• - الموافق2024/11/05م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الفتاوى مصدر للتاريخ... فتاوى ابــن تيمية أنموذجاً(1-2)

نَّ هذه الكنوز التاريخية في الفتاوى أشبه باللؤلؤ المنثور الذي يتعاظم حُسنه ‏ويتضاعف بهاؤه بذلك التفرُّق والانتشار، ‏فهذه النفائس التاريخية المنثورة أوردها منسجمة وملتئمة ‏وَفْق سياقات متعددة ومناسبات متنوعة، فليست سرداً تاريخياً ‏رتيباً، ‏بل هي ‏مُلَح جلي


كثيراً ما تضيع الأفكار البحثية المشتركة بين التخصصات العلميَّة، فعنوان تلك المقالة ‏قد لا يُلتفت إليه في التخصصات الشرعية؛ لأنه تاريخ، وربما لا يروق لأهل التاريخ لأنَّه في شأن كتب الفتاوى، وبعيداً عن رسوم وقيود ‏الأقسام العلميَّة، فإنَّ الناظر بعلم وعدل لَيُدرك ما تزخر به موسوعات الفتاوى في القديم والحديث من ‏إرثٍ تاريخي فريد، وما تحتويه من جوانب دينية واقتصادية وسياسية واجتماعية ونحوها؛ قد لا تُنَال في كتب التاريخ ‏المفردة والمتخصصة.

فالناظر - مثلاً - في كتاب (المعيـار الـمُعرب) للونشريسي ‏يلمس من خلال السؤالات ‏والجوابات ‏لعلماء المالكية آنذاك طرفاً ‏من أحوالٍ حضارية وسياسية وعلمية وغيرها في بلاد المغرب وما حولها، وكذا في (الدرر السنية في الأجوبة النجدية) موادُّ تاريخية فريدة مبثوثة في بطون تلك الفتاوى، ‏وحسبك رسالة (المقامات) ‏للشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، ‏فهي أشبه بالوثائق التاريخية الدقيقة عايَنَها شاهد ‏محقِّق وعالم راسخ ‏في أوقات عصيبة ‏زمن الدولة السعودية الأولى والثانية. ‏وأيضاً من طالع فتاوى ‏رشيد رضا ‏(جَمْع صلاح الدين المنجد)، ‏يقف على أطراف مهمة في وصف تلك الأوضاع الحاضرة في ذلك الوقت، ‏سواء في الشأن الديني أو العلمي أو السياسي أو الاجتماعي... وغيرها.

والسطور التالية إنما هي محاولة لاستكشاف جوانب تاريخيَّة متنوعة من خلال النظر في مجموع فتاوى ابن تيمية (جَمْع ابن قاسم)، ‏وإنَّ عالماً إماماً وبحراً ‏‏زاخراً يوصف بأنَّ العلـوم بين عينيه، ومنها درايته الراسخة بالتاريخ وأخبار الأمم وأحوال الفرق، وسنن الله في خلقه، ‏وكذلك معرفته الفاحصة بالأوضاع الاجتماعية ‏والاقتصادية والعلمية وغيرها، و‏مشاهداته الهائلة ‏والأخبار الواقعة في عصره وسمعه إياها من الثقات، ‏وكذا وصفه البليغ لأحوال المؤرخين... إلخ.

‏إنَّ هذه الكنوز التاريخية في الفتاوى أشبه باللؤلؤ المنثور الذي يتعاظم حُسنه ‏ويتضاعف بهاؤه بذلك التفرُّق والانتشار، ‏فهذه النفائس التاريخية المنثورة أوردها منسجمة وملتئمة ‏وَفْق سياقات متعددة ومناسبات متنوعة، فليست سرداً تاريخياً ‏رتيباً، ‏بل هي ‏مُلَح جليلة ‏وقلائد نفيسة طوَّعها ابن تيمية حسب ‏أوضاعها الملائمة بلا تكلُّف ‏ولا تكثُّر.

‏ومن تلك العلائق التاريخية في فتاوى ابن تيمية ما يلي:

أولاها: ‏ما اشتهر به ابن تيمية من دراية فاحصة وعناية فائقة ‏بتاريخ المقالات والفرق ورؤوسها ‏‏ونشأتها وأحوالها، ‏وأعجب من ذلك أنَّه يحرر قواعدَ وسُنَناً من خلال هذا التتبع الدقيق والاستقراء العميق.

