• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
ليبيا إلى نظام المحاصة المناطقية.. فماذا بعد؟

يبدو أن الــروس والأتراك كانـوا في خلفــية مشهد إعــادة ترتيـب الأوضــاع على الأرض علــى طــرفي المعـادلة أيضـاً، وَفْـــقَ نمـط مـن التنـاغم الإسـتراتيجي الذي تبدَّى بينهما خلال الأزمة السورية


يبدو الوقت مبكراً للحكم على فعالية واحتمالات نجاح التسوية السياسية بين الأطراف الليبيين، التي رتبتها وقادتها ستيفاني وليامز القائمة بأعمال المبعوث الأممي إلى ليبيا (القائمة بأعمال السفير الأمريكي في ليبيا)، والتي ونتج عنها دخول البلاد مرحلة انتقالية جديدة، تقودها حكومةٌ ومجلسٌ رئاسي جديدان، ويفترض أن ينتهيَ دورها بعد إقرار الدستور وإجراء انتخابات برلمانية قبل نهاية ديسمبر القادم.

لقد اختارت بعثة الأمم المتحدة (75) شخصية ليبية عامة، قالت إن اختيارهم «جرى وَفْقَ مبادئ الشمولية والتمثيل الجغرافي والسياسي والقَبَلي العادل». وفي المعنى المباشر، فإن الشخصيات جرى اختيارها على أساس تمثيل الأقاليم الليبية الثلاثة (برقة، وطرابلس، وفزان). وجميعهم لم يسبق انغماسهم بشكل مباشر في الصراعات التي شهدتها ليبيا.

وقد اعتبرت بعثة الأمم المتحدة تلك الشخصيات هيئة تأسيسية للفترة الانتقالية الجديدة، وهيئة ناخبة لتحديد من يشغلون المواقع الرئيسية في حكم ليبيا خلال هذه المرحلة الانتقالية الجديدة: كرئيس مجلس الدولة ونائبيه ورئيس مجلس الوزراء، بينما تُرك تغيير رئيس مجلس النواب لأعضاء المجلس القائم، على أن يكون من جنوب ليبيا. ووَفْقاً لذلك أشرفت البعثة وأدارت عملية انتخابية بينهم، فازت فيها لائحة تضم رئيس المجلس الرئاسي ونائبيه والمكلف برئاسة مجلس الوزراء القادم.

وما كان لافتاً في تلك العملية أن الهيئة المختارة من قبل البعثة الأممية تخطت دور المجلس النيابي المنتخب، والمجلس الرئاسي القائم في الغرب، وَفْقَ اتفاق الصخيرات المغربية الذي منحه مجلس الأمن الدولي، الشرعية الدولية.

غير أن ما كان لافتاً أكثر، هو أن الأساس الذي حُدِّد للتسوية الجديدة، يقوم على نمط من المحاصَّة بين الأقاليم الثلاثة التي كانت قائمـة قبل توحيد البلاد في منتصف القرن الماضي؛ فيكون رئيس الوزراء من غرب ليبيا، ورئيس المجلس الرئاسي من الشرق (وله نائبان: أحدهما من الغرب، والثاني من الجنوب)، ورئيس مجلس النواب من الجنوب.

وهو ما يطرح بعض التخوفات المستقبلية لدى المراقبين؛ إذ إن التسويات التي أخذت نمط المحاصَّة - كما هو الحال في العراق ولبنان - لم تؤدِّ إلى نتائج تحقق الخطوَ نحو الأمام لا للدولة ولا للمجتمع؛ بل كانت وصفة لاستمرار الصراع واستدامته؛ إذ سرعان ما يتوقف دوران عجلة حركة النظام وتشهد البلاد صراعاً، غالباً ما يتحول إلى حرب أهلية إذا اعترض أحد أطراف المحاصَّة على نصيبه في التمثل السياسي أو الثروة.

