كل ما لدينا من أخبار حول مساعدة اليهود للمسلمين في فتح مدن جنوب فرنسا حقيقةً هو رواية حولية كنسية يتيمة وهي فوق ذلك مشكوك في صحتها كأغلب المدونات الكنسية في العصور الوسطى التي تخلط التاريخ بالدعاية وتغلِّفه بالأساطير والخرافات التي تُضحِك الثكلى والتي لا
عند الحديث عن الفتوحات الإسلامية للأندلس وبلاد الغال (فرنسا) تُثار أمامنا قضية
هامة؛ إنها قضية الدور الذي لعبه اليهود في مساعدة المسلمين في تلك الفتوحات؛ إذ إن
طبيعة هذا الدور قد تعرَّضت لزيف وادعاء طويل من قِبَل المؤرخين اليهود الذين
هيمنـوا على حركة الاستشراق في أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر
الميلاديين. رغم أن أعدادَ اليهود وإمكانياتِهم وقدراتِهم الذاتيةَ وظروفَهم
التاريخية والموضوعية في ذلك الوقت لم تكن تسمح بقيامهم بذلك الدور الذي يدَّعيه
أحفادهم في الفتوحات الإسلامية للأندلس وجنوب فرنسا؛ فأيُّ دور
لعبه اليهود في تلك الفتوحات يا ترى؟
الوجود اليهودي في جنوب فرنسا:
تشير المصادر التاريخية إلى أن الوجود اليهودي في أوروبا الغربية بشكل عام وشمال
جبال البرتات أي جنوب فرنسا بشكل خاص يرجع إلى أوائل القرن الرابع الميلادي. وهناك
عدة نظريات تفسر طريقة وصول اليهود إلى هذه المناطق، أهمها ظهور روما قوة عظمى في
تلك الحقبة وسيطرتها السياسية والعسكرية على الموانئ الساحلية الواقعة على ضفتي
البحر الأبيض المتوسط؛ فقد يسَّر ذلك انتشار اليهود في أوروبا الغربية فظهروا أولاً
في حالة عبيد في روما عاصمة الإمبراطورية الرومانية، ثم هاجرت أعداد منهم من أرض
كنعان (فلسطين) ومن روما أيضاً وأصبحت مدن جنوب إيطاليا وجزيرة صقلية مراكز يهودية
مهمة، بل كانت توجد جماعات يهودية في بلاد الغال (فرنسا)، وفي المدن الرومانية
العسكرية على نهر الراين الذي كان يعدُّ الحدَّ الشمالي لروما على البر الرئيسي
الأوروبي. وفي بداية العصور الوسطى المعروفة بعصور الظلمات في أوروبا تحول المجتمع
الأوروبي إلى مجتمع زراعي ذي اقتصاد بدائي يقوم على سد الحاجات الاستهلاكية الدنيا
وعلى المقايضة؛ وهو ما يعني أن تكون للنقود قيمة هائلة في عملية التبادل. وهنا وجدت
الجماعات اليهودية المنبوذة في غرب أوروبا دوراً في عالم المال وجَلْب السلع
الشرقية الفاخرة إلى تلك المناطق، وذلك عبر ثغور البحر المتوسط الشمالية كـ
(مرسيليا ونربونة) والجنوبية كـ (الإسكندرية وصيدا)، ونتيجة لذلك ولتعاملهم بالربا
أيضاً واحتكارهم التجارة فقد اغتنى اليهود وكدَّسوا الثروات. ومع ذلك فقد كانت
الجماعات اليهودية في غالة (فرنسا) كما في إسبانيا تواجه العسف والاضطهاد والنبذ من
قِبَل الرومان الوثنيين حكاماً ومحكومين، وصارت هذه عادة شائعة لديهم. ولم يكن ذلك
من فراغ: فإن الأباطرة الرومان كانوا قد ذاقوا الويلات من القلاقل والفتن اليهودية
التي كانوا يتسببون في حدوثها في بلادهم إلى جانب تلاعبهم - أي اليهود - بالمصالح
العليا للدولة ليس في المجالين الاقتصادي والسياسي فقط؛ بل في المجالين الاجتماعي
والأخلاقي كذلك حتى في قلب العاصمة روما نفسها؛ وذلك بالتوسع في الملاهي الإباحية
والحانات ودُوْر الدعارة من قِبَل الجالية اليهودية الدخيلة عليهم والمستوطِنة
لأرضهم؛ وهو ما أدى إلى انتشار الانحلال الأخلاقي في المجتمع الروماني، وإلى إفساد
كثير من الشباب الرومانيين ذكوراً وإناثاً. فأصبح اليهود نتيجة لذلك وغيره هدفاً
للاضطهاد والتنكيل والبطش والمطاردة من قِبَل السلطات الرومانية. وليس اليهود فحسب
وإنما شمل ذلك النصارى أيضاً لأن الرومان كانوا يرون أن النصارى من اليهود؛ فلم يكن
الرومان في بداية الأمر وقبل اعتناقهم للنصرانية يرون أي فارق بين اليهود والنصارى
فكانوا يعدُّون الجميع خطراً عليهم ومن ثَمَّ كانوا مستهدفين ومضطهدين ومحتقرين من
قِبَلهم على حدٍّ سواء دون تمييز بين يهودي ونصراني.