ومن ذلك أنَّه لما قرَّر - في غير موطن - ‏أنَّ الروافض شرٌّ من الخوارج، وأن الخوارج أسبق ظهوراً من الروافض، ‏قال ما ملخصه: «‏ومعلوم أنَّه كلما ظهر نور النبوة كانت البدعة المخالفة أضعف، فلهذا كانت البدعة الأولى أخفَّ من الثانية، ‏والمستأخِرة تتضمن من جنس ما تضمنته الأولى وزيادة عليها... ثم ظهر في زمن علي ‏رضي الله عنه التكلُّم بالرفض، لكن لم يجتمعوا ويصير لهم قوة إلا بعد مقتل الحسين رضي الله عنه، ‏ثم في أواخر عصر التابعين ظهر التكلم ببدعة الجهمية نُفَاة الصفات ‏ولم يكن لهم اجتماع وسلطان إلا بعد المائة الثانية في إمارة المأمون... ‏وفي زمنه ظهرت الخرَّمية وهم زنادقة منافقون... ‏وصارت الرافضة الإمامية في زمن بني بويه ‏بعد المائة الثالثة فيهم عامة هذه الأهواء المضلة، فيهم الخروج والرفض والقدر والتجهم...»[1]. ‏والحاصل أنَّ من القواعد التي أظهرها ابن تيمية ‏من خلال ذاك النقل ونظائره:

 أننا كلما ابتعدنا عن زمن النبوة اشتدت البدع، وازدادت انحرافاً وغِلظةً، ‏وكذا بالنسبة إلى الموطن والمكان؛ ‏فإنَّ ظهور البدع وشناعتها يتفاوت ويختلف حسب البعد عن المدينة النبوية[2].

وتُلحَظ دقة ابن تيمية في شأن تاريخ الفرق ومراحلها، وتمييزه بين زمن نشأة ‏الفرق وبداياتها، وبين ظهورها وقوَّتها، وما قد آلت إليه. ‏

وأمر ثالث: هو أنَّه مع ظهور البدع تظهر الزندقة والانسلاخ عن الإسلام؛ فالبدع بريد الشرك والكفر.

ورابع: أنَّ البدع إذا تمكَّنت ‏اقترن بها تمكُّنُ الكفار وغلبتهم على أهل الإسلام، ‏كما بيَّنه رحمه الله في موطن آخر بقوله: «‏فهذه السواحل الشامية كانت ثغورَ الإسلام إلى أثناء المائة الرابعة، ‏وكان المسلمون قد فتحوا قبرص في خلافة عثمان رضي الله عنه، ‏فتحها معاوية رضي الله عنه، فلما كان أثناء المائة الرابعة اضطرب أمر الخلافة وصار للرافضة ‏والمنافقين وغيرهم دولة وملك ‏بالبلاد المصرية والمغرب... ‏وهم أمة مخذولة ليس لهم عقل ولا نقل، ولا دين صحيح، ولا دنيا منصورة، فغلبت النصارى ‏على عامة سواحل الشام، بل وأكثر بلاد الشام، وقهروا الروافض والمنافقين وغيرهم، وأخذوا منهم ما أخذوا، إلى أن يسَّر الله تعالى بولاية ملوك السنة مثل نور الدين [زنكي] ‏وصلاح الدين [الأيوبي] وغيرهما؛ فاستنقذوا عامة الشام من النصارى»[3].

