مما يعين على استصغار العمل: معرفة الله تعالى ورؤية نعمه، وتذكر الذنوب والتقصير وهفوات العمل
إن التوفيق للعمل الصالح نعمة كبرى، ولكنها لا تتم إلا بنعمة أخرى هي نعمة القبول،
والقبول لا يتم إلا بشرطين، هما:
إخلاص العمل لله سبحانه وتعالى.
اتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيه.
وإذا علم العبد أن كثيراً من الأعمال تُرَدُّ على صاحبها لأسباب كثيرة، كان همه
مُنصَبّاً على معرفة أسباب القبول، فإذا وجدها في نفسه فَلْيحمد الله تعالى، وليعمل
على الثبات عليها والاستمرار على الوتيرة نفسها. وإن لم يجدها، فَلْيكن همه توفير
هذه الأسباب ليقبل الله سبحانه وتعالى عمله.
ومن هذه الأسباب:
عدم الرجوع إلى الذنب بعد الطاعة:
وإلا فإن الرجوع إلى الذنب علامة مقت وخذلان وخسران. قال يحيى بن معاذ:
«من
استغفر بلسانه وقلبُه على المعصية معقودٌ، وعزمه أن يرجع إلى المعصية بعد الشهر
ويعود، فصومه عليه مردود، وباب القبول في وجهه مسدود»[1].
وهذا دليل على ضعف في الإرادة ووهن في العزم. فالموفَّق من قطع حبل الوصال بينه
وبين المعصية بالتوبة النصوح التي من أهم شروطها: الندم والإقلاع عن الذنب والعزم
على عدم الإلمام به مرة أخرى.
الوجل من عدم قبول العمل:
لأن الله سبحانه وتعالى غني عن عبادة الناس وطاعتهم، ولا يقبل إلا ما كان خالصاً
لوجهه الكريم وموافقاً للحق. والمؤمن مع شدة إقباله على الطاعات، والتقرب إلى الله
عزَّ ذِكْرُه بأنواع القربات، إلا أنه مشفق على نفسه أشد الإشفاق، يخشى أن يُحرَم
من القبول؛ فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَّقُلُوبُهُمْ
وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:
60]:
أَهُم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال:
«لا،
يا بنة الصديق، ولكن الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون أن لا يقبل منهم،
أولئك الذين يسارعون في الخيرات»[2].
فأهل الإيمان والخشية من الله تعالى حريصون على أداء هذه العبادات الجليلات، مع عدم
الركون إلى حولهم وقوتهم، بل يزدرون أعمالهم، ويظهرون الافتقار التام لعفو الله
تعالى ورحمته، وتمتلئ قلوبهم مهابة ووجلاً وخوفاً من الله جلَّت عظمته، يخشون أن
ترد أعمالهم عليهم محرومين عياذاً بالله تعالى، ويرفعون أكف الضراعة ملتجئين إلى
الله سبحانه وتعالى أن يتقبل منهم.
التوفيق إلى أعمال صالحة بعدها:
فعلامة قبول الطاعة أن يوفَّق العبد لطاعة بعدها، ومن ثواب الإيمان حصول إيمان أعلى
منه. وهذا من رحمة الله تعالى وفضله أن يكرم عبده إذا فعل حسنة وأخلص فيها له، أن
يفتح له باباً إلى حسنة أخرى، ليزيده منه قرباً. فالعمل الصالح شجرة طيبة ممتدة
الأغصان، وارفة الظلال، تؤتي ثمارها كل حين ببركة التقوى التي هي مناط قبول
الأعمال.
استصغار العمل وترك العجب والغرور:
إن العبد المؤمن مهما ثابر واجتهد وقدَّم من أعمال صالحة، فإن عمله كله لا يصلح
ليؤدي به شكر نعمة واحدة من نعم الله تعالى عليه كنعمة البصر مثلاً. ولا يستطيع أن
يقوم بشيء من حق الله تعالى؛ فإن حقه فوق الوصف. ولذلك كان من صفات المخلصين
الصادقين أنهم يستصغرون أعمالهم ولا يرونها شيئاً حتى لا يعجبوا بها، ولا يصيبهم
الغرور والعجب فيحبط عملهم.
ومما يعين على استصغار العمل: معرفة الله تعالى ورؤية نعمه، وتذكر الذنوب والتقصير
وهفوات العمل. وَلْنتأمل كيف أن الله سبحانه وتعالى يوصي نبيه الكريم بذلك، بعد أن
أمره بأمور عظام تنوء بحملها الجبال، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْـمُدَّثِّرُ
1
قُمْ فَأَنذِرْ
2
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ
3
وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ
4
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ
5
وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: ١ - ٦].
ومنذ أن أنزلت {قُمْ فَأَنذِرْ} قام النبي صلى الله عليه وسلم قياماً
جهاديّاً متواصلاً دائباً لا يعرف الكلل ولا الملل، نازَل به قومه والعرب قاطبة،
واليهود، والإمبراطورية الرومانية البيزنطية، فلم يتسلل إلى قلبه الشريف العجب
والغرور رغم هذا العمل الجبار العظيم الذي قام به، وظل يعبد الله سبحانه وتعالى في
تواضع وإخبات حتى التحق عليه الصلاة والسلام بالرفيق الأعلى.
وفي النظر إلى العمل واستصغاره قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:
«كلما
شهدتَ حقيقة الربوبية وحقيقة العبودية وعرفتَ الله تعالى وعرفتَ النفس، وتبين لك أن
ما معك من البضاعة لا يصلح للملك الحق ولو جئت بعمل الثقلين خشيت عاقبته؛ وإنما
يقبله بكرمه وجوده وتفضله، ويثيبك عليه أيضاً بكرمه وجوده وتفضله»[3].
تقوى الله عز وجل ومُلخَّصُهَا حب الطاعة وكراهية المعصية:
فمن علامات القبول أن يحبِّب الله تعالى للمرء الطاعة فيحبها ويأنس بها ويطمئن
إليها، ويكرِّه إليه المعصية ويأنف منها ويستقذرها ويبغضها: {إنَّمَا
يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْـمُتَّقِينَ } [المائدة:
27].
الرجاء وكثرة الدعاء:
إن رجاء قبول العمل مع الخوف من رَدِّه يورث المؤمن تواضعاً وخشوعاً لله تعالى
فيزيد إيمانه. وعندما يكون الإنسان راجياً مولاه سبحانه وتعالى، فإنه يرفع يديه
سائلاً إياه قبول عمله، فإنه وحدَه القادر على ذلك. وهذا ما فعله أبو الأنبياء
وخليل الرحمن إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام حين رفعا القواعد من
البيت الحرام وشرعا في بناء أول بيت هدى للعالمين، قال تعالى: {وَإذْ يَرْفَعُ
إبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا
إنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:
127].
كثرة الاستغفار:
والناظر في كثير من العبادات والطاعات يلحظ أن الشرع ندب إلى ختمها بالاستغفار؛ ذلك
أن العبد مهما حرص على تكميل عمله فإنه لا بد أن يشعر بالنقص والتقصير. والكمال قمة
صعبة المنال. فالمستغفر كثيراً حري أن يستجاب له ويقبل عمله.
[1] ابن رجب، لطائف المعارف: 1/232.
[2] أخرجه الترمذي في سننه، كتاب تفسير القرآن، رقم (3175)، 5/327.
[3] ابن القيم: مدارج السالكين (التهذيب)، ص 119.