• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
جماعات مسلحة تحت رايات جهادية  اللعبة الدولية الكبرى بين الاختراق والتوظيف واستثمار غياب الإستراتيجية

في متابعة مجريات الأعمال العسكرية التي مارستها تلك الحركات يظهر جليّاً أيضاً، انعزال تلك المجموعات عن الواقع وتحوُّلها إلى حالة منعزلة على صعيد الإدراك لمختلف التطورات الإستراتيجية والأمنية والعسكرية والإعلامية والسيبرانية للدول الناشطة فيها وللخصوم


بدأ ظهور الحركات التي تحمل السلاح تحت رايات الجهاد في المشهد السياسي والصراعات في الدول العربية في نهاية سبعينيات القرن الماضي. كان الجديد في هذه الحركات أنها ظهرت على شكل (حركات عسكرية) على صـعيد التنظيـم والحركة والنشـاط، وفي ذلك جاءت مختلفة عن حركات إسلامية قبلت النشـاط السـياسي وتفاعلت معه وتشكلت بنيتهـا الدعـوية والسياسية على أساس هذا النهج، وإن ارتكـب بعض أفرادٍ منها أعمال عنف عسـكرية، فلم يكن ذلك ناتجاً عن جوهر توجهاتها أو في الخط العام لنشاطها.

وقد تصاعد دور الجماعات التي تحمل السلاح تحت رايات جهادية، حتى أصبحت المعطى الأول في الصراعات السياسية والحروب وعلى صعيد الإعلام والرأي العام، بعد أن تحولت إلى المشاركة الحربية في الأزمات الناشبة في الدول العربية والإسلامية، سواء كانت أزمات داخلية أم أزمات ناتجة عن وجود احتلال أجنبي. وبعد ما نُسب إليها القيام بأعمال قتل للمدنيين في داخل الدول الأجنبية التي توجد بقواتها في الدول الإسلامية، أو تلك الدول التي تشن حروب احتلال عليها.

وقد ترافق مع تلك النقلة ظهور جماعات أشد عسكرة ولا أصل محلي لها في بلدان محددة. ظهرت جماعات عابرة للحدود والقوميات والدول وصارت تنتشر بصفتها حركات (عسكرية) محضة دون تاريخ سياسي سابق معروف أو إستراتيجيات محددة معلنة.

وإذا جرت مراجعات لدور ونهج ونتائج النماذج أو النسخ المحلية الأولى لبعض تلك الجماعات على خلفية الهزائم التي مُنيَت بها (كما جرى في مصر مثلاً)؛ فإن اللافت أن تجارب الانغماس في الصراعات على الصعيدين العربي والإسلامي أو على الصعيد العالمي، لم تصدر بشأنها تقويمات أو مراجعات معلنة، ولا تزال قيد الغموض، بل لا يُعرف إلا القليل عن ملامح تشكُّل الحركات (الجديدة) منها؛ سواء أماكن نشأتها ومناطق تدرُّب وتربية قياداتها وطبيعة أدوارهم. على الرغم من الضجيج الكبير الذي أثارته والاتهامات التي نالتها (خاصة بعد الطابع التنفيري الذي ميَّز الدعاية الحربية المنسوبة إليها)، والأهم أنه لم يجرِ مثل هذا التقويم رغم أن النتائج النهائية لنشاطاتها جاءت مروعة ومتناقضة كليّاً مع شعاراتها المعلنة.

لقد صبَّت نتائج أدوارها في الصراعات والحروب في اتجاهات متناقضة تماماً مع الشعارات التي رفعتها؛ بل قيل بأن النتائج الفعلية لدورها جاءت مهددة لبقاء بعض المجتمعات السنية في مناطق تمركزها الديموغرافي، الذي تشكل عبر التاريخ الإسلامي، وجاءت وخيمة على بقاء المهاجرين المسلمين إلى الدول غير الإسلامية ودورهم. وعلى كيانات الدول العربية والإسلامية التي نشطت فيها واستمرار وجودها.

كما ثبت بالتجربة العملية أن كثيراً من الدول التي احتلت دولاً عربية وإسلامية، قد وجدت في دور تلك الحركات فرصة لوصم الإسلام بالإرهاب، وأن نمط نشاط ودور تلك الحركات، قد وفَّر بيئة سياسية وإعلامية دولية لشن حرب عقائدية على الإسلام تحت مسمى الحرب على الإرهاب.