ثانيها: أن دراية ابن تيمية بتاريخ الفرق وأحوالها كما استوعبتْ ما درج ومضى، فإنها ‏قد استوعبت ما حضر وبقي، كما في حكاياته ومشاهداته أحوال الرافضة (الجبلية) في عصره، ‏إذ قال عنهم: «‏وهؤلاء القوم كانوا ‏أقل صلاة وصياماً ولم نجدْ في جبلهم مصحفاً ولا فيهم قارئاً للقرآن؛ ‏وإنما عندهم عقائدهم التي خالفوا فيها الكتاب ‏والسنة ‏وأباحوا بها دماء المسلمين، وهم مع هذا فقد سفكوا من الدماء وأخذوا من الأموال ما لا يحصي عدده إلا الله تعالى... ‏وكثير من فساد التتر لمخالطة هؤلاء لهم كما كان في زمان قازان [سنة ٦٩٩هـ] وهولاكو [سنة ٦٥٦هـ]، ‏فإنهم أخذوا من أموال المسلمين أضعاف ما أخذوا من أموالهم»[4]. وحكى في (المنهاج)[5] معاونة الرافضة التتار ‏زمن سقوط بغداد سنة ٦٥٦هـ، ‏وكذا معاونتهم التتار في وقعة قازان سنة ٦٩٩هـ؛ إذ انهزم المسلمون وعاث الرافضة فساداً، وحملوا الصليب وفضَّلوا النصارى على المسلمين. ‏والحاصل أن ابن تيمية لا يقتصر على تدوين هذه الأخبار التاريخية الحاضرة والمهمة فحسب، بل يتبعها بمعالم نفيسة في تاريخ الأمم والطوائف، ويحرر سنناً ‏ظاهرة وعوائد باهرة. ومن ذلك أنَّه لما تحدَّث مراراً عن تعثر الروافض وخذلانهم في دنياهم ودولهم. أشار إلى طرفٍ من تلك السنن الجارية والعوائد الثابتة فقال: «‏حتى أنَّ الخبير بأحوال العالم يجد بلاد ‏الكفار لوجود رؤسائهم يقيمون مصلحة دنياهم أكثر انتظاماً من كثير من الأرض التي ينسبون فيها إلى متابعة المنتظر الذي ‏لا يقيم لهم سبباً من مصلحة دينهم ودنياهم»[6]. ‏وجزم بأنهم لا يكونون في خير إلا تحت سياسة من ليس فيهم، ‏فلا يقوم أمرهم إلا بحبل من الناس من غيرهم كحال اليهود، ‏ثم قال: «وهذا الذي ذكرته كلُّ مَنْ استقرأه في العالم وجده»[7].

‏وأما تاريخ التتار المعاصر وأحوالهم الحاضرة وأوضاعهم التي عاينها ابن تيمية في عهده فهو جدير برسالة علمية مستقلة أو ‏كتاب مفرد. ومنها ما سطَّره في فتواه الشهيرة بشأن مشروعية قتال التتار في وقته وإن زعموا أنهم مسلمون، حتى قال عنهم: «‏وبالجملة فما من نفاق وزندقة وإلحاد إلا وهي داخلة في أتباع التتار»[8]. ‏وتحدَّث عن معسكر التتار آنذاك، ‏وأنه مشتمل على أربع ‏طوائف، وأنهم ما بين كافر باق على كفره، ومرتد عن الإسلام[9]. بل ‏إنَّ نوازل ‏التتار ‏حاضرة عند ‏المستفتي بإشكالاتها، كما أنها ‏حاضرة عند المفتي بتحريرها وتحقيقها، ومن ذلك أنه سُئل: إذا دخل ‏التتارُ الشامَ ونهبوا أموال المسلمين ثم نهب المسلمون التتارَ وسلبوا القتلى منهم؛ فهل المأخوذ من أموالهم وسَلَبهم حلال أم لا؟ فأجاب: ‏ «كلُّ ما أُخذ من التتار ‏يخمَّس ‏ويباح الانتفاع به»[10]. ‏وتارة يسألونه عن معاملة ‏التتار هل هي مباحة لمن يعاملونه؟ ‏فأجاب: أما معاملة التتار فيجوز فيها ما يجوز في أمثالهم، ويحرم فيها ما يحرم من معاملة أمثالهم[11]. ‏وتارة يجيب عمَّن سأله عن أيتام تحت الحجر، ثم إن التتار أسروهم في معركة شقحب سنة ٧٠٢هـ ‏وهم صغار... إلخ[12]. ‏

ومهما يكن فإنَّ ‏دراية ابن تيمية ‏بتاريخ الفرق والطوائف في عصره يتعذَّر استيفاء بعضها ها هنا فضلاً عن كلها، ولذا أقتصرُ ها هنا على المثالين السابقين: ‏الرافضة والتتار.

بل أعجب من ذلك ما عليه ابن تيمية من معرفة شاملة لأحوال البلدان آنذاك، ودراية راسخة ‏بتاريخهم الحاضر، ومن ذلك أنه لما تحدَّث عن فضل الشام وأهلها، وأنهم الطائفة المنصورة؛ وإن لحقتهم هزيمة، ‏كما في وقعة قازان سنة 699هـ، ‏قال ما ملخصه: «‏سكان اليمن في هذا الوقت ضعاف عاجزون عن الجهاد ‏أو مضيعون له، ‏وأما سكان الحجاز فأكثرهم أو كثير منهم خارجون عن الشريعة، وفيهم من البدع والضلال والفجور ما لا يعلمه إلا الله، وأهل الإيمان ‏‏والدين فيهم ‏مستضعفون عاجزون، وأما بلاد إفريقية فأعرابها غالبون عليها، ‏وهم من شر الخلق، وأما المغرب الأقصى فمع ‏استيلاء ‏الإفرنج على أكثر بلادهم لا يقومون بجهاد النصارى هناك، ‏بل في عسكرهم من النصارى ‏‏الذين يحملون الصلبان خلق عظيم»[13]. ‏وقد أشار ابن كثير في تاريخه إلى أنَّ الزيدية غُلبوا على مكة، ‏كما ذكر ما عزم عليه صاحب مكة ابن أبي نمي من نشر مذهب الرافضة بمكة ‏وبمعاونة من خربندا التتري[14].