يهود فرنسا والكنيسة الكاثوليكية:
ولما سقطت الإمبراطورية الرومانية الغربية تحت ضربات القوط الغربيين في مطلع الربع
الأخير من القرن الخامس الميلادي حلَّت محلها الكنيسة (الكاثوليكية)، وكان رجال
الدين القائمون على هذه الكنيسة ينتظمون تحت سلطة البابوية في روما، وكانت البابوية
لا تعني عقيدة فقط وإنما عقيدة ودولة؛ إذ كان بابوات روما يرون أنهم ورثة الرسول
بطرس زعيم الحواريين ومؤسس أول كنيسة سرية في روما قبل أن يقتل في عهد نيرون (37 -
68م) من ناحية، وورثة أباطرة الرومان من ناحية أخرى. وكان من ضمن ما ورثته الكنيسة
الكاثوليكية عن الرومان اضطهاد اليهود وقمعهم والتنكيل بهم فحاكاها في ذلك سائر
النصارى في غرب أوروبا حكاماً ومحكومين حتى صار اليهود في غرب أوروبا عرضة لكل
الممارسات العدوانية من قِبَل النصارى وصاروا وجبة دسمة لمختلف ضروب العسف والطغيان
بما في ذلك قتلهم على أنهم قرابين، ولم يكن ذلك لأسباب سياسية واجتماعية فقط كما
كان عليه الحال في زمن الرومان الوثنيين؛ ولكن أيضاً لأسباب دينية وهي الأهم ها
هنا، وتتمثل أهم تلك الأسباب في علاقة اليهود بقتل عيسى بن مريم عليهما السلام (حسب
زعمهم وادعائهم). ولإنكار اليهود أن عيسى عليه السلام هو المسيح، ولتعاملهم بالربا،
ولخستهم وقبائح أعمالهم وانعدام الشرف لديهم وتوسلهم بأفخاذ نسائهم لتحقيق مصالحهم.
ولكونهم يعدُّون أنفسهم فوق سائر بني البشر، ومن ذلك زعمهم بأنهم (شعب الله
المختار)، وهي الفكرة التي قامت على أساسها النصرانية الغربية فيما بعد... إلى غير
ذلك من المزاعم والأساليب اليهودية الاستفزازية والقذرة التي بسببها جَنَوا على
أنفسهم كما فعلت براقش.
