الشريعة الإسلامية وقد جاءت بكل ما فيه صلاح البشر فقد جاءت بما لا تكفيه دلالات الألفاظ الأصلية بل تضمنت أوامرها وتوجيهاتها ما يتجاوز نطاق الحد الذي تعارفه العرب وَفْقَ عالمهم المحدود
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالشريعة الإسلامية وإن نزلت بلسان العرب وما اعتادته في مخاطباتها فإنها قد نقلت
دلالة بعض مفردات اللغة عن أصلها بتوسعة دلالتها أو تقييد معناها أو تطوير مفهومها،
ليكون المعنى شاملاً لما يقتضيه أصل التركيبة اللغوية مع إضفاء مزيد من المرادات،
وهذا كله مما فهمه الصحابة رضي الله عنهم من كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله
عليه وسلم ؛ لإدراكهم ما تصرفت به الشريعة في معاني المفردات العربية.
ومن هنا نتبين عمق علماء الشريعة فإنهم لَـمَّا قرروا قواعد علم أصول الفقه كان
ظاهراً فيه بيان أن اللفظ تكون له الحقيقة الشرعية والحقيقة اللغوية، وأنه قد
يُستعمَل اللفظ في أصل معناه، وقد يستعمل بمعناه الشرعي، فالصلاة في اللغة: الدعاء،
وقد تُستعمَل بهذا المعنى، كما قال تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلاتَكَ
سَكَنٌ لَّهُمْ} [التوبة: ٣٠١]. أي: ادع لهم، وقد تستعمل في حقيقتها الشرعية، التي
هي العبادة المخصوصة المعروفة ذات الركوع والسجود، كما في قوله تعالى: {أَقِمِ
الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78].
والشريعة الإسلامية وقد جاءت بكل ما فيه صلاح البشر فقد جاءت بما لا تكفيه دلالات
الألفاظ الأصلية بل تضمنت أوامرها وتوجيهاتها ما يتجاوز نطاق الحد الذي تعارفه
العرب وَفْقَ عالمهم المحدود.
ومن هنا نتبين أنه قد تتغيَّر دلالات الألفاظ عن أصلِ استعمالها في اللغة لتدلَّ
على الاسمِ الشرعي؛ ولذا عُرفَت الحقيقة الشرعية بأنها: اللفظ الذي وُضِع لمسمى في
اللغة، ثم استُعمِل في الشرع لمسمَّى آخرَ، مع هِجران الاسم للمسمى اللغوي بمضيِّ
الزمان وكثرةِ الاستعمال في المسمى الشرعي[1]؛
فلفظ (الصلاة) بعد أن كان موضوعاً في اللغةِ ليدلَّ على الدعاء، أصبح له دلالةٌ
شرعية على شَعِيرة معيَّنة من شعائر الإسلام وإن كان الدعاء هو لبَّها ومقصدها.
والمقصود أن الحقيقة الشرعية هي الأسماء الشرعية التي تصرَّف الشارع بها، فالشارع
استعمَل الألفاظَ في مسمياتها اللغوية، ودلت الأدلةُ على أن تلك المسمياتِ اللغوية
لا بد معها من قيود زائدة حتى تصيرَ شرعية[2]،
وقد استعملها الشارع في هذه المعاني؛ لِـمَا بينها وبين المعاني اللغوية من
العلاقة.
وإن المتأمل لكلمة الصدقة مع كون المتبادر منها أنها بذل المال للمحتاج، سيجد أن
الشرع قد استعملها بمعنى يتجاوز ذلك.
ومن هذه الاستعمالات:
أنه جعل استعمال بديل مباح لفعل محرم: صدقةً؛ فعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال:
«وفي
بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال:
أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له
أجر»[3].
وفي رواية:
«قال:
قلت: يا رسول الله! نأتي شهوتنا ونؤجر؟ قال: أرأيت لو جعلته في حرام أكان تأثم؟
قال: قلت: نعم، قال: فتحتسبون بالشر ولا تحتسبون بالخير»[4].
