إن سقوط غرناطة سنة (897هـ - 1492م) لم ينهِ القضية الأندلسية؛ إذ إنه رغم سقوط غرناطة سياسياً والاستيلاء عليها من لدن القوات الكاثوليكية، فقد بقيت الأندلس ثقافة وحضارة وديناً مستمرة في الزمان والمكان.
مقدمة:
بعد ثمانية قرون من الشموخ والألق الحضاري، تهاوى صرح الحضارة الأندلسية وتوارى
معها الحضور والزعامة الإسلامية في العالم. حضارة زاهرة في ميادين شتى، تعدَّى
تأثيرُها وصداها الفكريُّ والعلمي والثقافي أقاليمَ العالم السبع. فشد إليها
الرحالَ طلاب العلم من مختلف الأصقاع في سبيل التتلمذ والاغتراف من الزاد المعرفي
والعلمي لعلماء وفلاسفة الأندلس؛ بل إن وعي الأوروبيين بتخلفهم الحضاري وتفوُّق
المسلمين حملهم على ترجمة أعمال ومصنفات لعلماء أندلسيين وتدريسها في الجامعات
الأوروبية، ونذكر هنا مثالاً لا حصراً الفيلسوف ابن رشد الذي ظلت كتبه تدرَّس في
أوروبا حتى القرن السابع عشر. ومن ثَمَّ كان للحضارة الأندلسية نصيب وافر في النهضة
الأوروبية كما تُقِر بذلك طائفة من الأوروبيين أنفسهم.
عرف العالم الإسلامي خلال النصف الثاني من القرن الخامس عشر حدثين فارقين في
التاريخ الإسلامي وكذلك الأوروبي، والملاحظ أن هذين الحدثين - كما سيظهر - لم يكونا
دائماً لحساب طرف دون آخر. البداية كانت مع فتح العثمانيين للقسطنطينية سنة (857 هـ
- 1453م)، الذي جاء تتويجاً لجهود المسلمين المتتالية لفتح هذه المدينة العصية
والإستراتيجية منذ العهد الأموي. أما الحدث الثاني فكان سقوط غرناطة آخر المعاقل
الإسلامية في الأندلس سنة (897 - 1492م)، على أن هذا السقوط، لم يكن البتة حدثاً
طارئاً وفجائياً؛ وإنما يعدُّ محصلة لمسلسل الضياع الذي بدأ منذ أفول نجم الأمويين
وبداية عهد ملوك الطوائف. إذ تعرضت المدن والقلاع الأندلسية للتربص والقضم تباعاً،
لا سيما بعد الاتحاد (القشتالي - الأراغوني) وزواج المصلحة بين فيرناندو وإيزابيلا،
بقصد القضاء على الوجود العربي الإسلامي في الأندلس وطمس هذه المرحلة التاريخية من
تاريخ إسبانيا.
لقد عاش المسلمون نهاية القرن الخامس العشر على وقْع مفارقة تاريخية لا تنسى،
تراوحوا فيها بين الانتصار والانتشاء بلذة الفوز والنصر والاحتفاء بفتح القسطنطينية
عاصمة الإسلام، وبين صدمة الهزيمة والنواح والندب وتجرع مرارة نكبة الخروج من دار
عزيزة على القلب والذاكرة بعد ثمانية قرون من العيش بين أحضانها، إنها الأندلس!
الواقع أن أوروبا التي خسرت جزءاً حيوياً في شرقها (القسطنطينية)، عوضته بالأندلس
في غربها. لذلك لا يمكننا هنا إسناد نصر أو هزيمة لطرف دون آخر؛ إذ إن النصر
والهزيمة كلاهما كانا متبادلين، بمعنى أن هناك (توازنات دولية) لا غير، ومن ثَمَّ
فإن كل الأطراف كانت رابحة وخاسرة في الوقت نفسه.