ولكل تلك العوامل والأسباب وغيرها فقد تعرضت الجاليات اليهودية في غرب أوروبا -
وبخاصة في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا (وهي أهم معاقل النصرانية الكاثوليكية) - لأهوال
المذابح والنفي والطرد سواء من قبل رجال الدين الكاثوليك أو من قبل النصارى بشكل
عام، وذاقت تلك الجاليات أشدَّ أنواع التنكيل والقهر والعقاب الجماعي. ولم يَحُل
دون إبادة اليهود واستئصال شأفتهم في تلك الآونة سوى المال، ولذلك كانوا يعبدونه
وما زالوا كذلك حتى اليوم مع كونهم يجيدون استخدامه لتحقيق أغراضهم وتنفيذ مخططاتهم
الشريرة فضلاً عن حماية أنفسهم. فقد كان اليهود خلال تلك العصور المظلمة يرشون رجال
الدين والنبلاء النصارى في غرب أوروبا في مقابل حمايتهم من القوانين الصارمة
والجائرة التي كانت تصدر ضدهم، أو تجميد تلك القوانين أو تأجيل تطبيقها إلى أجل
مسمى أو غير مسمى. وهذا ما فعلوه في إسبانيا في العصر القوطي وتحديداً في عهد لذريق
آخر ملوك القوط عندما وصل اضطهاد الكنيسة الكاثوليكية لهم إلى ذروته.
اليهود وفتح الأندلس:
ومن هنا فقد رحبَّ اليهود بفتح المسلمين للأندلس في النصف الأول من العقد العاشر
الهجري أكبر ترحيب، وعَدُّوا المسلمين مخلِّصين لهم مما حل بهم من أهوال المذابح
والفواجع وآلام المآسي والشتات من قِبَل الكنيسة الكاثوليكية والنبلاء القوط، فضلاً
عن مصادرة الثروات واسترقاق الأطفال والتنصير القسري... إلخ. وكان الأمر كذلك
بالفعل دون أي مبالغة أو تضخيم؛ فقد شكل الفتح الإسلامي للأندلس ميلاداً جديداً
للجالية اليهودية في إسبانيا وهي التي كانت على وشك الفناء والاندثار. ومن هنا فقد
كان طبيعياً أن يهبَّ اليهود في هذا الإقليم لمساعدة المسلمين الفاتحين والعمل ضد
النصارى القوط (العدو المشترك لهم وللمسلمين الفاتحين)؛ فساعدوا المسلمين على فتح
أبواب المدن والمعاقل الإسبانية لا في الجِلَاد والطِّعان ومواجهة الأقران، فقد كان
اليهود يدلُّون المسلمين على عورات البلاد ونقاط ضعفها ومداخلها ومخارجها، كما
كانوا يدلُّونهم على مواضع الثلمات في الأسوار كي ينْفُذوا من خلالها إلى داخل تلك
المدن، كما أن الفاتحين المسلمين نظراً لقلة أعدادهم استعانوا باليهود في حراسة
المدن الإسبانية المفتوحة كـ (إلبيرة وإشبيلية وطليطلة)؛ وذلك في عملهم مساعدين
للحرس الإسلامي وبخاصة في أول الفتح عندما كان المسلمون غرباء عن البلاد وبحاجة
ماسة للمساعدة. وقد تطرق إلى ذكر الدور الذي لعبه اليهود في الفتح الإسلامي للأندلس
عدد من المؤرخين العرب الأقدمين: كأحمد الرازي (344هـ/ 955)، وأبي بكر بن القوطية
(367هـ/ 977م)، وابن عذاري المراكشي (كان حيّاً سنة 712هـ/1312م)، ولسان الدين بن
الخطيب (776هـ/ 1374) والمقَّري التلمساني (1041هـ/ 1631م)... وغيرهم. ومن المؤرخين
المعاصرين: الدكتور حسين مؤنس (1416هـ/ 1996م) وغيره. فقال ابن القوطية في كتابه
(تاريخ افتتاح الأندلس) حين الحديث عن فتح المسلمين لإلبيرة في جنوب الأندلس:
«فحاصروا
مدينتها وفتحوها عنوة وأَلْفَوا بها يهوداً ضموهم إلى قصبة غرناطة وصار لهم ذلك
سُنَّة متَّبعة متى وجدوا بمدينة فتحوها يهوداً يضمونهم إلى قصبتها ويجعلون معهم
طائفة من المسلمين يسدونها».