وفي رواية قال أبو ذر:
«كيف
يكون لي أجر في شهوتي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرأيت لو كان لك ولد
فأدرك، ورجوت خيره، فمات، أكنت تحتسب به؟ قلت: نعم، قال: فأنت خلقته؟ قال: بل الله
خلقه، قال: فأنت هديته؟ قال: بل الله هداه، قال: فأنت ترزقه؟ قال: بل الله كان
يرزقه، قال: كذلك فضعه في حلاله، وجنبه حرامه، فإن شاء الله أحياه، وإن شاء أماته،
ولك أجر»[5].
فالجماع صدقة باعتبار أنه اختار سبيلاً مباحاً لشهوته ولم يسلك سبيلاً محرماً،
وسيأتي في ختام المقال نصٌّ دالٌّ على أن السعي في تحصيل المعاش كذلك.
وفعل ما قد يدخل السرور على الآخرين: صدقة؛ عن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم :
«تبسمك
في وجه أخيك لك صدقة»[6].
وكفُّ الأذى: صدقة؛ عن أبي ذر رضي الله عنه، قال:
«قلت:
يا رسول الله! أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال: تكف شرك عن الناس، فإنها صدقة منك
على نفسك»[7].
ومساعدة الآخرين: صدقة؛ عن أبي ذر رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
في حديثٍ تقدم بعضه:
«وتأمر
بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتعزل الشوكة عن طريق الناس، والعظم، والحجر، وتهدي
الأعمى، وتُسمع الأصم والأبكم حتى يفقه، وتدل المستدل على حاجة له قد علمت مكانها،
وتسعى بشدة ساقيك إلى اللهفان المستغيث، وترفع بشدة ذراعيك مع الضعيف، كل ذلك من
أبواب الصدقة منك على نفسك».
والحديث المتقدم يجعل السعي في الإصلاح العام أو الفعل الذي يخدم المجتمع صدقة.
والعفو عن الناس: صدقة؛ عن علبة بن الحارث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر
بالصدقة فقام فقال: يا رسول الله ما عندي ما أتصدق به ولكني أتصدق بعرضي على من
آذاني، فقال:
«إن
الله قد قبل صدقتك»[8].
والصدقة تكون على الغير وتكون على النفس، وتقدم الحديث:
«كل
ذلك من أبواب الصدقة منك على نفسك».
وهذه المعاني تتجاوز مفهوم بذل المال للمحتاج الذي تحمله دلالة الصدقة، ومن هنا
نحاول أن نستشعر مفهوم الصدقة ومعناه الشرعي، وذلك باستعراض ما نقله علماء اللغة في
معنى الصدقة، وتأمل استعمال الشرع لها، وبالمزاوجة بين هذا وذاك يتبين مفهوم الصدقة
في التشريع الإسلامي.
الصدقة لغة:
قال ابن فارس:
«الصَّادُ
وَالدَّالُ وَالْقَافُ: أَصْلٌ يَدُلُّ عَلَى قُوَّةٍ فِي الشَّيْءِ قَوْلاً
وَغَيْرَهُ.
من ذلك: الصدق: خلاف الكذب، سمي لقوَّته في نفسه، ولأن الكذب لا قوة له، هو باطل.
وأصل هذا من قولهم شيء صدق، أي صلب. ورمح صدق. ويقال: صدقوهم القتال، وفي خلاف ذلك
كذبوهم. والصديق: الملازم للصدق. والصداق: صداق المرأة، سمي بذلك لقوَّته وأنه حق
يلزم.
ومن الباب: الصدقة: ما يتصدق به المرء عن نفسه وماله»[9].
وقال في حلية الفقهاء:
«وقولُه:
(الصَّدَقَة) فإنَّما سُمِّيَتْ صَدَقَةً لأنها عطاءٌ على غَيْرِ ثَوابٍ عاجلٍ،
دالَّةٌ على صِدْقِ مُعْطِيها في الطَّاعةِ»[10].
