا مستلقية فوق سريري أتصفح إحدى المجلات. يبدو أن إخواتي الصغار قد دعوا عليَّ في وقت استجابة؛ فالآن أسهل عمل أقوم به هو فتح الباب، ولم أدر شيئاً عن مميزاته من قبل. أمَّا الآن في الغربة فالمرء يفرح كثيراً حين يسمع جرس الباب يرن؛ لأنه وببساطة شديدة، ينبئني عن قدوم الشخص الوحيد الذي يدخل البيت؛ ألا وهو شريك حياتي؛ إنه زوجي. وقد تتساءلون: لماذا يدق الجرس؟ ألا يملك مفتاحاً؟ الآن سأخبركم عن البعد الآخر للغربة: إنه انعدام الأمن والأمان؛ فقبل خروج زوجي من الشقة صباحاً، لا بد أن أقطع نومي لأغلق المزاليج الثلاثة بعد غَلْقِه الباب، ويتأكد من ذلك بأن يحاول فتح الباب من الخارج؛ فكثيراً ما كنت أخدعه وأعاود النوم، ولكنني في هذا اليوم كنت قد ودعت زوجي قبل قليل؛ فمن عساه يكون هذا الطارق؟ أهو البريد؟ يا الله! إن هذا سيجعل النوم يهجر عينيَ حتماً. دعني ألقي نظرة على الأقل. وعبر العين السحرية شاهدت فتاة يبدو أنها من أهل هذه البلاد، لا، لا لم يصل جمالهم لجمالها، بل فاقتهم جمالاً؛ إنها في كامل أناقتها وترتدي ملابس كملابسهم، ولكن: ما الدافع الذي دفع بها إلى الإتيان إلى هنا في مثل هذه الساعة المبكرة؟ لا بد أنها أخطأت... دعيني أرى، وفتحت الباب قليلاً فاندفعتْ بكل ثقة إلى مدخل الشقة. - السلام عليكم. (بشهقة عالية): ماذا؟ مسلمة؟ لا أصدق؛ فهي شديدة التبرج، لم يخطر بظني لحظة أنها مسلمة. - وعليكِ السلام. كان السلام كافياً لأن يصحح وضعها في قلبي ويبرمجها دماغي في موقع يستحق هذا السلام. فقد كانت ستمحى سريعاً وفي طَرفَة، من الذاكرة فور اختفائها عن مجال البصر، ولكن الوضع اختلف الآن؛ إنها تتصدر شغاف الروح؛ فبعد أن كانت نكرة، لا تربطني بها أي صلة، أصبحت معرفة، بل أختاً لي. واشتمَّت شكوكي، فأرادت أن تطمئنني: - أم محمد أرسلتني. - ماذا؟ أم محمد! مَنْ تُلقِي علينا دروساً في مسجد المدينة تعرف أناساً بهذا التبرج، بل ترسلهم إليَّ! لماذا؟ وكأنها قرأت ما في رأسي فأجابت: - قالت: إنك بحاجة إلى من يساعدك في البيت. لا إله إلا الله، سبحان الله! لقد وصفت لي أم محمد أمراً، ورأيت أمراً آخر. وحزنت عندها لحال المسلمين؛ فبعض المسلمات، أو قل: الكثيرات منهن، تحضر إلى المسجد بالجلباب والحجاب، وتنزعه عند باب المسجد أثناء الخروج منه، بل بعض المساجد، ونظراً لتبرج النساء، وتسهيلاً لهنَّ وتشجيعاً على الحضور خاصة المتبرجات منهن حتى لو كانت أثناء العمل أو الدراسة، من أجل ذلك كله وضعت حجاباً وملابس صلاة نظيفةً ومكويةً؛ فتدخل المسلمة المتبرجة وترتدي الحجاب ثم تعيده مكانه عند فراغها من الصلاة، ويبـدو أن أختنـا من هـذا النـوع، ولا تدري أم محمد عن تبرجها خارج المسجد. كانت تلك هي الفتاة البوسنية التي هاجرت مع أسرتها إلى أمريكا التي فتحت صدرها لهم؛ لقد هاجروا هرباً من ويلات الحرب الصربية ضدهم، يحلمون بالاستقرار والثراء، فأصبحوا في بلاد (العم سام) يعانون البطالة والفقر؛ فبعد أن كانوا أعزاء أصحاب وطن، لديهم دخلهم الذي يفي باحتياجاتهم وزيادة، أصبحوا يتحسَّرون عليه. شرحت لي أم محمد ظروفها من قَبْلُ عبر الهاتف؛ فهي العائل الوحيد؛ لأن أباها وإخواتها عاطلون عــن العمــل. وصــدق أو لا تصدق أن الإناث يجدن عملاً وبسرعة، أما الذكور فهيهات هيهات؛ لقد انتقلبت الآية! وبدأت أركِّز نظري عليها جيداً وأتفحصها. فقلت في نفسي: يا إلهي! جمال كهذا يجب أن تجلس صاحبته كملكة متوَّجة، ومن بين يديها المال والخدم، أو على الأقل تكون ملكة في بيت زوجها يَسْعد بخدمتها، يحمد الله ليلاً ونهاراً أن رزقه الله زوجـة جميلـة تُعِفُّـه عن الحرام؛ فامرأة كهـذه أخجـل أن آمرها، بل يجب أن تجلس