وتجدر الإشارة إلى أن المسلمين كانوا متسامحين مع اليهود إلى أبعد حدٍّ تقبله
الشريعة. واستمرت سياسة المسلمين إزاء اليهود على هذا النحو طوال فترة حكمهم
للأندلس فكانت لليهود بِيَعُهم ورجال دينهم وكانوا يمارسون شعائرهم ما أحبُّوا
ويحظون بحماية المسلمين في مقابل دفع مبلغ يسير من المال كل عام جزيةً؛ بل إن الفتح
الإسلامي للأندلس هو الذي نشَّط الثقافة اليهودية حتى بلغت أوج إنجازاتها. وفي أيام
حكم العرب للأندلس كان يقال لمدينة طركونة الواقعة في شمال شرقي إسبانيا: مدينة
اليهود، كما كانوا يقولون عن غرناطة الواقعة في جنوب الأندلس: غرناطة اليهود، لأن
اليهود كانوا كثيرين فيهما. هذا بالنسبة لدور اليهود في الفتح الإسلامي للأندلس.
اليهود وفتح جنوب فرنسا:
وقد يكون اليهود ساعدوا المسلمين أيضاً في فتوحاتهم في جنوب فرنسا في النصف الأول
من القرن الثاني الهجري، ولكن المصادر العربية القديمة لا تذكر شيئاً مطلقاً عن
ذلك. ولذلك فأنا أعتقد جازماً بأن الباحثة الأكاديمية اليمنية (نجاة محمد الطلبي)
صاحبة كتاب (ما بعد بلاط الشهداء) قد بالغت كثيراً في تقويم دور اليهود في مساعدة
المسلمين في فتح سبتمانيا وجنوب بلاد الغال (فرنسا) رغم الجهد الضخم الذي بذلته في
كتابة تاريخ هذه الفتوحات فهي تقول في سياق حديثها عن حملة السمح بن مالك الخولاني
إلى فرنسا في ربيع سنة 102هـ/ 721م استناداً إلى مصادر غربية معاصرة:
«ولعب
يهود سبتمانيا دوراً بالغ الأهمية في إنجاح الفتوحات الإسلامية في جنوب بلاد الغال
كما كان دور اليهود من قبل في إنجاح الفتح الإسلامي للأندلس. فالمسلمون لم يُلحقوا
الأذى باليهود كثيري العدد والأثرياء والأقوياء في المدن السبتمانية. لذا ناصر
اليهود الجيوش الإسلامية الفاتحة بسبب القوانين الظالمة المفروضة عليهم من قبل
القوط والفرنجة. واتُّهم اليهود آنذاك وعلى الدوام بأنهم قاموا باستدعاء المسلمين
لفتح ما وراء جبال البيرينيه. ولقد اعتمد المسلمون اعتماداً أساسياً على اليهود في
تشكيل الحاميات التي أقاموها في مدن جنوب بلاد الغال. فاليهود شكلوا الغالبية
العظمى من رجال تلك الحاميات الإسلامية».
وفي ظل سكوت المصادر العربية التي هي الأساس لكتابة تاريخ الفتوحات الإسلامية في
الأندلس وجنوب فرنسا باعتراف المؤرخين الأوروبيين أنفسهم عن الحديث عن أي مساعدة
قدَّمها اليهود للمسلمين في فتوح جنوب فرنسا؛ فعلى أي أساس يوصَف دور اليهود في تلك
الفتوحات بأنه كان
«بالغ
الأهمية»؟
وكيف يسوغ الجزم بأن المسلمين اعتمدوا عليهم
«اعتماداً
أساسياً»
في تشكيل الحاميات؟ وهل يُعقَل أن يبلغ اعتمادهم على اليهود إلى تلك الدرجة؟ ثم أي
خبرة قتالية وعسكرية كان يتمتع بها اليهود في ذلك الوقت حتى يعتمد عليهم المسلمون
«اعتماداً
أساسياً»
في تشكيل الحاميات كما قالت هذه الباحثة؛ مع طول فترة اضطهادهم وحياتهم البائسة تحت
هيمنة الكنيسة الكاثوليكية والحكام النصارى؟ مع العلم بأن ما ذكره المؤرخون
الغربيون المعاصرون الذين استقت هذه الباحثة مادتها حول هذه القضية من مؤلفاتهم جاء
أكثره من خيالاتهم وبنات أفكارهم أو بناء على تحليلاتهم ووجهات نظرهم في أحسن
الأحوال؛ وذلك قياساً على الدور الذي لعبه اليهود في فتح الأندلس سابقاً، ذلك الدور
الذي لم يجد المؤرخون العرب غضاضة في الحديث عنه وأسقطوا ذلك الدور على فتح جنوب
فرنسا ولم يكن بناءً على معلومات مستمدة من مصادر تاريخية موثوقة تعود إلى تلك
الآونة لا عربية ولا إفرنجية.