إن سقوط غرناطة سنة (897هـ - 1492م) لم ينهِ القضية الأندلسية؛ إذ إنه رغم سقوط
غرناطة سياسياً والاستيلاء عليها من لدن القوات الكاثوليكية، فقد بقيت الأندلس
ثقافة وحضارة وديناً مستمرة في الزمان والمكان. ومن هنا ستطفو على السطح مسألة
مسلمي غرناطة في ظل الحكم الجديد، والتي نركزها في التساؤلات التالية: ما هي وضعية
مسلمي غرناطة (المورسكيين) داخل إسبانيا؟ وكيف كانت علاقتهم بالسلطة الإسبانية؟
وكيف كانت تنظر إليهم هذه السلطة؟ هل استطاعت إسبانيا بناء مجتمع منفتح متعدد
تتعايش فيه كل الملل (مسلمين، ويهود، ونصارى) في إطار التسامح بين الأديان
والمساواة بين البشر، أم أن العنصرية والإرهاب كانا سيدي الموقف؟ وماذا عن مصير
هؤلاء المسلمين (المورسكيين) غداة سقوط غرناطة؟
أولاً:
عام (897هـ) كان سقوط غرناطة واكتشاف أمريكا (مفارقة التاريخ):
لكل تاريخ دلالاته ورمزياته الدالة في الذاكرة الجمعية للأفراد والأمم على حد سواء،
إذ تشكل هذه التواريخ محطات ولحظات موشومة في المخيال العام للشعوب. قد تكون لحظات
غاصة بمعاني النصر والاعتزاز والفخر، وهو ما يجعل الذات وهي تسترجع مثل هذه
الأحداث، في ذروة بهجتها ونشوتها وتضخمها الثقافي والحضاري؛ لا سيما إذا استحضرت
علاقتها بالآخر المخالف في الدين والعقيدة. وبالمقابل هناك أحداث تاريخية تقابَل
بنوع من الامتعاض والتحقير والاستبعاد، فينظر إليها عادة بالسلبية لأنها أحداث لا
تحضر فيها الأنا إلا وهي مشوهة مهزومة صاغرة ذليلة... إلخ مقارنة بالآخر. لذلك
نلاحظ عادة أن الذاكرات تحاول القفز وتجاهل مثل هذه الوقفات (غير المشرفة)، التي
تحيي مشاعر الحزن والأسى والألم... إلخ، فتركز - تبعاً لذلك - على الوجه المشرق من
تاريخها، باعتباره ماضياً حريّاً بالتقدير والوقوف والاحتفاء.
في هذا السياق العام، تأتي سنة (897هـ - 1492م) تاريخ سقوط غرناطة، فإذا كان هذا
العام (فأل خير) على الأوروبيين، ذلك أنه تاريخ سقوط آخر معاقل المسلمين الأندلسيين
(غرناطة) في يد القوات الإسبانية، بعد مسلسل طويل من حروب الاسترداد حسب الرواية
الإسبانية، وأنه كذلك تاريخ اكتشاف (العالم الجديد) أمريكا من لدن كريستوف كولومبس،
أمريكا التي ستصبح مصدراً للثروات والغنى الذي ستعرفه فيما بعد الدول الأوروبية
وظهور ما يسمى بـ (المركنتيلية)[1].
وإذا كان الإسبان - إلى وقت قريب - يحتفلون بذكرى استرجاع غرناطة، واستكمال وحدتهم
القومية والدينية على الأندلس سابقاً، فإن الوضع مخالف تماماً بالنسبة للعرب
والمسلمين عموماً، إذ مثَّل هذا التاريخ نهاية وأفولاً لزعامتهم وصورتهم الحضارية.
بل إن هذا السقوط، شكَّل تحييداً لحاجز كان إلى وقت قريب صمام أمان للمغرب ضد
التوسعات الإسبانية، إذ صار هذا المغرب المجاهد في الديار الأندلسية البارحة، هو
ذاته - بعد سقوط غرناطة - في مرمى الاحتلال والغزو الإسباني لسواحله.