غير أن هناك من يرى أن الأزمة الليبية تحركت بهذا الجهد الأممي إلى مربع يبدو جديداً، بالمقارنة مع المربع السابق الذي سادته لغة الرصاص والحسم العسكري والحرب الأهلية، وأن المحاصَّة بين ثلاثة أقاليم (الشرق والغرب والجنوب، أو برقة وطرابلس وفزان) قد صارت أمراً واقعاً، وأن التسوية الراهنة وضعت خريطة شاملة وَفْقَ توقيتات زمنية محددة، ووضعت كذلك بدائل لمواجهـة احتمالات عرقلة الكيانات القديمة لحركة التشكيل السياسي الجديد؛ إذ جعلت حركة تشكيل الحكم الجديد تذهب ثم تعود لتلك الهيئة التأسيسية، بما يوفر إمكانية التغلب على أية معوقات. فإذا كان رئيس المجلس الرئاسي الجديد ونائباه ليسوا بحاجة للإقرار من أية جهة أخرى (كانت قائمـة قبل هذا الاتفاق) بعد انتخابهم من الهيئة التأسيسية، فقد تقرر أن تُعرَض تشكيلة الحكومة على مجلس النواب الحالي (المنقسم)، فإن لم يعتمدها، يحال أمر الإقرار إلى هيئة الـ 75 لتقرَّ التشكيلة الجديدة، ويصبح قرارها نافذاً.

وكذا يتوفر لتلك التسوية إمكانية النجاح بفعل تخطيها أدوار الشخصيات التي انغمست في تجربة الحكم والحرب خلال الفترة الماضية؛ إذ استبعدت نتائج الانتخابات كلَّ مَن شاركوا في الحرب والصراعات الناشبة في مرحلة ما بعد سقوط القذافي، من داخل تشكيل السلطة الجديدة. وكان العنوان الأهم في ذلك، أن اختارت الهيئة التأسيسية الناخبة قائمة تضم محمد المنيفي رئيساً للمجلس الرئاسي، ومحمد الدبيبة رئيساً للحكومة الجديدة، وكلاهما من الشخصيات غير المعروفة على نطاق واسع ولم يُشهَد لأيٍّ منهما دور خلال الصراعات السياسية أو الحربية التي جرت منذ فبراير 2011م وحتى الآن. بينما أسقطت هذه الهيئة التأسيسية الناخبة، اللائحة المنافسة لها، التي كانت تضم رئيس مجلس النواب الحالي عقيلة صالح من الشرق، ووزير الداخلية البارز فتحي باشاغا من الغرب، وغيرهما.

خلفيات الحدث

السؤال المنطقي هنا، هو: كيف جرى الانتقال من حالة الصراع الحربي إلى حالة القبول بتلك التسوية السياسية؟

ثمة أبعاد داخلية ومؤثرات خارجية تفاعل بعضها مع بعض لتعيد تشكيل المشهد السياسي الليبي وتفتح الطريق للدخول في مرحلة التسويات السياسية بدلاً من الحرب، على الأقل في المرحلة الحالية.

في الحيثيات الداخلية يمكن القـول بأن حالة من الإنهاك قد أصابت طَرَفي الصراع العسكري بعد طول تجربة الحرب، وأن الطرفين قد وصلا إلى خلاصة مفادها صعوبة بل استحالة سيطرة (أيٍّ منهما) على الأراضي الواقعة تحت سيطرة الطرف الآخر، وأنهما كليهما شَعَرَا بالخطر من إمكانية المضي في مخططاتهما بسبب الأزمات المالية الناتجة عن إغلاق أنابيب النفط، وبسبب رفض الدول الكبرى تصدير النفط من قبل طرف واحد دون الآخر، ورفض إيداع أموال النفط لحساب أيٍّ منهما وحده. ويمكن القول أيضاً بأن الطرفين شعرا بخطر يتهدد استمرار سيطرة كلٍّ منهما على المناطق الواقعة تحت إدارته، بعد أن بدأ الجمهور الليبي بإرسال إشارات التململ والضجر من حالة الصراع الذي لا ينتج تغييراً على الأرض؛ إذ لاحـت بوادر الصراعات داخـل مناطق سيطرة الطرفين. فقد جرت تظاهرات ومطالبات متعددة في شرق ليبيا، كما جرت احتكاكات بين المجموعات المكوِّنة للمشهد في الغرب.

تلك الأوضاع الداخلية لا شك أنها وضعت طرفي الصراع أمام حالة عجز عن الحسم، وأمام احتمالات تحوُّل الصراع من مواجهة الطرف الآخر، إلى مواجهة مع قوى جديدة تتنامى داخل المناطق التي يسيطر عليها، وهو ما يهدد دورهما القيادي والمكاسب التي تحققت لهما.