ومع استمرار الغموض وغياب المعلومات وعدم الإعلان عن أي تقويم ومراجعة، ذهبتْ كثيرٌ من الكتابات التي تناولت أدوار تلك الحركات، للتمحور حول فكرة اتهامية شاملة مصمتة، بدأت بالقول: إن دور تلك الجماعات قد جرى استثماره لتحقيق أهداف معادية للمسلمين. وتطورت إلى فكرة تصاعد استقرارها في العقل الجمعي لكثير من المفكرين والساسة (بل حتى الجمهور العام) بأن تلك الجماعات مخترَقة إلى درجة مكَّنت الدول الإقليمية والكبرى - على تعددها - من إعادة توجيه نشاطاتها واستغلال التضحيات التي قدمتها، لإنجاز أهداف تلك الدول، وأنها استخدمت نشاطاتها لتكون غطاء سياسياً وإعلامياً لإحداث تغيير ديموغرافي؛ إذ جرى إخلاء مناطق أساسية في عدة بلدان من المسلمين تحت ضغط تدمير مجتمعاتهم.

ووصل الأمر إلى أن صدرت اتهامات قاطعة يقينية لدى مطلقيها، بأن بعض تلك الحركات يقف خلف تشكُّلها - من الأصل - دول معادية للإسلام والمسلمين، على خلفية إستراتيجياتها الشاملة للحرب على الإسلام والمسلمين، وأنها صممتْ لها دورها - عبر بعض القيادات - لتمرير خطتها لتغيير نظم الحكم في البلاد الإسلامية واستبدالها بـ (تحالف الأقليات) الدينية والعرقية الذي تتبناه وتعمل عليه الدول الاستعمارية على اختلاف توجهاتها. وقيل أيضاً: إن تلك الحركات استُخدمَت مصيدة جذب العنصر الإسلامي المتحمس، لرصده ومتابعته ودفعه لطريق الموت لا الانتصار.

وهو اتهام ترسخ في الأذهان بعد ما دخلت بعض تلك الحركات في أعمال قتالية ضد حركات المقاومة الوطنية والإسلامية في كلٍّ من أفغانستان والعراق وسوريا.

ووسط طغيان زوايا تلك الرؤية (الاختراق والتوظيف وتشكيل حركات) على التقويم النهائي المتداول، سقط المعيار الموضوعي، المتعلق بالنظر في الأسباب الفعلية لظهور تلك الحالة، والمتعلق أيضاً بالنظر فيما إذا كانت تمتلك أو تتبنى خططاً إستراتيجية من الأصل، أو أنها اعتمدت إستراتيجية خاطئة أوصلتها إلى تلك النتائج.

لم يجرِ البحث، فيما إذا كانت تلك الحركات تمتلك رؤى وإستراتيجيات واضحة في التعامل مع هذا الخضم الرهيب الذي دخلت فيه أو أنها دخلت وأدخلت من تبعها - ومن فرض عليه الوجود في مناطق نشاطها - في بحور هوجاء لا تُعرَف طبيعة مياهها ولا كيف تصل إلى شواطئها ولا حتى اتجاهات الرياح وتأثيرها على طريقة السباحة فيها ولا أساليب الإنقاذ.

سقط التقويم الموضوعي الذي هو أساس كل تقويم، والذي هو الأساس في منع تكرار تلك التجارب العدمية المدمرة.

وفي ذلك، تُظهِر متابعة المعارك والصراعات التي كانت تلك الحركات طرفاً فاعلاً فيها، أن فهماً أوَّليّاً ومبسطاً سيطر على طريقة إدارتها للصراعات، وأنها لم تُبرز إدراكاً لقضية التحالفات ولتشابك المصالح بين الخصوم وتناقضها في الآن ذاته.

كما لم يثبت سعيُها خلال الصراعات لبناء أيٍّ من التحالفات السياسية، لا المحلية ولا المؤقتة ولا الأبعد، كما أنها لم تسعَ حتى للتحالف مع حركات إسلامية أخرى. وأنها لم تُبدِ إدراكاً لطبيعة قدرات البيئة المحلية الحاضنة لها وحدودها، ولا لطبيعة التطورات الجديدة في البيئة السياسية والقانونية الدولية وانعكاسها الخطير، على حدود المدى (المسموح) به حربياً الآن في التعامل مع المدن والعمران البشري خلال الحروب. ويظهر للمتابع أنها لم تدرك أنه بات ممكناً منذ العدوان على صربيا - ومن بعدُ في أفغانستان والعراق بدرجة أشد إجراماً - تحوُّل القتال في المدن إلى درجة القصف الشامل بالطائرات والقيام بأعمال الإبادة والإخلاء الكامل للسكان.