ثانياً:
ميلاد المسألة الموريسكية:
من المعلوم أن سقوط غرناطة كان سقوطاً سياسياً أنهى الحكم العربي بهذه الحاضرة، في
حين بقي الوجود العربي الإسلامي ديناً وثقافة حاضراً بقوة في المجتمع الإسباني
الجديد. من هنا ستُطرح قضية الموريسكيين ومستقبلهم في إسبانيا على أنها إحدى
المشكلات التي ينبغي للسلطات الإسبانية تسويتها؛ ذلك أن هذه الفئة تمثل الآخر
المسلم في مواجهة الأنا النصرانية الكاثوليكية.
يشار إلى أن موريسكي
Moriscos
كلمة إسبانية وهي تصغير لكلمة (المور) التي تعني المسلم. وهي وصف قدح للمسلم
المشكوك في نصرانيته[2].
كما تشير إلى (النصارى الجدد) تمييزاً لهم عن (النصارى القدماء). وتحيل عموماً على
الأقلية المسلمة التي بقيت في الأندلس بعد سقوط غرناطة.
بالنسبة للونشريسي يستعمل في حديثه عن الموريسكيين ألقاباً من قبيل: (المسلمون
الذميون) أو (المساكين الذميون). والملفت هنا أن لفظة (الذمي) عادة ما كانت تطلق
على الآخر غير المسلم الخاضع للحكم الإسلامي. لذلك مثلت المسألة الموريسكية (نازلة)
غير مسبوقة في التاريخ والفقه الإسلاميين. الأمر الذي جعل العلماء والفقهاء
المسلمين آنذاك، أمام متغيِّر جديد، حتَّم عليهم الاجتهاد والافتاء حيال مجموعة من
القضايا التي واجهها الموريسكيون من قبيل: هل ينبغي البقاء تحت حكم الكفار، أم يجب
الهجرة إلى (دار الإسلام)؟ وما مدى مشروعية الجمع بين دينين؟
ومن بين هذه القضايا مسألة هجرة الموريسكيين إلى (دار الإسلام)، التي أثارت نقاشاً
وجدلاً بين الفقهاء؛ إذ أفتى بعضهم بعدم جواز الهجرة، وحثَّ على ضرورة المقاومة
تجسيداً للحديث القائل:
«لا
هجرة بعد الفتح»[3]،
في حين رأى بعض آخر - على رأسهم الونشريسي في كتابه
«أسنى
المتاجر في بيان أحكام من غلبه على وطنه النصارى ولم يهاجر، وما يترتب على ذلك من
العقوبات والزواجر»
- أن الهجرة من (أرض الكفر) إلى (أرض الإسلام) فريضة.
ثالثاً:
الموريسكيون بين الإبادة أو التنصير... القرار الصعب!
في عام (897هـ - 1492م) وقَّع أبو عبد الله الصغير معاهدة استسلام تنازل بموجبها عن
غرناطة، وتعهدت إسبانيا باحترام المسلمين وتوقير دينهم وممتلكاتهم وهويتهم... إلخ،
إلا أن هذه الأخيرة نكثت وعدها، واستحوذت على أملاك الغرناطيين، وحاولت تنصيرهم
قسراً، وأحرقت الكتب العربية في العلن، وهو ما أدى إلى حدوث اصطدام أسفر عن مقتل
جنود في حي البيازين ذي الأغلبية المسلمة، كما اندلعت ثورة في جبل البشرات عام
1499م[4]،
لكن الثورة فشلت نظراً لعدم تكافؤ ميزان القوى، وتنازُعِ المسلمين وتفرُّق كلمتهم
وشملهم. وقد جعلت إسبانيا من هذا الحادث ذريعة لتبرير نقضها لمعاهدة الاستسلام،
فأصدرت الملكة إيزابيلا عام 1502م مرسوماً يقضي بالتنصر أو الرحيل. وقد زكَّى
البابا سكستوس الرابع هذا المرسوم الملكي بمرسوم آخر بعثه إلى أساقفة أراغون
وقشتالة، يحثهم على الإسراع في التعميد القسري للموريسكيين، وتخييرهم بين التعميد
أو مصادرة أملاكهم أو الهجرة. في هذا الصدد يشير الأستاذ عبد الواحد أكمير إلى أن
جلَّ الموريسكيين فضَّل التعميد على التخلي عن أملاكه.