لكن يبدو أن العامل الخارجي كان حاسماً في تأثيراته، إلى درجة يمكن القول معها: إن صناعة المشهد الجديد الحالي تشكِّل لوحة لتأثيرات الوضع الخارجي ربما أكثر من الأسباب الداخلية، وهو أمر ليس مستجداً على الوضع في ليبيا التي شهدت تدخلاً عسكرياً من حلف الأطلنطي لحسم الصراع ضد سلطة القذافي وقواته في عام 2011م.

لقد كان التدخل التركي (المؤيَّد أمريكياً) دعماً لحكومة السراج في الغرب الليبي، هو ما غير موازين القوى على الأرض، بشكل أنهى إمكانية نجاح محاولة قوات حفتر في السيطرة على طرابلس، وحوَّل المعركة إلى الاتجاه المعاكس؛ إذ تراجعت القوات المهاجمة إلى خط سرت والجفرة. هذا التدخل أفقد الأطراف الداعمة لحفتر زخم الحركة والقدرة على الاستمرار في الحرب والمعارك، وأظهر أن قراراً غربياً - غير معلن - يمنع سيطرتها الكاملة على الجغرافيا السياسية والبشرية والثروة الليبية، وأن التمادي في استمرار الحرب سيجلب وضعاً عسكرياً أخطر، وتداعيات دولية أعمق.

وفي المقابل، جاء وقف تقدم القوة العسكرية التابعة للغرب الليبي عند خط سرت الجفرة، وعدم السماح لها بمواصلة القتال إلى ما بعده، ليؤكد لقوات غرب ليبيا أن القرار الدولي الذي دعم فك الحصار عن طرابلس وسمح بإعادة قوات حفتر للوراء، يتضمن أيضاً عدم تخطِّي قوات الشرق هي الأخرى إلى ما بعد خط سرت الجفرة.

ويبدو أن الــروس والأتراك كانـوا في خلفــية مشهد إعــادة ترتيـب الأوضــاع على الأرض علــى طــرفي المعـادلة أيضـاً، وَفْـــقَ نمـط مـن التنـاغم الإسـتراتيجي الذي تبدَّى بينهما خلال الأزمة السورية وتطور عبر قضايا صواريخ (إس 400)، وأزمة شرق المتوسط.

لقد كان الدخول التركي بضوء أمريكي برتقالي - أي مشروط - بداية التغيير في المشهد الليبي، ليس عسكرياً فقط بل سياسياً وإستراتيجياً أيضاً؛ إذ طورت تركيا تدخلها إلى حركة إستراتيجية لتعميق وجودها، وللتحرك تجاه روسيا في الطرف الآخر لإخراج بعض الدول الداعمة لحفتر من معادلة الصراع، خاصة فرنسا، وهو ما وجدته روسيا فرصتها الأهم لتعميق وجودها في ليبيا ولتصبح طرفاً (رسمياً) في التفاوض والخروج من حالة الإنكار لوجودها الرسمي على الأرض الليبية؛ إذ طالما أعلن مسؤولوها أن وجود شركة فاغنر (العسكرية/ الأمنية) ليس إلا عملاً من أعمال القطاع الخاص لا صفة رسمية له.

والأهم، أن مَن تدخَّل الآن للبناء على وصول طرفي الأزمة المباشرة إلى وضع التوازن دون قدرة أيٍّ منهما على حسم المعركة لصالحه، ومن أوقف القتال وأعاد الصراع إلى العملية السياسية من جديد، هو الولايات المتحدة عبر (ستيفاني وليامز) أو هو الطرف ذاته الذي تحرك خلف الكواليس لصناعة معادلة التوازن التي جرت.

وأن ما جرى من تسوية وتشكيل سلطة تنفيذية جاء ترجمة لجهود دولية لعبت ألمانيا فيها دور الدولة (غير المتحيزة والمنفتحة على مصالح جميع الأطراف الدولية)، وهو دور متوافَق عليه مع الولايات المتحدة أيضاً. تلك الجهود الدولية هي التي حددت الخطوط العامة للدورين الخارجي والداخلي، وحددت مَن شارك في المفاوضات المطولة التي انتهت إلى فرض وقف إطلاق النار، وحددت أسس تشكيل المرحلة الجديدة، التي قادت أجندتها وطريقة إخراجها للحياة (ستيفاني وليامز).

