لشهر رمضان في رحاب المسجد الأقصى ومدينة القدس العتيقة عطر خاص، ولأيامه ولياليه حكايات ووقائع حفظها التاريخ والرواة.
ليلة الرؤية:
جرت عادة أهل مدينة القدس أن يرقبوا هلال شهر رمضان بالعين المجردة،
كما جرت العادة أن يجتمع مفتي المدينة وأعيانها وقضاتها ومخاتير القرى وأئمة
المساجد والخطباء والوعاظ في ساحة المسجد الأقصى انتظاراً للتحقق من ثبوت رؤية
الهلال، وجماعات من الرجال والفتيان قد ارتقوا جبلاً أو تلة أو منارة، حتى إذا رأى
أحدهم الهلال، وتوثق الآخرون، انطلق (فارس النظر) يسابق الريح ليزف النبأ العظيم
والبشرى بثبوت الرؤية. وهناك عند هيئة المجتمعين يدلي بشهادته فيصف شكل الهلال
ولونه؛ مثل (فص) البرتقال أو (شقحة) البطيخ ويسجل كلَّ هذا في محضر رسمي ثم يصدر
الإعلان بثبوت الرؤية، فتضاء مآذن وقباب الحرم القدسي الشريف وتنطلق أول طلقة مـن
مدفع (باب الساهرة) أحد أبواب القدس العتيقة، وهو مدفع تركي قديم ارتبطت شهرته بشهر
رمضان، والقائم على خدمته (طوبجي) عجوز يحشوه بالخرق والبارود ويطلقه طبقاً لأوقات
محددة مسجلة لديه. وكأنها حياة جديدة وروح دبت في المدينة؛ يركض الأطفال فرحين
بالنبأ السعيد، ويتبادل الجميع التهنئة
«شهر
مبارك إن شاء الله».
استعداد... وتنافس:
كعادة المسلمين في كافة أرجاء العالم الإسلامي، كان المقدسيون
يحرصون علـى الاستعداد لاستقبال الشهر الكريم من ليلة النصف من شهر شعبان؛ فتزدحم
أسواق المدينة بالبضائع والناس، كلٌّ يسعى لتجهيز بيته بما يحتاجه من الأرز والسكر
والدقيق والبهارات، والمكسرات ومنقوع قمر الدين والتمر هندي والعرقسوس والحلاوة
والشاي والبن... وكانت تصرف رواتب إضافية وكميات من السكر والياميش لأرباب الوظائف
وطلبة العلم والمجاورين والأيتام والقراء بالتكايا والزوايا. كما كانت عائلات القدس
الشهيرة تتنافس في تجديد فرش المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة، وسائر مساجد المدينة
وتزويدها بالسجاد والحصر والقناديل الجديدة فتتألق مناراتها وقبابها نوراً.
وتنتظم في شوارع المدينة الأفران المؤقتة لصنع القطايف، وترتفع
الدكك لبيع شراب الخروب، وتتبارى محال الحلوى في الإعداد لصنع الحلويات الشامية
الشهيرة: كـل واشكر، البرازق، المعمول، الكنافة، كرابيج حلب، حلي سنونك، المطبق،
المدلوق، البرما، أصابع زينب، المشبك، الفستقية، الجوزية وغيرها...
في رحاب الأقصى:
ما من رحالة أو زائر للحرم القدسي الشريف في شهر رمضان، إلا كان ملء
قلبة مشهد من الروعة والجلال: الساحة الفسيحة للحرم والأسوار والمشاهد الأثرية التي
تحيط بقبة الصخرة، وروعة التكبيرات تنساب من داخل الأقصى وكأنما هي آتية من عالم
الغيب، والقناديل الخافقة في أرجائة كأنما ترعد من جلال التكبير،
«والظلال
تفصل الضوء فتكتب سطراً من الجمال رائعاً أو تخط آية من آيات السجدة في هذا الحرم
العظيم يقرؤها كلُّ ذي قلب فتسجد جبهته أو يسجد قلبه».
ويحرص المقدسيون على الصلاة في المسجد الأقصى وساحته خلال أيام
رمضان، وفيه كانت تُعقَد حلقات دينية في تفسير القرآن والفقه وعلم الحديث وسيرة
النبي صلى الله عليه وسلم ، يتولى التدريس فيها نخبة مـن العلماء الأجلاء المشاهير
من فلسطين والدول العربية والإسلامية، ولكلٍّ منهم يوم محدد، وكانت هذة الحلقات
الدينية تُعقد بين صلاتَي العصر والمغرب. كما كانت تناقَش فيها أيضاً الأمور
الدنيوية، فالأوضاع السياسية لم تكن مستقرة، وهو ما جعل هذة الحلقات متنفساً لتزويد
المواطنين بشحنات وطنية ضد الانتداب البريطاني وإرهاب العصابات الصهيونية، ومن هذة
الحلقات خرج الشيخ الشهيد (عز الدين القسام) وغيره من أبطال المقاومة الإسلامية
الفلسطينية.