رهان الإدماج القسري للموريسكين، وتذويبهم في الثقافة الإسبانية، حمل إسبانيا على
إنشاء محاكم التفتيش وإحداث فروع لها في جميع الأقاليم لملاحقة المسلمين. فقد وجَّه
فرناندو لشارل الخامس وصية يحثه فيها على ضرورة اختيار محققين أكْفَاء ومخلصين
للدين الكاثوليكي، لتضييق الخناق على طائفة محمد[5]،
كما جند مخبرين وجواسيس للغرض نفسه.
تعرض الموريسكيون لحملات تنصير وإرهاب واسعة، فقد فُرِض عليهم ترك أبواب بيوتهم
مفتوحة (ليل نهار) لمراقبتهم والتأكد من مصداقية معتقدهم واندماجهم في الدين
والثقافة الجديدة. هذا الوضع سيفرز مفهوم (التقية) أي ازدواج الهوية؛ ذلك أن
الموريسكي كان مضطراً أن يعيش حياة وهوية مزدوجتين: أولاً من أجل الحفاظ على دينه
(الإسلام)، ثم لتأمين حياته والحفاظ على أملاكه وإبعاد الشكوك عنه، فهو مسلم في
الباطن، ونصراني في الظاهر. يقول الحجري، وهو أحد الموريسكيين المهجرين إلى المغرب،
في هذا السياق:
«...
وكانوا يعبدون دينين: دين النصارى جهراً ودين المسلمين خفاء من الناس، وإذا ظهر على
أحد شيء من عمل المسلمين يحكمون فيهم الكفار الحكم القوي، يحرقون بعضهم كما
شاهدت... من عشرين سنة قبل خروجي منها...»[6].
وأما الشاعر الموريسكي خوان ألفونسو، فقد عبَّر عن نفوره من النصرانية قائلاً:
أيها الغراب الإسباني الملعون
يا ناشر الوباء، أيها السجان البغيض!
ها أنت واقف برؤوسك الثلاثة
على أبواب الجحيم
في عام 1566م أصدرت إسبانيا قانوناً يحرم اللغة العربية ويمنع استعمالها في العقود
والالتزامات والرسائل، وقد شكل هذا القانون مدخلاً لإبعاد المسلمين عن معتقداتهم
ولدمجهم في الحياة الجديدة، علاوة على حظر الزي العربي، ومنع النساء من ارتداء
الحجاب واللباس الإسلامي[7].
ولم يكن الأطفال بمنأى عن موجة التنصير الممنهجة هذه، نظراً لهشاشة هذه الفئة
وسهولة إدماجها وقولبتها في المنظومة الإسبانية، إذ أنشأت إسبانيا مدارس لتعليم
اللغة الإسبانية للأطفال المتراوحة أعمارهم بين 5 و 15 عاماً، وفرضت على
الموريسكيين الزواج بالكنيسة وتعميد أطفالهم.
وللحيلولة دون التمكين لهذه المقاصد حاول الموريسكيون تأخير إبلاغ أبنائهم بأنهم
مسلمون، وكذا تأخير تلقينهم شعائر الإسلام إلى ما بعد الطفولة، والسبب أن
الموريسكيين كانوا يتحاشون افتضاح أمرهم بسبب عفوية أطفالهم. في المقابل حرص
الموريسكيون على إظهار انصهارهم الشامل في الثقافة النصرانية أثناء تبادل الزيارات
مع جيرانهم النصارى، كتجنب بعض الأطعمة (الكسكس مثلاً)، والإقبال على أخرى (لحم
الخنزير والخمر)، وعادات الأكل (عدم الجلوس على الأرض)، وغيرها من المظاهر
الأنتربولوجية المميزة للإنسان الموريسكي.