كما يظهر للمتابع افتقادُ تلك الحركات للقدرة على إدارة السياسات الكلية العامة، وأنها افتقدت القدرة على تعيين توازنات القوى، وأنها وضعت الوعي العقائدي أو الأيديولوجي - الذي هو قاطع الدلالات - في مواجهة الأعمال السياسية وبديلاً عنها، إلى درجة أفقدتها القدرة على بناء سياسات آنية ومرحلية ومستقبلية، وهو ما أظهر تلك التيارات بمظهر الفارس الذي يحمل سيفاً في مواجهة الجميع، متمنياً الشهادة - له وللسكان المحليين - أكثرَ مما هو ساعٍ إلى إدامة الصراع وَفْقَ خطة يجري العمل عليها لتغيير التوازنات ولتحقيق وضع سياسي وإستراتيجي أفضل باطراد. ويمكن القول بأنها قد ظهرت بمظهر المقاتل الذي يقدم الفكرة الانتقامية ويرفعها إلى درجة أعلى من فكرة البناء التدرجي لإحراز التغيير الإستراتيجي وتحقيق النصر.

 وفي متابعة مجريات الأعمال العسكرية التي مارستها تلك الحركات يظهر جليّاً أيضاً، انعزال تلك المجموعات عن الواقع وتحوُّلها إلى حالة منعزلة على صعيد الإدراك لمختلف التطورات الإستراتيجية والأمنية والعسكرية والإعلامية والسيبرانية للدول الناشطة فيها وللخصوم، وأنها عانت وما تزال تعاني من الانفصال عن تطورات الوضع الدولي والإستراتيجيات المعقدة والتحولات في التحالفات بين الدول الكبرى وبينها وبين الدول الإقليمية، وكذلك تبعات ظهور دول جديدة على ساحة الصراعات الدولية التي يجب إدراك أهمية تأثيرها... وهو ما جعل تلك الظاهرة تتحول إلى ورقة تتقاذفها مصالح الدول.

لقد بدت في وضعية الجماعات العسكرية المنعزلة التي تنشط بلا خطة سياسية أو إستراتيجية.

من المحلي إلى العالمي

ووَفْقاً لوقائع الأحداث، فقد ظهر بين تلك الجماعات حركات محلية، كما ظهرت حركات عابرة للدول والقوميات وذات طبيعة ودور عالمي.

وعلى صعيد الحركات ذات الطابع المحلي، يمكن تمييز ما جرى في مصر والجزائر، من هذا النمط:

في مصر: كان الظهور الأكبر والأخطر لها في عام 1981م، حين وقعت عملية اغتيال الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات، ووصل الأمر وقتها حدَّ تهديد الدولة والنظام السياسي في مصر.

وفي النتائج، فقد أدت تلك الأحداث بالدولة المصرية إلى اعتماد إستراتيجية حشد المجتمع والتيارات السياسية بما فيها بعض الإسلامية - التي لا تماس لها مع العمل المسلح - لعزل تلك المجموعات التي حملت السلاح تحت رايات الجهاد. وما إن انتهت منها واطمأنت لتعديل أفكارها حول العمل المسلح - فيما وصف في مصر بالمراجعات - حتى استدارت وقلصت كل المكاسب التي سبق أن منحتها لتلك التيارات الإسلامية التي كانت سمحت لها بالحركة دون ملاحقة خلال المواجهة مع الجماعات المسلحة.

وفي الجزائر: حدث تحول إلى العمل المسلح في عام 1992م، إثر إلغاء السلطات السياسية لنتائج الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية التي فازت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ في عام 1991م. تمَّت عسكرة الصراع بعدها، وهو ما سمح للسلطة بإشتعال عنفٍ أعمى أدى لارتكاب مجازر مروعة طوال ما وصف بالعشرية السوداء.

وانتهت الأحداث إلى خروج الجبهة الإسلامية للإنقاذ من دائرة العمل السياسي ووصمها بالإرهاب، لتتحول من حالة سياسية تحرز الأغلبية بأصوات الشعب إلى مجموعات مطاردة في الجبال. وعادت السلطة الحاكمة في البلاد في نهاية المطاف إلى ما كانت عليه.