رواية يتيمة مشكوك فيها:
كل ما لدينا من أخبار حول مساعدة اليهود للمسلمين في فتح مدن جنوب فرنسا حقيقةً هو
رواية حولية كنسية يتيمة وهي فوق ذلك مشكوك في صحتها كأغلب المدونات الكنسية في
العصور الوسطى التي تخلط التاريخ بالدعاية وتغلِّفه بالأساطير والخرافات التي
تُضحِك الثكلى والتي لا يمكن قبولها عقلاً. ومهما كان الأمر فليس بوسعنا إلا أن
نأتي بتلك الرواية: فقد جاء في سيرة القديس سانت ثيودارد رئيس أساقفة نربونة الذي
كان حيّاً في حوالي سنة (266هـ/ 880م)؛ أنه لما دخل المسلمون لأول مرة إلى لانجدوك
(جنوب شرقي فرنسا) انحاز اليهود إليهم وفتحوا لهم أبواب مدينة طولوشة (تولوز).
ويضيف كاتب السيرة أن شارلمان إمبراطور الفرنج (768 - 814م) عاقبهم على خيانتهم
فأمر أن يؤتى في كل سنة بمناسبة أعياد اليهود بيهودي ويصفع أمام الملأ على باب
الكاتدرائية (وهي الكنيسة العظمى التي يقيم بها الأساقفة)؛ وذلك لتسلية العامة
وإضحاكهم من جهة وللإمعان في النكاية باليهود وإذلالهم، وقد بقيت هذه العادة مدة
طويلة ثم استبدلوا بها دفع مبلغ من الدراهم كما هو شأن اليهود في التخلص من كل
عقوبة تصدر ضدهم. قلنا: إن هذه الرواية مشكوك في صحتها لأن المسلمين في أول دخولهم
إلى جنوب فرنسا وذلك في سنة 102هـ بقيادة السمح بن مالك الخولاني أمير الأندلس (100
- 102هـ) لم يتمكنوا من فتح طولوشة (تولوز) كما تمكنوا من فتح أربونة وقرقشونة
وغيرهما لا بمساعدة اليهود ولا دون مساعدتهم. بل إنهم تلقَّوا في ضواحيها أوَّل
هزيمة عسكرية منذ نزولهم في البر الأوروبي على أيدي الفرنجة، وكان ذلك في يوم عرفة
سنة 102هـ. ولذلك فإن المستشرق الفرنسي جوزيف رينو (1795 - 1867م) الذي أورد هذه
الرواية في تاريخه المسمى (غارات العرب على فرنسا...) علق عليها قائلاً:
«ولنا
اعتراض على هذه الرواية من جهة أن العرب لم يدخلوا تولوز فعلاً؛ فلعل هذه الحادثة
وقعت في فتح مدينة أخرى».
وهو - أي رينو - عندما تحدث عن هذا الموضوع لم يستند على هذه الحكاية ولم يعدَّها
دليلاً على أن اليهود قد ساعدوا المسلمين في فتوح جنوب فرنسا، ولكنه افترض وجود تلك
المساعدة افتراضاً بناء على حيثيات فتح الأندلس إذ نجده يقول:
«...
فإن البربر والعرب عندما فتحوا الأندلـس وجدوا أعواناً لا يحصى عددهم من النصارى
واليهود، ولَـمَّا لم يكن جيش العرب كافياً لحفظ هذه الفتوحات كانوا كلما دخلوا
بلدة عهدوا إلى اليهود بحراستها ولما دخل العرب إلى أرض فرنسة وما جاورها من البلاد
لم يخلُ الأمر من أنهم وجدوا من أهل البلاد رجالاً... فمشوا بين أيديهم وحطبوا في
حبالهم».