على أن الشكوك والظنون ظلت تساور السلطات الكاثوليكية، حول مدى إخلاص المسلمين
للدين الجديد (النصرانية) إذ كان الموريسكي متهماً في عقيدته الكاثوليكية، لمجرد
القيام ببعض السلوكيات كتنظيف ذاته، وأكل اللحم يوم الجمعة، ورفض أكل الذبائح
النصرانية، وختن أولاده، والاستماع لأغانٍ عربية، وغسل الميت وتكفينه... إلخ.
هكذا إذن يبدو أن الموريسكيين عاشوا أزمة هوية حادة، إذ انشطروا إلى حياتين
وعقيدتين وسلوكين ولغتين وثقافتين متوازيتين. ولعل هذا ما حاولت هذه الأغنية
الشعبية الموريسكية التعبير عنه عام 1568م:
«إننا
مجبرون على أن نصلي معهم في شعائرهم النصرانية دون غسل، وأن نوقر أوثانهم المرسومة،
ومهزلة الخفي العظيم. لا أحد يتجاسر على الاعتراض، ولا أحد يجرؤ أن يقول كلمة
واحدة: من ذا الذي يستطيع أن يعبِّر عن الكرب الذي كتب علينا نحن المؤمنين...»[8].
وفي السياق نفسه، يقول أحد مسلمي غرناطة المنصَّرين يدعى بنيغش:
«...
رأيت بأم عيني سيدات وجيهات وأرامل ومتزوجات يتعرضن للاستهزاء، ورأيت أكثر من
ثلاثمائة عذراء يُبَعْن في مزاد علني... يا بني إني لا أبكي على الماضي لأندلس
يعود. لكنني أبكي على ما سترونه أنتم في قادم أيامكم، وما ينتظركم في هذه الأرض...
ماذا سيقول الناس؟ أين ذهبت صلاتنا؟ ماذا حدث لدين أسلافنا؟... وإذا كان الآباء قد
أهملوا الدين الآن؛ فكيف سيمجد أحفاد أحفادكم؟ وإذا كان الملك الغازي لم يحفظ
كلمته، فماذا تنتظر من خلفائه؟»[9]
رابعاً:
طرد جماعي ونهاية ملحمة خالدة:
بادئ ذي بَدء، نشير إلى أن الموريسكيين قبل تهجيرهم كانوا قد أطلقوا صرخات النداء
والاستغاثة في العالم الإسلامي لنجدتهم ورفع الضيم والحصار عنهم. فقد راسلوا
الأتراك، كما استغاثوا بالسلاطين المغاربة. بَيْدَ أن صرخاتهم تلك لم تؤدِ إلى ردود
فعل ملموسة فضاعت في مهب الريح؛ بل إن الأنكى من ذلك أن السلطان السعدي الغالب
بالله نكث وعده للموريسكيين وتواطأ مع العدو الكاثوليكي ضدهم، وهذا ما عبَّر عنه
المؤرخ المجهول قائلاً:
«
فلما قاموا [الموريسكيون] تراخى عما وعدهم به، وكذب عليهم غشاً لهم ولدين الله
تعالى ومصلحة لملكه الزائل، وكانت بينه وبين النصارى مكاتبات...»[10].
وإذا كان عبد الله الغالب على هذه الشاكلة، فإن السلطان محمد الشيخ المأمون، قد
تجرأ على الإيقاع والوشاية بهم لدى الملك الإسباني فيليب الثاني.