والملاحظة البارزة ذات الدلالة في كلا حالتي النشأة المحلية في مصر والجزائر، أنه كان للأحداث التي كانت شهدتها أفغانستان خلال حرب الجهاد ضد الاتحاد السوفييتي، منذ الغزو وحتى الانسحاب في عام 1989م، تأثيرٌ حاسمٌ في التحولات التي جرت تجاه العمل المسلح والجرائم الإرهابية؛ إذ معظم من قادوا الأحداث المحلية في كلا البلدين كانوا قد تلقَّوا تدريباتهم وتبلورت أفكارهم تجاه حمل السلاح خلال ما وصف بالجهاد الأفغاني الذي دُعمَ بإشراف غربي.

وظهرت حركات ذات طابع عابر للدول والقوميات وصارت تمارس دورها على الصعيد العالمي.

تطور نموذج تشكيل الحركات المسلحة تحت الرايات الجهادية، وصعد دوره إلى المستوى الدولي بعد سلسلة من الصراعات، لكنه شهد اندفاعة كبرى بعد الحرب الأمريكية على أفغانستان والعراق.

- في حرب البوسنة والهرسك بين عامي 1992 - 1995م، كانت الفكرة الخاصة بالعمل العسكري تحت الرايات الجهادية قد بدأت في التثبت، لكن مساهمتها في تلك الحرب لم تكن واسعة ومتاح لها التأثير في توجهاتها. كانت الجماعات التي شاركت في الحرب قوة مضافة لا قوة أصيلة في إدارة الصراع. لم يكن دورهم أساسياً على صعيد القيادة لوجود كيان منظم وقيادة واضحة ممثلة في الرئيس على عزت بيجوفيتش، وجيش البوسنة والهرسك. وبعد أن انتهت الحرب عبر اتفاق دايتون جرى التحول لمطاردة بعض من وصفوا بالمجاهدين العرب.

- وجرت حربا الشيشان: الأولى بين عامي 1994 - 1996م، والثانية بين عامي 1999 - 2009م. وكانت النتيجة النهائية أن تم تدمير البنية المجتمعية الإسلامية في الشيشان، وأن سيطرت القوات الروسية بأشد درجات التدمير. وانتهت محاولة الاستقلال. وكان لافتاً في تلك المرحلة أنه جرت محاولات لنقل المعركة إلى مناطق روسية أخرى، إذ جرت عمليات مسلحة كان أخطرها ما جرى في مدرسة للأطفال، انتهت إلى مذبحة.

- وجاءت أحداث أفغانستان بعد الاحتلال الأمريكي عام 2001م وما تبعها من احتلال العراق في عام 2003م لتشكل قاطرة لانطلاقة أشدَّ توسعاً، وَفْقَ صيغة عابرة للقوميات والدول والحدود بشكل واضح وصريح، ووفق صيغ حركية (مستقلة) وجديدة، تمددت هي ذاتها في سوريا ولبنان ومناطق أخرى.

- لقد حدث الاحتلال الأمريكي لأفغانستان بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م، تحت عنوان قيام أحد تلك التنظيمات غير المحلية ذات الطابع العالمي بالوقوف خلف الأحداث. وصارت تلك الجماعة عنواناً عريضاً وسبباً للاعتداء الأمريكي والاحتلال.

وكانت الملاحظة هنا أن من قاد المواجهة مع قوات الاحتلال حتى إجبار الولايات المتحدة وحلف الناتو على اتخاذ قرار الانسحاب هو الحركة المحلية (حركة طالبان) وأن الحركات المسلحة (الجديدة) التي ظهرت على أساس عالمي قد قامت بأعمال التفجير والقتل ضد حركة طالبان وقادتها. بما جعل تلك الجماعة الجديدة تقف فعلياً في صف من يحتلون أفغانستان. وقد تواصل دورها ضد حركة طالبان بعد إنهاء الاحتلال.