نموذج فاضح من تزوير التاريخ:
على أن الأخطر في هذه المسألة هو الذي ربما لم تفطن إليه الباحثة اليمنية المذكورة
التي أسهبت في الحديث عن دور اليهود في مساعدة المسلمين في فتح مدن جنوب فرنسا،
ونسبت إليهم أعمالاً لا أساس لصحتها؛ هو أن ذلك الدور المزعوم قد لعبت فيه أصابع
المؤرخين اليهود المعاصرين ليس بالتضخيم والمبالغة والتدليس فحسب؛ وإنما بالكذب
الواضح والتزوير الفاضح والاختلاق المتعمَّد على حساب الحقائق التاريخية؛ وذلك ربما
لكي يجدوا لهم منَّة يمنُّون بها على المسلمين الذين جسَّدوا في معاملتهم سماحة
الإسلام وعدله أحسن تجسيد طوال تاريخ عزهم المديد ومجدهم التليد وبخاصة في الأندلس؛
فلم يجدوا منهم بعد ذلك سوى النكران والجحود والمكر والأذى. وفي هذا يقول الباحث
خالد يونس الخالدي:
«وقد
خاض بعض المؤرخين المعاصرين من اليهود في موضوع المساعدة التي قدمها يهود الأندلس
للمسلمين الفاتحين وجعلوا لهم دوراً كبيراً في فتح الأندلس ولم يكتفوا بالمبالغة
وتضخيم الدور اليهودي؛ وإنما لجؤوا أحياناً إلى الاختلاق وقلب الحقائق».
وينقل لنا الخالدي مثالاً على مزاعم المؤرخ اليهودي (روسي الأصل) سيمون دوبنوف في
كتابه (تاريخ اليهود) ذلك الكتاب الضخم الصادر بالروسية في عشرة أجزاء، والذي
تُرجِم منه مختصر بالفرنسية تحت عنوان (مختصر التاريخ اليهودي منذ نشأته حتى سنة
1934م)، إذ يقول هذا المؤرخ اليهودي في كتابه المذكور عن الفتح الإسلامي للأندلس:
«وتضمَّن
الجيش الإسلامي الكتيبة البربرية اليهودية المنضمة إليهم، والتي يقودها المحارب
الذي يحمل اسماً يهودياً وهو خولان اليهودي الذي فتح برشلونة والجزء الأكبر من
قطلونيا».
ويعلق الخالدي على ذلك بقوله:
«ولا
يوجد لمزاعم سيمون أيُّ أساس من الصحة؛ فليس هناك قائد يهودي يحمل اسم خولان، ولم
يشارك اليهود مطلقاً في فتح قطلونيا أو غيرها [من مدن الأندلس وجنوب فرنسا] لا
مشاركة فردية [في الجيش الإسلامي] ولا على شكل كتيبة مستقلة [في نطاق الجيش
الإسلامي]».
ويضيف الخالدي:
«وهذه
المعلومات لم أجدها في أي مصدر عربي أو أسباني أو يهودي ولم يُشِر سيمون نفسه إلى
مصدرها ولا يستطيع أن يفعل لأن خياله المغرض فقط هو مصدر هذه الاختلاقات».
والعجيب أن يُقابَل هذا الكتاب (الخرافي) لهذا المؤرخ اليهودي بالحفاوة والإشادة
وبخاصة على إثر صدور ترجمته الفرنسية المختصرة من قبل مجلة (الرسالة) المصرية في
عددها رقم (156) وتاريخ 29/ 6/ 1936م؛ فقد عدَّته من علامات
«تطور
الفكرة التاريخية اليهودية»
وزعمت بأنه
«من
أمهات التواريخ اليهودية التي صدرت في العهد الأخير».
وختمت حديثها عنه بالقول:
«وكتاب
دوبنوف برغم إيجازه قويٌّ واضح وقد ألمَّ إلماماً مدهشاً بمواقف التاريخ اليهودي في
مدى ألفي عام».