وكانت (المملكة المصرية) حريصة على إرسال أعلام (دولة التلاوة) إلى
المسجد الأقصى في رمضان وعلى رأسهم الشيخ مصطفى إسماعيل والشيخ محمد صديق المنشاوي
والشيخ عبد الباسط عبد الصمد والشيخ أبو العينين شعيشع. وكم ترددت أصواتهم
الملائكية الخالدة بين جنبات الأقصى وأروقته.
كما كانت صلاة التراويح بساحة الأقصى مشهداً إيمانياً رائعاً، يستمر
حتى ساعة متأخرة مـن الليل، وبعض المصلين كان يواصل تعبُّده حتى صلاة الفجر،
وكثيراً ما كان يأتي إلى القدس مسلمون من مختلف بقاع العالم الإسلامي للاعتكاف في
العشر الأواخر من رمضان داخل المسجد الأقصى.
أما يوم الجمعة من أيام رمضان، فكان عيداً عظيماً في هذا الحرم
المبارك والجموع تزحف مستبشرة شطر المسجد الأقصى، يهتدي بسيرها من لا يهتدي طريقه،
تمر بهذه العقود الحانية علـــــى طريق التاريخ (الطريق المدرج) التي تحمل الأبنيةَ
العاليةَ كأنها عقود السنين تنوء بما تحمل من أحداث ومواقف، وما أدراك ما يوم
(الجمعة اليتيمة) في المسجد الأقصى!؟ إنه عيد إسلامي يشارك فيه الجميع (الرجال
والنساء والأطفال)، ويحرص على شهوده ضيوف الرحمن من أرجاء فلسطين والعالم الإسلامي.
في حين فُرشت ساحة الحرم بالسجاد والحصر، ويرضى بها من أشفق من الزحام داخل المسجد،
والجميع قد تبوأ مكانه في هذا المحشر وقد أُحكمت الصفوف، وثَمَّ جماعات من النساء
اصطفت في جانب مـن ساحة الأقصى بين أشجار باسقات وعُمُد جميلة تعلو بئراً من آبار
الحرم، وجماعة أخرى من النساء أيضاً انتظمت عند العقود المشرفة على الدرج المؤدي من
باب القبـة القبلي إلى المسجد الكبير، وعقب انقضاء الصلاة تنتشر الجموع لا يدركها
البصر، سيل يتدفق من أبواب وساحة المسجد وأسارير الوجوه خاشعة فرحة مستبشرة بوعد
الله.
وكانت عائلات القدس الشهيرة تقيم ولائم الإفطار للمفتي والعلماء
وأرباب الوظائف وشيوخ الطرق الصوفية ونقيب الأشراف ولعامة الناس. كذلك كانت تُعقَد
موائد إفطار جماعية؛ إذ يُحضِر كل رجل أطيب ما عنده ليفطر جماعةً مع رجال الحي؛
سواء في بيت أحدهم، أم في إحدى المضافات.
الحكواتي:
كان كثير من رجال القدس وشبابها يفضلون قضاء سهراتهم الرمضانية في
المقاهي أو (المضافات) يستمعون إلى (الحكواتي) الذي كان يتصدر المقهى مرتدياً زياً
مميزاً (السروال الأبيض الواسع وصدرية حمراء ومعطفاً وشماغاً
«غترة»)،
وكان يُخصَّص له مقعدٌ عالٍ يزدان برسومات من الخيال الشعبي، وينشد في جوٍّ من
البهجة والانسجام بعضاً من السير الشعبية مثل تغريبة بني هلال، وسيرة الظاهر بيبرس،
والزير سالم، وعنترة بن شداد، والأميرة ذات الهمة، وحكايات من ألف ليلة وليلة.
ومن أشهر المقاهي في مدينة القدس التي كانت تقدم هذا اللون من
السهرات الشعبية، مقاهي: البساطي، زعترة، ومقهى صيام بمدخل باب العامود. وكان أشهر
الحكواتية الشيخ (صالح خميس).