- ولما احتُلَّ العراق في عام 2003م، فقد تشكلت حركات مقاومة عراقية أحدثت تأثيراً هائلاً ضد قوات الاحتلال. لكن مجدداً ظهرت حركات مسلحة ترفع رايات الجهاد، تقودها شخصيات قدمت للعراق تحت تلك الراية. كانت النسخة الأهم منها ما سمي بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) التي خاضت حرباً في مواجهة الجيش الحكومي أولاً، وفي مواجهة المقاومة ثانياً، ووصلت حدَّ السيطرة على عدة مدن (سنية). لكن تجربتها انتهت إلى أسوأ أعمال التدمير للمجتمع السني، وإلى تمكين الميليشيات الإيرانية من السيطرة على تلك المناطق، وقبل ذلك إلى إضعاف حركات المقاومة العراقية التي كانت قد حققت نتائج هامة في مواجهة قوات الاحتلال.

لقد ظهرت تلك الحركة الجديدة في أفغانستان والعراق وتمددت إلى سوريا، كما استُخدم اسمها في مناطق عديدة في العالم. وبدت في ظهورها ودورها وكأنها قوات محمولة جواً جرى دخولها على خط الصراع، فتعدلت توازناتها وأعيد توجيه حركتها، إذ ترافَق مع تدخُّلها تحوُّل المعارك من التركيز على مواجهة الاحتلال إلى التركيز على الجماعات التي تقاتله وإلى قتال تحت عناوين داخلية طائفية، وهو ما أدى لإذكاء الصراع الطائفي لمصلحة إيران، وإلى نمو الأفكار الداعية إلى تقسيم العراق الذي عملت عليه الولايات المتحدة منذ بداية الاحتلال.

وفي ذلك يمكن رصد اختلافٍ بيِّنٍ وقاطعٍ بين حركتي طابان والمقاومة العراقية من جهة، وبين الحركات العابرة للحدود والقوميات والصاعدة إلى دور عالمي التي استقر اسمها في تلك المرحلة، تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).

وتكررت التجربة نفسها في سوريا وإن وَفْقَ ملامح أخرى.

بدأت الاحتجاجات الشعبية في سوريا مقتصرة على التظاهرات والحَراك السلمي، وتحولت تدرجياً إلى حمل السلاح، لكن الانقلاب الحقيقي في اتجاهات الأحداث قد ترافق مع وصول وتبلور تلك الجماعات المسلحة (الجديدة) التي ترفع رايات الجهاد، التي وجَّهت جهدها ودورها لمواجهة كل القوى الفاعلة على الأرض. وكان الأسوأ أن اتخذت إيران وروسيا والولايات المتحدة من وجودها ودورها ذريعة للتدخل العسكري المباشر والدائم.

وانتهى الأمر إلى أوسع وأكبر عملية تدمير لمدن السنة وأضخم عملية تهجير للسكان من مختلف مناطق سوريا ذات الأغلبية السنية إلى الخارج. ومَن بقي منهم على الأرض السورية جرى دفعهم للتكدس في منطقة إدلب.

وفي لبنان كان المشهد نفسه حاضراً في عدة مناسبات انتهت جميعها إلى النتائج نفسها التي تحققت في الدول الأخرى.

لقد شهد شمال لبنان في عام 2007م، ما عُرف بأحداث مخيم نهر البارد وانتهى الصراع إلى تدمير المخيم وتشريد اللاجئين الفلسطينيين.

وتكرر المشهد في الشمال الشرقي للبنان في مدينة عرسال عام 2014م. وهناك كان المكون السني من النازحين السوريين إلى لبنان، وكان النزوح قد جرى تحديداً تحت ضغط أعمال الإبادة والتغيير الديموغرافي التي شنتها ميليشيا نصر الله على الجانب السوري من الحدود مع لبنان.

جرت الأحداث هناك مع وصول تلك الحركات التي تنشط تحت الرايات الجهادية واشتباكها مع الجيش اللبناني. وانتهت الاشتباكات إلى إثبات ما هو مثبت، من ضعف هذا الجيش، فتهيأت الفرصة لدخول ميليشيا نصر الله بصفة (منقذ) لتنتهي الأحداث هذه المرة إلى خروج مقاتلي تلك الحركة تجاه سوريا مجدداً، ويتمدد وجود ميليشيا نصر الله على الجانبين من الحدود.

وقد تكرر المشهد في صيدا بجنوب لبنان من بعدُ وإن بصورة أقل.