ثالثها: أنَّ الأسئلة الواردة في مجموع الفتاوى تكشف جوانب تاريخية ‏متنوعة، وقد لا تخلو من ظرافة وطرافة، ‏ومن ذلك أنه سئل عن فقيه منزَّل في مدرسة ثم غاب مدة البطالة؛ فهل يحلُّ منعه من الجامكية[15]؟ فأجاب: «الحمد لله، إذا لم يغبْ إلا شهر البطالة فإنه يستحق ما يستحقه الشاهد؛ ‏لا فرق في أشهر البطالة بين أن يكون البطال شاهداً أو غائباً. والله أعلم»[16]. ‏فتأمل أنَّ الإجازة أو العطلة مدة شهر فقط ‏وتسمى بطالة، وأن ذلك الفقيه المدرس يستحق هذا المال في شهر البطالة.

ومنها: ‏أنه سُئل عن رجل جامع امرأته وهو يسمع المتسحِّر ‏يتكلم فلا يدري أهو يتسحَّر أم يؤذن، وظنَّ أنَّه يتسحَّر فوطئها ثم أضاء الصبح؟ فأجاب: «... لا قضاء ولا كفارة عليه، وهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو ‏أظهر الأقوال»[17]. ‏والحاصـل أنَّ المتسحِّر أو ما يسمى بـ (المسحراتي) كان ‏موجوداً حاضراً في تلك البلدان آنذاك.

‏ولما سُئل عن يتيمة حضر من يرغب تزويجها ولها أملاك؛ فهل يجوز للولي أن يبيع من عقارها شيئاً ‏ويصرف ثمنه في جهاز وقماش لها، وحلي يصلح لمثلها أم لا؟ فأجاب: «‏نعم للولي أن يبيع من عقارها ما يجهزها به، ‏ويجهزها الجهاز المعروف والحلي المعروف»[18]. ‏فهل يظهر أن تجهيز العروس في الشام أو مصر آنذاك على ‏وليها أو من مالها؟

وآكد من ذلك أنَّ الأسئلة تكشف الأحوال الدينية ‏إذ ذاك في تلك الأمصار، وحسبك مثلاً أن تطالع ‏السؤالات الموجَّهة لابن تيمية في القَدَر (كما في المجلد الثامن من مجموع الفتاوى)؛ ‏فإنك ‏تلحظ من خلالها استفحال مذهب الجبرية الحلولية وكثرة من تلبَّس به ‏من زنديق منافق أو متعبِّد ‏جاهل، ويشهد لذلك قوله رحمه الله: «وأما من كان زنديقاً ‏كالحلولية والمباحية، ومن يفضِّل ‏متبوعه على ‏النبي صلى الله عليه وسلم ... أو أنَّه إذا حصلت له المعرفة والتحقيق سقط عنه الأمر والنهي... أو أن العارفَ المحقِّقَ ‏‏يجوز له التديُّن ‏بدين اليهود والنصارى ولا يجب عليه الاعتصام بالكتاب والسنة وأمثال هؤلاء؛ فإنَّ هؤلاء منافقون زنادقة... ‏وهم كثيرون في هذه الأزمنة»[19].