معضلات تعترض الطريق

وَفْقَ معطيات سابقة خلال مسيرة الأزمة الليبية، يبدو أن الوصول إلى تشكيل رؤوس السلطة السياسية والتنفيذية هو الأمر الأسهل في تعقيدات تلك الأزمة. ويمكن القول أيضاً: إن توافر الغطاء الدولي لتلك التشكيلات لم يمنحها القوة اللازمة لفرض برامجها أو حتى لمنع انزلاق الأوضاع إلى الأسوأ. والنموذج حاضر في المشهد الليبي، إذ جرت انتخابات برلمانية وتشكلت سلطة الوفاق إثر إقرار اتفاق تسوية بمدينة الصخيرات المغربية، نالت تصديق مجلس الأمن الدولي، لكن النتيجة الفعلية هي أن البلاد لم تتحرك للأمام، فقد تأزمت الأوضاع إلى درجة الحرب... بل إن الدول التي كانت قد أعلنت موافقتها ودعمها لاتفاق الصخيرات، هي ذاتها التي قدمت الدعم والسلاح إلى أطراف الأزمة.

وفي المرحلة القادمة تواجه الحكومة والمجلس الرئاسي الجديدان مشكلات أشدَّ وعورة من تلك التي واجهتها السلطات التي تشكلت بعد اتفاق الصخيرات. فالترتيبات الجديدة تأتي بعد حرب ودمار جرى علـى مدار عدة أشهر، وعلى خلفيات أزمة متواصلة لنحو 10 سنوات، وهو ما خلَّف ثارات ليس من السهل العبور فوقها؛ خاصة في مجتمع قبلي. وتلك الأزمة المتطاولة والمتفاعلة منذ سقوط نظام معمر القذافي وهذا الاقتتال الذي طغى عليها ما بعد بداية تنفيذ اتفاق الصخيرات، لم يخلِّف قتلى ودماراً وثارات وتفكيكاً لوحدة المجتمع فقط؛ بل أنتج وجوداً فاعلاً لمجموعات وتكوينات سياسية وعسكرية وتحالفات قَبَلية وجِهَوية (لدى الطرفين) لها كياناتها ودورها ومصالحها الضيقة وجمهورها الذي يرى فيها قوة ضرورية لضمان حصول منطقته أو قبيلته على حقوقها في السلطة والثروة. تلك الكيانات لم تتفكك وتعهدت السلطة الجديدة بتذويبها في داخل الكيانات الوطنية التي تذهب إلى بنائها. وهو أمر قد يستعصي على الحل خلال الفترة الزمنية المحددة للسلطة الجديدة.

وتواجه الحكومة والمجلس الجديدان تعقيدات الوجود الدولي المتعدد على الأرض الليبية، وبمعنى أدق فإن أخطر ما حدث خلال الفترة الماضية لم يكن الاقتتال والكيانات المتقاتلة فحسب؛ بل كان استلاب قرارات إدارة الأزمة الليبية من أيدي الليبيين، لمصلحة القوى الدولية الخارجية. هذا الوضع ليس جديداً، بل هو متكرر في البلاد التي تشهد احتراباً داخلياً؛ إذ يبحث كل طرف داخلي عن طرف خارجي يسانده ويمده بالسلاح، فإذا وصل الأمر حدَّ نزول قوات من جيوش الأطراف الخارجية أو قوات المرتزقة التابعة لها على الأرض - كما حدث في ليبيا - يصبح لتلك القوات والدول دور سياسي داخلي، بل تصبح المؤثِّر الأول في القرار الداخلي.

والآن يشترط الاتفاق خروج القوات الأجنبية خاصة المرتزقة، وهو ما يشكِّل معضلة كبرى؛ إذ كثير من الدول تتصارع الآن على نفط ليبيا وموانئها وموقعها الإستراتيجي على الأرض الليبية نفسها، وليس سهلاً أن تُخرِج قواتها وتتخلى عن مصالحها لمجرد اتفاق سياسي بين قيادات ليبية. ولا شك أن بعض الأطراف الدولية ستكرر لعبتها السابقة، وستدفع الأمور إلى التعقيد عبر أطراف داخلية بهذه الطريقة أو تلك، مستغلة نمط المحاصَّة الذي بُنيت عليه السلطات الجديدة.