قال ابن منظور:
«والصدقة:
ما تصدقتَ به على الفقراء. والصدقة: ما أعطيتَه في ذات الله للفقراء»[11].
وفي الفروق اللغوية للعسكري:
«فِي
الصَّدَقَة معنى تضمن فقر صَاحبهَا لتصديق حَاله فِي مَا ينبي حَاله من فقره»[12].
وفي المحكم والمحيط الأعظم:
«وَالصَّدَََقَة:
مَا أَعْطيته فِي ذَات الله.
وَقد تصدق عَلَيْهِ. وَفِي التَّنْزِيل: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} [يوسف: ٨٨]
وَقيل: معنى: تصدق هَا هُنَا: تفضل بِمَا بَين الْجيد والرديء. كَأَنَّهُمْ
يَقُولُونَ لَهُ: اسمح لنا قبُول هَذِه البضاعة على رداءتها أَو قلَّتهَا»[13].
وقال العوتبي:
«الصَّدَقَة
أصلُها: ما صَدَقَ نِيَّةُ المرءِ لله تعالى في فِعْلِهِ، ثُمَّ كَثُر حتى جعلوه
فيما يُخْرَجُ من الأموالِ لله»[14].
وفي تاج العروس:
«الصدقة:
ما يخرجه الإنسان من ماله على وجه القربة»[15].
ومن خلال النقول السابقة تظهر لنا صفات الصدقة في اللغة، فهي ابتداءً: بذلٌ من
المتصدق.
وهي في جانب القصد: تتضمن الصدق وحُسْن القصد، بعدم إرادة الثواب المعجل، كما تتضمن
معنى إرادة وجه الله وثوابه.
وهي في جانب النفس: تتضمن معنى السماحة وطيب النفس.
وهي في جانب المبذول تتضمن حصول الحاجة له وتحقق النفع به ولو قلَّ.
ويمكن أن نقول: إن المعنى اللغوي للصدقة تضمَّن هذه المحددات من كونها: بَذْل صادق،
لا يراد منه الثواب العاجل، لشيء يحصل منه النفع للغير، عن سماحة نفس وطيب خاطر.
وبتنزيل هذه الأوصاف على الصدقة الشرعية نجدها معتبرة؛ فإن النية والإرادة محل
اعتبار الشرع في كل عمل، فالأعمال بالنيات، وقد قال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ
الْـحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا
وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ 15أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ
إلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
[هود: 15 - 16].
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«إن
أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل وسَّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله
فأتى به فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن
ينفَق فيها إلا أنفقتُ فيها لك، قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد، فقد قيل، ثم
أمر به فسُحب على وجهه ثم ألقي في النار»[16].
وأما عموم أبواب الصدقات فإنها ظاهرة من النصوص المتقدمة؛ فكل ما يتضمن نفعاً عاماً
أو خاصاً مهما كان يسيراً كتَبَسُّم في وجه الغير وإعانته على حمل شيء أو مساعدته
في الركوب أو عفوه عن الغير ومسامحته لهم.
ورأى بعض الصحابة رجلاً قوياً يعمل، فقالوا: لو كان هذا في سبيل الله، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم :
«إن
كان يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على ولده فهو في
سبيل الله، وإن كان يسعى على نفسه فهو في سبيل الله»[17].
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«أفضل
الصدقة أن يتعلم المرء المسلم علماً، ثم يعلِّمه أخاه المسلم»[18].
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«إن
أفضل الصدقة إصلاح ذات البين»[19].
ولكن الصدقة الشرعية تضمنت معنى زائداً وهو كون الصدقة تقع عن النفس أيضاً، باختيار
سلوك المباح في تحقيق غرض دنيوي، أو السعي في تحصيل معاشه، أو بالكف عن المعصية، أو
بعبادة قاصرة على النفس كذكر الله تعالى، وقد وقع في الحديث التصريح بكونها صدقة
منك على نفسك.
قال أبو ذر:
«على
كل نفس في كل يوم طلعت فيه الشمس صدقة منه على نفسه، قلت: يا رسول الله! من أين
أتصدق، وليس لنا أموال؟ قال: لأن من أبواب الصدقة: التكبير، وسبحان الله، والحمد
لله، ولا إله إلا الله، وأستغفر الله»[20].