رابعها: ‏ومهما يكن فإنَّ أجوبة ابن تيمية أظهر من تلك ‏‏الأسئلة في وصف تاريخ عصره سواء كان الديني أو العلمي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو غيرها، ‏واعتبر مثلاً بـ (السياسة الشرعية) ‏التي كتبها في ليلة لَـمَّا سأله الإمام آنذاك ‏أن يعلِّق شيئاً من ‏أحكام الرعايا وما ينبغي للمتولي[20]، فهي ‏حافلة بإشارات بليغة تحكي تاريخاً حاضراً، وواقعاً مستوعباً ‏لجوانب تاريخية متعددة سياسية وعلمية وقضائية واجتماعية ‏ومالية وغيرها، ‏وهاك مثالاً على نازلة اجتماعية عصفت بمجتمعات المسلمين، وهي بدعة (الحلف بالطلاق)، فطالما تحدَّث ابن تيمية ‏عن هذه البدعة وتاريخها وتداعياتها، وبيَّن حكم الله فيها بدليل وتأصيل، وبرهان وتقعيد، مع أنَّ ‏الفقهاء والسلاطين منعوه من الإفتاء بذلك سنة ٧١٨هـ، ‏ثم أكَّدوا المنع سنة ٧١٩هـ، ‏ثم سجنوه لأجلها سنة ٧٢٠هـ[21]، ‏لقد سمَّاها ابن تيمية بدعة اليمين بالطلاق، وبيَّن أنَّ الناس ابتدعوها زمن التابعين فمَن بعدَهم[22]، ‏وصار وقوع الطلاق بها من الأغلال والآصار. وكما اشتهر أبو العباس بسعة الآفاق ورحابة الأفهام فقد أثبت شرعاً وواقعاً أنَّ ‏الآصار والأغلال تستلزم الحيل والخداع. ومن ذلك أنَّ بدعة اليمين بالطلاق ولَّدت خمس حيل، ساقها ابن تيمية بتفصيل ‏وتحقيق وتوثيق وتاريخ[23]، ‏وقرَّر ‏أنَّ في هذه البدعة من الضرر في الدين والدنيا ما يزيد على كثيرٍ من ‏أغلال اليهود[24]، ‏ووصف مكابدة المرأة ونكدها من تلك البدعة الواقعة فقال: «فيكون ألم الفراق أشدَّ ‏عليها من الموت أحياناً، وأشدَّ من ذهاب المال، وأشد من فراق الأوطان خصوصاً إن كان بأحدهما علاقة[25] من صاحبه، ‏أو كان بينهما أطفال يضيعون بالفراق ويفسد حالهم، ثم يفضي ذلك إلى القطيعة بين أقاربها ‏ووقوع الشر لَـمَّا زالت نعمة المصاهرة التي امتن الله بها...»[26]، ‏وقال في موطن آخر: «‏فإنَّ الرجل إذا حلف بالطلاق ليقتلن النفس أو ليقطعن رحمه... ‏فإنَّه يجعل الطلاق عرضة ليمينه أن يبرَّ ويتقي ويصلح بين الناس أكثر مما يجعل الله ‏عرضة ليمينه، ‏ثم إن وفَّى بيمينه كان عليه من ضرر الدنيا والدين ما قد أجمع المسلمون على تحريم الدخول فيه، وإن طلَّق امرأته ففي الطلاق أيضاً ‏من ضرر الدين ‏والدنيا ما لا خفاء فيه: أما الدين فإنه مكروه باتفاق الأمة مع استقامة حال الزوجين؛ فكيف إذا كانا في غاية الاتصال ‏وبينهما من الأولاد والعشرة ما يكون في طلاقهما من ضرر الدين أمر عظيم، وكذلك ضرر الدنيا كما يشهد به الواقع...»[27].

‏وأيضاً ففي شأن التاريخ المعاصر بجانبه الاجتماعي احتفى ابن تيمية بنازلة اجتماعية وظاهرة أسريَّة ‏أوقعت فُرقة في البيوت، وهي دعوى المرأة أن زوجها لم ينفق عليها في الماضي،  ‏فكان مما قاله: «‏إن قبول قول النساء في عدم النفقة في الماضي فيه من الضرر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد، وهو يؤول إلى أن المرأة تقيم مع الزوج ‏خمسين سنة، ثم تدَّعي نفقة خمسين سنة وكسوتها، ‏وتدَّعي أن زوجها مع يساره وفقرها لم يطعمها في هذه المدة شيئاً، وهذا ‏مما ‏يتبين للناس كذبها فيه قطعاً، ‏وشريعة الإسلام منزهة عن أن يحكم فيها بالكذب والبهتان والظلم والعدوان»[28].