يظهر مما سبق، أن إسبانيا لعبت جميع أوراقها في محاولة لإدماج وصهر الموريسكي في
المنظومة النصرانية الكاثوليكية الإسبانية. لكنها محاولة باءت بالفشل رغم تعدد
مداخلها ووسائلها، لذلك، ستلجأ إسبانيا إلى لعب ورقتها الأخيرة ألا وهي الطرد
القسري والجماعي للموريسكيين.
ويفسر المتخصصون في التاريخ الأندلسي أن لجوء إسبانيا إلى هذا القرار، مردُّه إلى
تشبُّث الموريسكي بثقافته وتفرُّده الحضاري، واستحالة قولبته وإعادة إنتاجه ضمن
مخرجات المنظومة و (الماكينة) الكاثوليكية، وهو ما جعل إسبانيا تقف عاجزة أمام صمود
وتصلُّب وعناد الإنسان الموريسكي.
تعرض الموريسكيون المهجرون لمختلف صنوف التضييق والاضطهاد والمعاناة؛ فقد تعرضوا
للبيع والاختطاف من لدن القراصنة، كما فُرِض عليهم التجرد من ممتلكاتهم، ناهيك عن
عدم اصطحاب أطفالهم الأقل من 14 عاماً. لقد كان الطرد نكبة شديدة الوطأة على نفسية
الموريسكي، لأنها هجرة لا عودة بعدها، وتعني فيما تعنيه: التخلي وفراق بلادٍ وأرضٍ
حافلةٍ بالذكريات والعادات والمشاعر... إلخ، لهذا يمكن القول: إن الموريسكي،
والحالة هذه، تشظى إلى نصفين، عندما ترك نصف حياته وذكرياته بالأندلس، فصار بمثابة
فاقد الذاكرة الذي يحيا حياة جافة خالية من الحميمية والدفء والإحساس، لأن قطعة من
حياته وذاكرته مبتورة. ومن هنا سنجد أن الموريسكي بعد استقراره في البلدان المضيفة
(شمال إفريقيا والإمبراطورية العثمانية...)، لم يهنأ له بال ولا قرار، فقد ظل قلبه
متعلقاً بأرض أجداده، وعاش على أمل وحلم العودة إلى الفردوس المفقود.
لكن السؤال الذي ينطرح هنا هو: ما الذي أوصل الإنسان الأندلسي لهذا الحال، وجعل
الأندلس تخر صريعة تحت جحافل الكاثوليك؟
إن تقديم جواب شافٍ حيال إشكالٍ من هذا الحجم، ليس من السهولة بمكان، نظراً لتعدُّد
خلفيات وزوايا القراءة للدرس والتجربة الأندلسية، لكننا سنكتفي في هذا المضمار بما
قاله ابن حيان في كتابه (المقتبس في أخبار بلد الأندلس) وكان معاصراً لحروب
الاسترداد وهي شهادة مكثفة المغزى والعمق إذ يقول:
«وأنحي
باللائمة على الناس والحكام لما ارتكبوا في جنب الله من ذنوب، بإهمالهم وبتقصيرهم
في الأخذ بالشريعة، وبتهاونهم في تنفيذ أوامرها، فقد أركستهم الذنوب، ووصمتهم
العيوب»[11]
خاتمة:
قد لا نبالغ إذا قلنا: إن القرن الخامس عشر هو قرن المفارقات التاريخية بامتياز.