ومن هنا يظهر العموم في معنى الصدقة الذي يجعلها شاملة لأبواب من الخير، لا يحصرها
معنى بذل المال للمحتاج.
ولِعِظَم أجر الصدقة ولزوم تحقق أوصافها لتقع موقع القبول فإن ذلك يستدعي التخلص من
مكائد الشيطان وتصفية العمل مما يمنع قبوله أو يخل بأحد أوصافه، ولذا جاء عن ابن
بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«ما
يخرج رجل شيئاً من الصدقة، حتى يفك عنها لحيي سبعين شيطاناً»[21].
قال المناوي:
«لأن
الصدقة على وجهها إنما يقصد بها ابتغاء مرضاة الله، والشياطين بصدد منع الإنسان من
نيل هذه الدرجة العظمى فلا يزالون يأبَون في صده عن ذلك فإذا بذله في سبيل الله
فإنما يكون برغمهم جميعاً؛ ولهذا كان ذلك أقوى دليلاً على استقامته وصدق نيته ونصوح
طويته»[22].
وقال أيضاً في شرحه لحديث
«إِذا
تَصَدَّقْتَ فأَمْضِها»[23]:
(فوراً؛ لئلا يحول بينك وبينها الشيطان؛ فإنها لا تخرج حتى تفك لحي سبعين شيطاناً
كما في خبر، بل ربما حال بينك وبينها بعض شياطين الإنس أيضاً، وعلى كل خير مانع،
وقد تأتي المنية قبل إنجازها»[24].
اللهم إنا نسألك أن تستعملنا في طاعتك، وتجيرنا من صوارف الخير، ومثبطات عزائم
البر، وملهيات الفضائل، والانشغال بالأدنى عن درك الكمالات.
[1] إحكام الأحكام الآمدي: (1/37)، ميزان الأصول: (1/538).
[2] التقريب والإرشاد، للباقلاني: (1/395)، المستصفى: (1/330).
[3] صحيح مسلم: 3/82 (2292).
[4] مسند الإمام أحمد: 5/154 (21691).
[5] مسند الإمام أحمد: 5/168 (21816).
[6] سنن الترمذي: 1956.
[7] صحيح البخاري: 3/188 (2518).
[8] شعب الإيمان، للبيهقي: (7601).
[9] مقاييس اللغة، لابن فارس: (3/ 339).
[10] حلية الفقهاء ، لابن فارس: (ص 96).
[11] لسان العرب: (10/ 196).
[12] الفروق اللغوية، لأبي هلال العسكري: (ص 168).
[13] المحكم والمحيط الأعظم، لابن سيده: (6/ 191).
[14] الإبانة في اللغة العربية: (3/ 391).
[15] تاج العروس، للزبيدي: (26/ 12).
[16] صحيح مسلم: 6/47 .
[17] سنن البيهقي الكبرى: (7/479)، وشعب الإيمان: (6/2912)، الطبراني في الكبير:
(9/282)، والأوسط: (6831)، وكلهم عن ابن عمر، رضي الله عنهما. وأخرجه سعيد بن
منصور: (2/2618) عن أبي المخارق. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/325): رجاله رجال
الصحيح.
[18] أخرجه ابن ماجة (243) وسنده ضعيف، ينظر: ضعيف الترغيب والترهيب: (57).
[19] أخرجه عبد بن حميد (335) السلسلة الصحيحة: (6/290).
[20] أخرجه أحمد: 5/168 (21816) . والنسائي في الكبرى: (8978).
[21] أخرجه أحمد: 5/350 (23350). وابن خزيمة (2457)، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي،
السلسلة الصحيحة: (3/1268).
[22] فيض القدير: (5/ 504).
[23] أخرجه البخاري في التاريخ الكبير بسند ضعيف، ينظر: ضعيف الجامع حديث رقم: 432
[24] فيض القدير: (1/ 318).