وتلك السلطة الجديدة، تواجه معضلة توحيد المؤسسات التي تشكلت في الشرق والغرب - العسكرية منها خاصة - ومعالجة الأوضاع في الجنوب الذي ينتظر أن يصعِّد حركته في الفترة المقبلة.

وإذا كانت بعض الدول الأوروبية قد لخصت اهتمامها بالأزمة الليبية في قضية الأمن داخل ليبيا، ومنع تدفق اللجوء غير الرسمي من إفريقيا إلى أوروبا، فثمة جانب آخر من جوانب الحكم على نجاح تلك السلطة الجديدة، هو قدرتها على تأمين الحدود البحرية لليبيا ومنع تدفُّق الهجرة تجاه أوروبا؛ وهو ما يتطلب تشكيل أجهزه أمنية وعسكرية، وهو أمر يحتاج لوقت أطول مما تحدد في توقيتات الاتفاق الأخير.

مخاوف من التقسيم

يبدو غريباً أن يصدر مثل هذا التخوف (أن يكون مستقبل ليبيا هو التقسيم)؛ سواء لأن البلاد تدخل الآن حالة الحَراك السياسي لا العسكري، أو لأن الحراك السياسي الجاري يقدِّم صيغة توحيدية للبلاد، ويرفع شعارات توحيد المؤسسات وإنهاء الانقسام، أو لأن ليبيا لا صراعات طائفية فيها... إلخ.

غير أن مراجعة ما جرى في ليبيا منذ عام 2011م وحتى الآن، تشير إلى ورود هذا الاحتمال على نحو لا يمكن اســتبعاده، بل يمكن القـول بأن الانتقـال من أزمة إلى أخرى طوال تلك الفترة، جرى دفعاً باتجاه الانقسام والتقسيم. ولا يغير من هذا التقدير أن بدأت الأزمـة الليبيه عام (2011) تحت عناوين تحقيق الديمقـراطية وبناء الدولة، التي حرص القذافي على عدم بنائها.

لقد تحرك مسار الأحداث والأزمات من وقتها وحتى الآن، كقطار يسير نحو التقسيم؛ إذ كلما شهدت الأزمة تحولاً، جرت معالجته بالسير خطوة أخرى تجاه مزيد من الانقسام. وإذا كانت الحرب التي جرت مؤخراً على أسوار طرابلس قد استهدفت (توحيد البلاد) حسب شعارات حفتر، وإذا كانت الحركة العسكرية للوفاق قد جرت تحت العنوان نفسه أيضاً، فقد تمت إعادة وصفها بأنها صراع حربي بين الشرق والغرب على الثروة والسلطة، وبناءً عليه تم تأسيس التسوية الراهنة على أساس تمثيل ثلاثة أقاليم، وتقسيم المناصب العليا على تلك الأقاليم؛ أي أنها اعتبرت الانقسام قاعدة البناء، وقررت تحويل ما هو طارئ إلى وضع مؤسسي قائم على التفكك، وهو ما يسهل إعادة إنتاج الأزمة في صور أشد خطراً على وحدة البلاد.

ولا يغير من هذا التقدير ما يصدر من تصريحات أو نوايا طيبة؛ إذ الاتفاقات المتتالية على بناء النظام السياسي القائم على المحاصَّة في لبنان لم تمنع وقوع الحرب الأهلية (أو العودة إليها)، كما أن قصة العراق مع المحاصَّة جاءت تحت شعار بناء ديمقراطية من طراز فريد، لكنها أوصلت البلاد إلى حالة الخراب والتدمير. وإذا قيل ردّاً على ذلك: إن ليبيا بلد متجانس على صعيد الدين واللغة والعادات... إلخ، فهناك من هو قادر ومن هو راغب في تحويل الاختـلافات الطبيعية إلى حالة صراعية تحقيقاً لمصالحه، ومع الأسف قطعت ليبيا شوطاً كبيراً في هذا الاتجاه.

 


أعلى