فقد حمل هذا القرن ثلاث مفارقات كبرى، كانت حاسمة في تغيير مجرى التاريخ العالمي،
وتأثيراتُها ما تزال حاضرة ومتواصلة في الزمن المعاصر. ففي الوقت الذي كان فيه
(الإسلام العثماني) يتقدم في شرق أوروبا، وانتزع القسطنطينية من البيزنطيين، كان
(الإسلام العربي) يتراجع في شبه الجزيرة الإيبيرية، ويعيش لحظاته الأخيرة أمام
الزحف الكاثوليكي. بمعنى أن الأدوار كانت معكوسة؛ فحينما كان المسلمون في شرق
المتوسط يتقدمون ويوسِّعون رقعة الفتوحات الإسلامية، كان مسلمو غرب المتوسط
يتراجعون وتتقلص خريطة نفوذهم، إذ باتوا في مرمى الأطماع والتوسعات الإسبانية
والبرتغالية. ومن هنا نجاهر بالقول: إن المسلمين عامة عاشوا نهاية القرن الخامسَ
عشرَ على جناحين وإيقاعين مختلفين: بين (مهرجان) النصر والاحتفاء بفتح القسطنطينية
(إستانبول)، وبين (مأتم) النكسة ورثاء الأندلس. وأما المفارقة الثالثة، فتتمثل في
اكتشاف الأوروبيين أمريكا (العالم الجديد)، ودخول أوروبا مرحلة جديدة من تاريخها،
تميزت بالدوران حول العالم، والسيطرة على البحار والمحيطات، ثم القضاء على الوساطة
التجارية للمسلمين. هذا فضلاً عن الثروة التي حصَّلتها أوروبا من مستعمراتها
الأمريكية، والتي ستؤدي إلى نشوء الرأسمالية التجارية، التي ستتطور لاحقاً إلى
الإمبريالية خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
لقد شكَّل سقوط الأندلس أكبر نكبة وملحمة في التاريخ الإسلامي، ومن ثَمَّ فإن
ذكراها تدمي القلب وتجرح الوجدان كلما استعادها المسلمون اللاحقون. وبالمقابل -
وهنا المفارقة - فإن اسم الأندلس ومشتقاتها من قبيل الفردوس المفقود، وغرناطة،
وقرطبة، وقصر الحمراء... إلخ، يحمل شحنات مكثفة من الفخر والاعتزاز وتضخم الأنا،
ويثير في الذاكرة والنفس الحنين والرغبة والمتعة في الحديث أو الاستماع إلى قصة أو
شريط من أشرطة الأندلس الخالدة.
[1] فكر اقتصادي تبلور في أوروبا عقب الكشوفات الجغرافية، يركز على الذهب والفضة
باعتبارهما الثروة الحقيقة، ورمز قوة الدولة.
[2] ينظر برنامج: منارات على قناة العربية، حلقة المفكر المغربي الأستاذ عبد الواحد
أكمير.
[3] صحيح البخاري.
[4] رزوق (محمد)، الأندلسيون وهجراتهم إلى المغرب خلال القرنين 16 و 17، كلية
الآداب والعلوم الإنسانية، الدار البيضاء، إفريقيا الشرق، الطبعة الثالثة، ص80.
[5] المرجع السابق نفسه، ص62.
[6] الحجري (أحمد)، ناصر الدين على القوم الكافرين، تحقيق وتقديم وترجمة: شورد فان
كوننكزفلد، قاسم السامرائي، خيرارد فيخرز، المجلس الأعلى للأبحاث العلمية، الوكالة
الإسبانية للتعاون الدولي، ص3 - 4.
[7] السائح (الحسن)، الحضارة الإسلامية في المغرب، دار الثقافة للنشر والتوزيع،
الطبعة الثانية، 1986م، الدار البيضاء، ص334.
[8] كار (ماثيو)، الدين والدم: إبادة شـعب الأندلس، ترجمة: مصطفى قاسم، مراجعة:
أحمد خريـس، هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة، مشروع (كلمة)، الطبعة الأولى 2013م،
ص205.
[9] كار (ماثيو)، الدين والدم: إبادة شعب الأندلس، مرجع سابق، ص164.
[10] المؤرخ المجهول، تاريخ الدولة السعدية التكمدارتية، تقديم وتحقيق: بنحادة (عبد
الرحيم)، دار تينمل للطباعة والنشر، مراكش، الطبعة الأولى 1994م، ص40.
[11] الدعيج (أحمد)، أركستهم الذنوب، مجلة المعرفة، العدد 68، فبراير 2001م، ص29.