- وفي اليمن كان لتلك الحركات دور، تغير من مرحلة لأخرى لكنه لم يكن حاسماً في ترتيب المشهد الداخلي. كان الحدث الأكبر الذي أعلن دورها، هو الهجوم على المدمرة الأمريكية كول، وهو ما ارتكنت إليه الولايات المتحدة في تكثيف وجودها قرب ميناء عدن. غير أن أوضاع اليمن لم تسمح لتلك الحركات بالتمدد المؤثر على المشهد الداخلي. فالسلاح منتشر والثقافة المجتمعية القبلية حاكمة، والحرب الأهلية - الإقليمية بأبعادها المتنوعة لا تترك فرصة واسعة لتعمِّق دور تلك الحركات.

- وفي ليبيا كان لها دورها في عدة مناطق. وقد أدى ما نشر لها من فيديوهات مصورة منسوبة لها، إلى تبرير دخول قوى إقليمية ودولية إلى ساحة الصراع الناشب بعد سقوط نظام القذافي. غير أن القَبَلية المتجذرة والانقسام بين الشرق والغرب والجنوب، قد أضعف دور تلك الحركات ودَفَعها للتحرك إلى غرب إفريقيا. وهناك جرت أعمال تفجير وقتل وخطف لطلبة المدارس، بما أدى إلى خلخلة أوضاع الدول والمجتمعات في ذلك الإقليم. وهو ما فتح المجال أمام فرنسا لتصعيد احتلالها في تلك الدول عبر استخدام القوة المسلحة من جهة، وإلى فتح المجال أمام دول أخرى للتنافس على النفوذ والدور كما هو حال روسيا والولايات المتحدة وتركيا.

وفي مصر ظهرت تلك الجماعات في شبه جزيرة سيناء هذه المرة. وإذا كان لافتاً أن نشاطها أساساً كان موجهاً ضد الجيش والشرطة المصرية لا الجيش الصهيوني، فقد انتهى الأمر إلى ما انتهى إليه في الدول الأخرى. كما جرت محاولات أخرى في دلتا مصر لكنها انتهت إلى الفشل سريعاً.

وبمراجعة إجمالية عامة لكل تلك التجارب، يظهر أنها (مكررة) في نتائجها سواء ظهرت وَفْقَ ملابسات وظروف محلية أو وَفْقَ ظروف دولية وإقليمية. وأن تلك الحركات أدخلت مناطق ومجتمعات سنية أو دولاً في صراعات انتهت إلى إضعاف ما تشكل تاريخياً، وأن الخصوم والأعداء هم من استفادوا مما قامت به في نهاية المطاف.

فنتائج الحروب لا تقاس بأعداد القتلى لدى هذا الطرف أو ذاك، ولكن بكسر إرادة الطرف الآخر.

أسباب مختلفة ونتيجة واحدة

في تفسير الظواهر الكبرى، لا يجري البحث عن عامل واحد وراء تطوراتها وفي تفسير النتائج التي وصلت لها. وفي ذلك يجب التأكيد أولاً، على أنه لا أحد يستطيع أن يخترع حركة سياسية واسعة من الفراغ. وأن تشكيل حركة بمثل هذا الاتساع لا شك ناتج عن عوامل موضوعية.

وفي العوامل الموضوعية لتوسع الظاهرة وتناميها المفاجئ، يمكن الإشارة إلى تنامي الشعور المضاد للظاهرة الاستعمارية بعد أن تحولت إلى نمط الاحتلال القديم أي بالقوة والغزو والاحتلال. لقد أدى الهجوم الأمريكي من جهة والروسي من جهة أخرى والإيراني من جهة ثالثة إلى شيوع مناخ استخدام القوة. وهناك ردُّ الفعل العام على تصاعد حملة التغريب التي تُشَن على الدول والمجتمعات الإسلامية ووصولها إلى حالة الاجتثاث. ويجب الإشارة أيضاً إلى تنامي مشاعر التمايز الحضاري على الصعيد الدولي وفي منطقتنا بعد طرح فكرة تشكيل الإمبراطورية الفارسية التي تعني العودة إلى ما قبل الإسلام.

وهناك التقدير العام بفشل التجارب التي اعتمدت القومية أو الاشتراكية في المجتمعات، بما فتح المجال أمام الدعوة للعودة إلى النموذج الحضاري الإسلامي.