خواطر رمضانية لقنصل مصر في القدس عام 1935م:
كان (أحمد رمزي بك) قنصلاً عامّاً لمصر في تركيا، كما كان قنصلاً
عامّاً في سوريا ولبنان، ثم صدر القرار الملكي بتعيينه قنصلاً عامّاً لمصر في القدس
وعموم فلسطين. وقد دوَّن ذكرياته عن أول زيارة له للمسجد الأقصى وكانت في شهر رمضان
14 ديسمبر سنة 1935م، كتب أحمد رمزي بك:
«وصلتُ
إلى مدينة القدس في نهاية سنة 1935م لأتولى عملاً جديداً ولألقى وجوهاً جديدة، وكان
أول ما قمت به هو توجهي لزيارة المسجد الأقصى وكان ذلك في شهر رمضان... دخلته وقد
غمرتني نفحة مـن نفحات الله، جعلتني أشعر في قرارة نفسي بحوادث التاريخ الجلي، وكأن
كلَّ ركن من أركان هذا المسجد يشير إليَّ، وكأن كلَّ حجر من أحجار قبته يحادثني،
ثلاث عشرة مئة من السنين، تَرِكةٌ ضخمة من الجهاد والمجد، هل يدرك أهلها ما هي؟...
هل تكون للأمم الإسلامية التي نعيش وسطها ونحيا لها عودة؟ وهل تقوى أذرعتها ونفوسها
الواهية على حمل الأمانة؟ لم تعد تفكر في شيء سوى ملاذِّها وتكالبها على المادة وما
تسوقها إليه غرائزها، حينما فقدت كلَّ عناصر القوة والأنفة وانحطت إلـى درجة الجماد
فلم تعد تهمُّها هذه المساجد والمدارس. كنت أطوف بالمسجد وأنا أتأمل كل ذلك وأقول
متى تتحرك أمم العروبة وتنهض من كبوتها وتستيقظ من نومها العميق؟ إن كل ما أراه
أمامي يدعو إلى الأسى والألم، وهم بعيدون كلَّ البعد عن حيوية المبادىء التي قامت
عليها الرسالة المحمدية الكبرى.
سرتُ في أنحاء الحرم - وهو متسع الأرجاء - وتخيلته في نفسي يفيض
بصفوف المصلين، كان يبدو لي صحنه ووجهاته وجوانبه يوم الفتح الأكبر، يوم دخله
سلطاننا صلاح الدين بجند مصر فأقام أول صلاة للجمعة فيه، وكيف تبارى العلماء
والفضلاء فجهز كلٌّ منهم خطبة بليغة طمعاً في أن يكون خطيب ذلك اليوم. كنتُ أفكر
كيف أذَّن المؤذِّنون على منائر المسجد الأقصى وأسواره فارتجت المدينة بأصوات
التكبير والتهليل، ومرَّ أمامي كيف تقدم الملك السلطان المتواضع بقبة الصخرة فرسم
للقاضي محيي الدين محمد بن زكي الدين علي القرشي أن يخطب، وكيف ألبسه العماد الكاتب
جبة سوداء من تشاريف الخلافة العباسية فلبسها وصعِـــد المنبر واستفتح بسورة
الفاتحة ثم شرع في الخطبة فبدأها بـ: (الحمد لله معز الإسلام بنصره)...
كان كل هذا يمر أمام عيني ورأسي مطرق وأحبس الدمع في عيني حتى
انتهيت فدخلت إلى المحراب فأديت تحية المسجد في هذا المحراب الخالد، وترحمت على
بانيه وعلى أرواح الشهداء وشعرت براحه تملأ نفسي حينما خرجت مارّاً بمدرسة قايتباي
سلطان مصر، وقد غمر الإيمان نفسي وتملكتني نشوة لم أتمالك لساني عن التعبير عنها
عندما التقيت سماحة مفتي فلسطين الأكبر.
إننا نعيش أياماً مملوءة بالآلام والأحزان، ولكن المستقبل لله وحده،
وهو الذي ذكرنا في محكم آياته، وأنزل سكينته على قلوبنا وخط في سجل القدر أن هذه
الأرض لنا، وأن الأيام التي وعدنا بها آتية لا ريب فيها».
مضى على هذه الخواطر بكل ما تحمله من مرارة أكثر من ثمانين عاماً،
قامت خلالها دولة العصابات الصهيونية واستولت على كل فلسطين مثلما استولت على كثير
من مكونات الحضارة الإسلامية وإبداعات تراثها، وأصبح حلم (إسرائيل الكبرى) هو الهدف
الإستراتيجي الذي يخطط له زعماء الإرهاب في تل أبيب بمقتضى حقوقٍ تاريخيةٍ وهميةٍ
وإرثٍ سماوي مزعوم... وأصبحنا نشارك العالــم في مؤامرة الصمت على تهويد القدس
وإعلانها (عاصمة موحدة أبدية) لدولة الإرهاب! فهل لنا أن نأمل بيوم تعود فيه فلسطين
الغريبة إلى شعبها، ويعود (الحكواتي) في ليالي رمضان ليروي تغريبة بني فلسطين؟