‏ولَـمَّا غلَّظ ابن تيمية وحذَّر من نكاح الزانيـة وأن ذلك حرام حتى تتوب، قال في ثنايا ذلك: «‏قد عُرف بالعادات والتجارب أنَّ المرأة ‏إذا كانت لها إرادة في غير الزوج احتالت إلى ذلك بطرق كثيرة وتخفى على الزوج، وربما أفسدت عقل الزوج بما تطعمه، وربما سحرته أيضاً، ‏وهذا كثير موجود... وقد يكون قصدها مع ذلك أن لا يذهب هو إلى غيرها، فهي تقصد منعه من الحلال، أو من الحرام والحلال، ‏وقد تقصد أن يمكِّنها أن تفعل ما شاءت ‏فلا يبقى محصناً لها قوَّاماً عليها، بل تبقى هي الحاكمة عليه. فإذا كان هذا موجوداً فيمن تزوجت ‏ولم تكن بغياً؛ فكيف بمن كانت بغياً؟ والحكايات في هذا الباب كثيرة»[29]. ‏وليس المقصود ها هنا معرفة ابن تيمية بالعوائد الاجتماعية في عصره فحسب، بل درايته أيضاً بعواقب تلك العوائد وأبعادها، والقيام بدفعها ورفعها وعلاجها.

ومن درايته بالواقع الاجتماعي القائم في عهده قوله: «‏ثبت عندي بالنقل المتواتر أنَّ في النساء والرجال بالبوادي وغير البوادي من يبلغ ولا يعلم أنَّ الصلاة عليه واجبة... بل إذا قيل للمرأة: صلِّي، تقول: حتى أكبر وأصير عجوزة...»[30].

‏ومن التاريخ الاجتماعي الذي عاصره ابن تيمية التعصب العشائري والحميَّة الجاهلية وما يتبعه من سفك الدماء وظهور الفتن، ‏وقد عاين ابن تيمية هذه البلية وحذَّر منها وغلَّظ ‏من شأنها. وطرفٌ من تلك الأسئلة في ذلك التعصب القبلي يكشف فداحة هذا الحال، فقد سئل رحمه الله: «‏عن طائفة تسمى العشيرة قيس ويمن؛ ‏يكثر القتل بينهم ولا يبالون به، وإذا طلب منهم القاتلَ أحضروا شخصاً غير القاتل يتفقون معه أن يعترف بالقتل عند ولي الأمر، ‏فإذا اعترف جهزوا إلى المتولي من يدَّعي أنه من قرابة المقتول، ويقول: أنا قد أبريتُ هذا القاتل مما استحقه عليه، ويجعلون ‏ذلك ذريعة إلى سفك الدماء وإقامة الفتن»... إلخ[31]، ‏لقد سطر ابن تيمية أكثر من فتوى وجواب في ‏مدافعة هذه البلية الجاهلية[32]، ‏بل إنَّه ألَّف مصنَّفاً مفرَداً في ذلك، ‏كما أشار إليه ابن كثير في حوادث سنة ٧٣٥هـ[33]. ‏وكما اشتهر به أبو العباس من (الإيجابية) ‏والمدافعة بالفعال لا بالمقال فحسب، ‏فقد ساق حلولاً عملية في علاج هذه الظاهرة: ‏منها أن تجمع زكوات لإصلاح ذات البيْن، ‏وأن تعفوَ إحدى الطائفتين أو كلاهما عن بعض مالها عند الأخرى من الدماء والأموال، ومنها ‏أن يحكم بينها بالعدل[34].

خامسها: ‏ومن براعة ابن تيمية وإحكامه ‏شأن التاريخ: ‏معرفته الناقدة ودرايته الفاحصة بجوانب محـددة ومفصلة أشبه بالتخصص ‏الدقيق، كما في هذه الأمثلة الثلاثة التالية:

 دراية ابن تيمية بالمشاهد والمزارات المبتدعة والقبور المشتهرة وأماكنها، سواء كانت ‏مكذوبة أو مشكوكاً فيها، والمواطن المعظَّمة والمقصودة عند الناس، وتمييزه بين مشروعها وممنوعها، وكما هو منهج ابن تيمية في التأصيل ‏والتقعيد في هذا الشأن وغيره، حيث قال: «‏وأصل ذلك ‏أنَّ عامة أمر هذه القبور والمشاهد مضطرب مختلَق؛ لا يكاد يوقف منه ‏على العلم إلا في قليل منها بعد بحث شديد، وهذا لأنَّ معرفتها وبناء المساجد عليها ليس من شريعة الإسلام...»[35]. ‏وربما ساق قواعد وضوابط في تفضيل الأماكن، وأنَّ من أوصافها ما يكون عارضاً وليس دائماً كالثغور ونحوها، ومنها ما يكون لازماً ‏دائماً ‏كالمساجد الثلاثة[36]، ‏واعْتبر بالمجلد السابع والعشرين من الفتاوى (الزيارة) ‏وما فيه من الشواهد ‏الباهرة والدلائل الظاهرة على رسوخ ابن تيمية في معرفة تلك المواطن وملابساتها وتاريخها، ومن ذلك كلامه عن جبل لبنان، وأنه ليس له ‏فضيلة شرعية، وإنما كان حيناً من الدهر من ثغور أهل الإسلام والرباط في سبيل الله، ثم آل إلى الروافض والنصارى، ثم إنَّ متصوفة ‏ومتعبدة يتحرَّون الخلوة فيه ‏والتعبُّد هناك، ‏وقرَّر ابن تيمية أنَّ سكنى الجبال ليس مشروعاً إلا عند الفتن... إلى آخر ما ذكره وحرَّره في هذا الشأن[37]، ‏وتأمَّل رسالته الماتعة في الجواب عن المشهد المنسوب إلى الحسين رضي الله عنه بالقاهرة، وكيف أثبت ‏بالدلائل التاريخية وشهادات العلماء ‏والإخباريين والمؤرخين بطلان المشهد الحسيني سواء كان بعسقلان أم بالقاهرة[38].