وفي الحديث عن عوامل متعددة خلف تشكُّل تلك الظاهرة، فواقع الحال أن كل عامل من تلك العوامل يحمل في ذاته تشعُّباً واسعاً، بقدر ما يحمل مخاطر متنوعة بحكم تعدد البلدان التي شهدت تلك الأحداث وبحكم أن الصراع جرى ضد دول كبرى وإقليمية متعددة، وبالنظر لوقوع الأحداث على مدى زمني طويل... إلخ. وذلك ما يطرح قضية اختراق تلك الحركات؛ إذ كل حركة تصعد إلى (العالمية) وتصبح ذات تأثير على استقرار الدول وعلى خططها الإستراتيجية، يصبح اختراقها مطلباً تتكالب عليه الدول.

فإذا جرى الحديث مؤكَّداً عن اختراق تلك التنظيمات، فكرياً وتنظيمياً وعلى صعيد الأعضاء، بما أدى إلى إعادة توجيه حركتها الفعلية في أرض الواقع، وإلى نتائج مضادة ومتناقضة كليّاً مع الشعارات المرفوعة، فأمر الاختراق في الظواهر ذات الطبيعة العالمية هو أمر شائع. هذا الاختراق يصبح مسألة حيوية لدى الدول ذات الخطط والأهداف الإقليمية والدولية.

يمكن القول بأن كل حركة تحولت إلى نشاط ذي طبيعة عالمية هي حركة تلهث الدول خلف اختراقها، وهي حركة تعاني من اختراقات متعددة الاتجاهات بتعدد الدول المتدخلة أو المستفيدة أو المواجهة لمثل تلك الحركات خلال الصراعات.

والاختراق أمر تظهر نتائجه على المستوى التكتيكي والعملياتي في حدوث أخطاء قاتلة خلال حركة الصراع، لكن الأخطر فيه هو الاختراق على مستوى التوجهات والقرار، وهو ما بدا وافراً في كثير من التحركات التي جرى خلالها تصعيد المواجهة إلى حدِّ الاقتتال مع أطراف تقاتل في مواجهة العدو المفترض ذاته في شعارات تلك الحركات. والأمر المهم هنا أيضاً، أن مثل هذا الاختراق يهيئ الفرص لقتل العناصر القيادية التي يمكن لها أن تكشف الاختراقات أو تلك التي تدور بحركتها خارج أطر عمليات التوظيف التي هي أخطر ما تقوم به أعمال الاختراق.

والتوظيف أيضاً يرتبط بالاختراقات، لكنه يعمل كذلك وفق آليات مختلفة. يعمل التوظيف وفق آلية الدفع عن بُعد خلال حركة الصراع، وفي ذلك تتعدد الطرق والأساليب من فتح أبواب وطرق مغلقة وإغلاق وأخرى، وتسهيل إمكانيات التواصل الواقعة تحت الرقابة الكاملة.

وهذا التوظيف عبر الدفع عن بُعد، هو ما يطرح البعد الثالث والأهم، وهو افتقاد الرؤية والخطط الإستراتيجية، إذ هي صمام الأمان والطريقة الأعلى لكشف الاختراقات عامة وبشكل خاص لدى الشباب المتلهف والمتحمس. كما أن الخطط الإستراتيجية هي ما تشكِّل المعايير التي يتم من خلالها ضبط الأداء بما يمنع التوظيف ويقطع الطريق عليه (إذ الفارق كبير بين التحالف وتوظيف طرف لآخر) إذ هي مرجعية للقياس والتقويم.

السبب المغيب: افتقاد الخطط الإستراتيجية

يمكن القول بأن التعميم يحوي جانباً من الخطأ دوماً. فإن قيل: إن هناك اختراقات وتوظيفاً فلا يعني ذلك أن يستوي الجميع في ذلك. إلا أن افتقاد الخطة الإستراتيجية كان أمراً عاماً وخاصاً في الآن ذاته. فالفكر الإستراتيجي هو فكر مهمَل في عالمنا العربي والإسلامي. ويظل الادعاء ببناء خطط إستراتيجية أقرب إلى اللغو الكلامي لدى الحركات السياسية، بأكثر مما هو حالة تعتمد قواعد التخطيط الإستراتيجي.