هي وأنا أخدمها، سبحان الله! يرزق من يشاء. الحمد لله على نعمته وفضله: لا أملك ربع جمالها، وهي تعمل عندي، ويا ليتني كنت راضية؛ فقد أَحَلت حياة زوجي جحيماً لكثرة تذمري وشكواي ومقارنتي ببقية أهلي وصديقاتي. ولكن مهلاً لو رآها زوجي لتزوجها مدعياً الرحمة والشفقة بها! هل أنا مجنونة لكي أوظفها عندي! وهممت أن أكلمها، ولكن تَلعثَمَت الكلمات، كأن زلزالاً خفيفاً أصاب شفَتَي؛ فقد التقت عيناي بعينيها فوجدت سحراً؛ لقد كانت مثل ما جاء بالأثر: إنها فتنة! نعم فتنة، فالدماء تتفجر في وجنتيها تفجراً، كمهبط شلالات، تصعد وتهبط في تناغم مثير مع تعابير وجهها. وكانت عيناها واسعتين، ترى نفسك خلالها وكأنك غريق في لجة بحر داج. وكانت تحرك طرف ناظرها يمنة ويسرة تفاعلاً مع الحديث، وأنا في حيرة من أمري: هل أرقب مخرج الحديث من ثغر وردي باسم يزينه لؤلؤ مصفوف؟ أم ألحق سواد عينيها الذي يتحرك يمنة ويسرة ككرة تنس؟ أم أرقب تصاعد الدماء في وجنتها؟ أم أتابع تلاعب الهواء في شعرها... إنها حقاً فتنة. كانت تتلعثم في إنجليزتها وهو ما زادها جمالاً وفتنة. فكرت قليلاً.. لا، لا أستطيع أن أهين أختاً مسلمة بهذ الطريقة. سامحك الله يا أم محمد لقد وضعتني في هذا الموقف المحرج. فأبديت لها أسفي وقلت لها: إنني سأحاول الحصول لك على وظيفة في المدرسة الإسلامية. - شكراً أنا لا أريد وظيفة. ثم أتمت بفرح شديد: - لقد حصلت على وظيفة. - ألف مبروك، أين؟ - في مجمع روبنسون ماي، في قسم العطور الرجالية. - مـاذا؟ ومـا إن سمعت ردَّهـا حتـى شعرت بدوار: لا، لا يمكن هذا: أختــي المسلمة الفتــاة الصغيرة، فاتنــة الجمال، سـترش العطر علـى يد هــذا، وتلمـس خدَّ هـذا: (لا حــول ولا قـوة إلا بالله). وهذا سيدعوها على العشاء والآخر سيعرض خدماته: (إنا لله وإنا إليه راجعون). لقد كنت أخشاها على زوجي، وهو الرجل الصالح الذي سيغض بصره عنها وسيحافظ عليها، وسيغار عليها كغيرته على أخته، والآن ستذهب إلى وحوش بشرية ترتدي بزات أنيقة. وحين طال صمتي أردفت: - أمي ستساعدك. ودخلت الأم التي يبدو على محياها الفقر، بتبرج النصارى. - أمي لا تتحدث الإنجليزية وحضرت معها لأترجم لها ما ترغبين في شرحه لها. هل أرفض الأم؟ إنني إن رفضتها ربما تذهب هي الأخرى إلى روبنسـون ماي... لا، لا: إنهـم لا يـريدون هـذه الأنــواع ولا يعرفون من يختارون. دعني أَقْبَلها فربما إن أصبـح عنـدهم بعض المال يفكرون جيداً في وضع ابنتهم. ودَّعتنا الابنة وقلبي يتقطع حسرات؛ فهي شرفي الذي يكاد أن ينتهك، وعِرضي الذي يراد له أن يغتصب، وماء وجهي الذي أريق. لحقتهــا ببصـري وأنا أردد فــي نفسي: لا، لا، أرجوك لا تذهبــي، سأعطيك كل ما أملــك لكــي لا تعملي هناك، سأعطيك حتى زوجي، ولكن لا ترحلي عن دينك. وكان أول سؤال سألته للأم، هو: لماذا لا يعمل زوجك وأبناؤك، فأجابت بعد جهد جهيد: - زوجي وأبنائي لم يحصلوا على وظائف ولديهم مشكلات مع دائرة الهجرة والعمل، أنا وابنتي نعمل بفترات متقطعة في البيوت والمطاعم. وبعد أن بذلت الصعوبات لأُفهمها خطورة الموقف وأبيِّن لها - تمثيلاً - ما قد يحصل لابنتها، أجابت بعد جهد جهيد: - الحمد لله، طبعاً، طبعاً، روبنسون ماي أفضل من عملها السابق؛ فقد كانت تقدِّم الخمر للسكارى. وكانت هذه ثاني صدمة لي هذا الصباح. كانت طفلة في البوسنة تحلم بفارس الأحلام والعيش كأميرة في بيت دافئ يغرد فيه الأطفال ولم يَدُر بخلدها قط أنها ستخدم الرجال لتكون مصدر الرزق الوحيد لأسرتها... ولا عزاء للبوسنيات. -
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) قصة حقيقية حدثت لإحدى الأخوات المغتربات في يوليو 1998م لوس أنجليس.