 معرفة ابن تيمية بمعلومات تاريخية جليلة بشأن تاريخ المذاهب الفقهية وأحوالها، كما في قوله: «الثوري إمام أهل العراق وله مذهب باقٍ إلى اليوم في خراسان، والأوزاعي إمام الشام وما زالوا على مذهبه إلى المائة الرابعة، بل أهل المغرب على مذهبه قبل أن يدخل عليهم ‏مذهب مالك»[39].

وحكى أنَّ أبا جعفر المنصور ‏طلب من علماء الحجاز أن يذهبوا إلى العراق بعد أن بنى بغداد، ‏وقدِم ربيعة وابن الماجشون وتعلَّم ‏منهم أبو يوسف، ‏وأنَّ الخلفاء أبا جعفر المنصور والمهدي والرشيد رجَّحوا علماء الحجاز على علماء العراق[40]. ‏

ولما تحدَّث ‏عن السياسات المخالفـة للشرع التي أحدثها أهل الرأي، ‏بيَّن أنَّ منشأ الغلط ‏في الكوفيين هو التقصير في معرفة سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم  والخلفاء الراشدين، فلما صارت الدولة العباسية احتاجوا إلى ‏سياسة الناس، وتقلَّد ‏القضاء فقهاء العراق ‏فاحتاجوا إلى وضع ولاية مظالم وولاية حرب وولاية شرع. ‏ثم حكى تفاقم الأمر ‏حتى صار يقال: «الشرع والسياسة»[41]، ‏بل سمَّى ‏هذه السياسات المخالفة للشرع بـ «البدع ‏السياسية» ‏وأنها ناشئة عن جهل بالشرع[42].

‏ومن نكته التاريخية البديعة المتعلقة بمذهب ‏الإمام أحمد وأصحابه، قوله: «‏وأبو بكر الخلال قد طاف البلاد، ‏وجمع من نصوص الإمام أحمد في مسائل الفقه نحو أربعين مجلداً، ‏وفاتَه أمورٌ كثيرة ليست في كتبه... وحنبل وأحمد بن الفرج كانا يسألان أحمد عن مسائل مالك وأهل المدينة، ‏كما كان يسأله إسحاق بن منصور وغيره عن مسائل سفيان الثوري، وكما كان يسأله الميموني عن مسائل الأوزاعي، وكما كان يسأله ‏إسماعيل بن سعيد الشالنجي ‏عن مسائل أبي حنيفة وأصحابه، فإنه كان قد تفقَّه على مذهب أبي حنيفة واجتهد في مسائل كثيرة رجَّح فيها مذهب أهل الحديث»[43].

 ‏وفي شأن سياسات الآصار والأغلال تحدَّث ‏عن أيمان البيعة وتاريخها فقال: «وأما أيْمان ‏البيعة، فقالوا: ‏أول من أحدثها الحجاج بن يوسف الثقفي، وكانت السنة أنَّ الناس يبايعون الخلفاء كما بايع الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم ، يعقدون ‏البيعة كما يعقدون عقد البيع والنكاح ونحوها، وإما أن يذكروا الشروط التي يبايعون عليها، ثم يقولون: بايعناك على ‏ذلك، كما بايعت الأنصار النبي صلى الله عليه وسلم  ليلة العقبة. فلما أحدث الحجاج ما أحدث من العسف كان من جملته: أنَّ حلَّف ‏الناس على بيعتهم لعبد الملك بن مروان بالطلاق والعتاق واليمين بالله وصدقة المال. فهذه الأيْمان الأربعة هي كانت أيْمان ‏البيعة القديمة المبتدعة، ثم أحدث المستخلفون ‏عن الأمراء من الخلفاء والملوك وغيرهم أيماناً كثيرة أكثر من تلك، وقد تختلف ‏فيها عاداتهم، ومن أحدث ذلك فعليه إثم ما ترتب على هذه الأيمان من الشر»[44].