ويعود لافتقاده (أي الفكر الإستراتيجي) في الأغلب الأعم كلُّ أشكال الفشل والإخفاق والهزائم. والفكر الإستراتيجي لا يكون تعلمه بالممارسة والتجريب، بل بالدراسة الخاصة لقواعد التفكير والتخطيط. هو حالة علمية وعقلية في الآن ذاته. والأخطر في افتقاد بناء الخطط الإستراتيجية لا يعني سوى تسليم الطرف الذي يفتقدها نفسَه للطرف الآخر ليديره كما يشاء. ولـمَّا أمكننا القول باطمئنان: إن تلك الحركات قد افتقدت الفكر والتخطيط الإستراتيجي، فيمكن القول أيضاً بأن كثيراً من أجهزة الدول أصبحت على درجة عالية من التفكير والتخطيط الإستراتيجي.

وفي مثل تلك المواجهة، فإن افتقاد أي طرف للرؤى والخطط إنما يجعل الطرف الآخر في الصراع قادراً على دفع الطرف المفتقد للخطط الشاملة للوقوع في مآزق يُدار بها. فإستراتيجيات إدارة الصراع - خاصة عند الطرف الأقوى - تقوم في بعضٍ من أفكارها على فتح الطرق التي إن سلكها الخصم - وربما بإجباره على سلوكها تحت الضغط - يتعمق مأزقه مع مرور الوقت. ضع خصمك تحت الضغط وأغلق الطرق التي تحقق لخصمك تقدماً أو حتى هروباً آمناً، وافتح الطرق التي تجعله يخرج من مأزق أصغر إلى مازق أكبر، بشرط أن لا يراك.

وتلك الحالة تكررت في المرحلة الراهنة في عالمنا العربي والإسلامي، ويستوي في ذلك الغالبية العظمى من الحركات السياسية على كامل اتساع توجهاتها وتنوعاتها، واختلاف أشكالها التنظيمية. وحين تجري التحركات السياسية والجماهيرية دون رؤى وخطط آنية ومتوسطة المدى، فالمعنى أنها كانت عفوية تتحرك كموج البحر أو كأوراق الأشجار تحت ضغط حركة واتجاهات الهواء. وهو ما يسهل مهمة دفعها دفعاً إلى طرق واتجاهات لا نتيجة لها، إلا التبدد.

وإذا أمكن القول بأن أحد أسباب انتصار حركة طالبان يعود لاعتمادها فكرة ورؤية وخطة إستراتيجية واضحة في إدارة الصراع مع الاحتلال الأمريكي - مثلاً - ولمعرفتها بالأرض وبحاضنتها السكانية، وبخصومها المحليين وبتنوعاتهم، فيمكن القول بأن غياب تلك الرؤية والخطط كان سبباً رئيسيّاً في الإخفاقات والهزائم التي منيت بها تلك الحركات المهاجرة التي تصدَّت للقيام بأعمال كبرى على طريقة هبوب الرياح، في مواجهة خصومٍ لديهم خطط إستراتيجية، ذات كفاءة عالية واحترافية، وذات خبرة واسعة وعميقة.

ولقد كان لعدم امتلاك خطط محددة من قبل تلك الحركات، الأثر الأكبر في تكرار الفشل لعدم توافر المعطيات التي يمكن الاستناد إليها في التقويم العام في داخلها لتعديل المسارات الكلية بما يجهض التوظيف الدائم، وكان ذلك السببَ الأهمَّ في عدم قدرتها على منع الاختراقات وكشف العناصر التي تنفِّذها ومنع توسع مخاطرها.

ولم تدرك تلك الجماعات أنها حين اختارت حالة العنف المسلح، قد وضعت نفسها رهينة للممول ومَن يوفر السلاح، في معارك هي بطبيعتها متطاولة المدى الزمني وتجري ضد خصوم يملكون مَدَداً هائلاً للاستمرار في الصراع. ولم تدرك أن إستراتيجية الضعيف هي إستراتيجية سياسية وجماهيرية بالأساس وليست عسكرية بالدرجة الأولى، وأنها إستراتيجية تسير وَفْق مراحل محددة، أساس الانتقال بينها هو درجة النهوض الشعبي لا تطور أعداد المقاتلين المنضمين إليها. وقد رأيناها تتصرف بخليط عجيب من الأفكار والخطط المتناقضة حين اعتمدت خطة السيطرة على الأرض والتمسك بها - وهي ليست جيشاً نظامياً - دون قدرة على الدفاع عنها لعدم امتلاكها وسائل الدفاع.

ولقد بدا من متابعة حركة تلك الحركات، عدم امتلاكها تصورات بشأن ما يسمى بالإستراتيجية العليا التي تهتم بما بعد الأعمال القتالية.


أعلى