 


[1] مجموع الفتاوى (28/ ٤٨٩ - ٤٩١) باختصار.

[2] مجموع الفتاوى (20/ 301).

[3] مجموع الفتاوى (27/ 54 - 55). وينظر: مجموع الفتاوى (28/ 636 - 637)، (35/ 137 - 138 - 150).

[4] مجموع الفتاوى (28/ 405 - 406).

[5] منهاج السنة النبوية (5/ 158)، (6/ 374 - 375)، (7/ 414).

[6] منهاج السنة النبوية (6/ 391).

[7] منهاج السنة النبوية (6/ 418).

[8] مجموع الفتاوى (28/ 524). وينظر: مجموع الفتاوى (28/ 519 - 530).

[9] مجموع الفتاوى (28/ 413 - 415).

[10] مجموع الفتاوى (28/ 589). وينظر: مجموع الفتاوى (30/ 413 - 414).

[11] مجموع الفتاوى (29/ 275 - 276).

[12] مجموع الفتاوى (30/ 48).

[13] مجموع الفتاوى (28/ 533) باختصار.

[14] البداية والنهاية حوادث سنة 122هـ (13/ 106)، وحوداث سنة 716هـ (18/ 153 - 154).

[15] الجامكيَّة الأجر أو الراتب، أو ما يرتب في الأوقاف لأصحاب الوظائف. حاشية ابن عابدين (4/ 434).

[16] مجموع الفتاوى (31/ 203).

[17] مجموع الفتاوى (25/ 259).

[18] مجموع الفتاوى (31/ 324).

[19] مجموع الفتاوى (28/ 571).

[20] مجموع الفتاوى (28/ 244 - 397).

[21] البداية والنهاية لابن كثير، حوادث سنة 718هـ، 719هـ، 720هـ.

[22] مجموع الفتاوى (35/ 264).

[23] مجموع الفتاوى (35/ 290 - 295).

[24] مجموع الفتاوى (35/ 290).

[25] العلاقة هي أولى ‏مراتب الحب و أدناه، كما قرره ابن تيمية في موطن آخر. الإيمان الأوسط ص463، والعبودية ضمن مجموع الفتاوى (10/ 153)، ‏وكذا جعلها ابن القيم جعلها أول مراتب الحب، وقال: «سميت علاقة لتعلق القلب بالمحبوب» مدارج السالكين (3/ 27).

[26] مجموع الفتاوى (35/ 299).

[27] مجموع الفتاوى (35/ 268 - 269) باختصار.

[28] مجموع الفتاوى (34/ 81). وينظر: إغاثة اللهفان لابن القيم (2/ 743 - 748)، الطرق الحكمية (1/ 56).

[29] مجموع الفتاوى (32/ 124).

[30] مجموع الفتاوى (22/ 102).

[31] مجموع الفتاوى (34/ 146 - 147).

[32] مجموع الفتاوى (28/ 15 - 21 - 312)، (30/ 322 - 328)، ( 34/ 146 - 148)، (35/ 79 - 89).

[33] البداية والنهاية (18/ 381).

[34] مجموع الفتاوى (35/ 84 - 89).

[35] مجموع الفتاوى (27/ 447).

[36] مجموع الفتاوى (27/ 53 - 54).

[37] مجموع الفتاوى (27/ 50- 63 - 498).

[38] مجموع الفتاوى (27/ 450 - 489).

[39] مجموع الفتاوى (20/ 583).

[40] مجموع الفتاوى (20/ 307 - 319).

[41] مجموع الفتاوى (20/ 392).

[42] مجموع الفتاوى (35/ 400).

[43] مجموع الفتاوى (34/ 111 - 114).

[44] مجموع الفتاوى (35/ 243 - 244). وينظر: مجموع الفتاوى (33/ 36)، (35/ 263 - 290). وقد دوَّن ابن كثير وقائع تاريخية متعددة لخلفاء وأمراء ونحوهم قارفوا تلك الأيمان المحدَثة، حوادث سنة 66هـ، وسنة 160هـ، وسنة 173هـ، (12/ 6)، (13/ 481 - 572).

 

 


أعلى