الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمّدٍ وعلى آلِه وصحبِه، وبعدُ:
طبائع الأشياء تكاد أن تكون ثابتة، والسنن الكونية لا تتبدل، ومهما ظهر من تغيير أو تطور، فستبقى السمات العامة للأشياء، وللبشر، وللمجتمعات، مستقرة في ملامحها الرئيسة، ومثلها السُّنن التي لا تتحول وإن اجتهدت الخلائق لإحداث شيء من هذا القبيل، وحركة التاريخ، ومسيرة المجتمعات والسابقين، خير شاهد.
فمن الطبائع اليقينية أنَّ الخطأ لا يُكتب له الاستمرار والبقاء مهما آوى إلى ركن شديد، ولا مناص له من انتهاء إمَّا بطريقة التلاشي المتدرج، وإما بالإزالة والإبعاد الفجائي، وينبني على هذه الطبيعة أن عمليات التصحيح تستمر في دوران أو خطٍّ مستقيم، وربما يشوبها غليان وارتباك، حتى يأتي عليها زمن تستقر فيه، وتلقي عصا الترحال برشاد وعدل، أو بقوة وسلطان، أو بهما معاً.
ومن الطبائع الراسخة أنَّ أحوال الناس تختلف حسب موضعهم من المال والقدرة والسلطة؛ فقبل حصول المرء على واحدة منها يكون له مبادئ وقيم ومسلَّمات، وبعد أن يمتلك هذه الممكِّنات أو بعضاً منها تظهر حقيقة إيمانه بتلك الـمُثُل؛ فبعضهم يجعلها مثل جلد جسده لا يبلى وهو حي، وآخرون يعاملونها مثل الملابس التي تُخلع وتجدد وربما تُرمى في أقرب سلَّة للمهملات!
ومن طبائع المجتمعات أن العمر فيها لا يُقاس كما يكون مع الأفراد؛ فعشر سنوات كثيرة في حساب الإنسان الواحد بَيْدَ أنَّها لا شيء في عمر المجتمع وزمنه، ولذلك فلربما تعاقبت أجيال وأجيال دون أن يقطف بعضهم ثمار المنجزات التي شاركوا في صنعها، أو يرى المـرء طلائع الخير من أعمـاله وجهوده؛ وإنما الغنيمة فيما يبقى عند الله، وكم من مجتمع حظي ببركات من آثار الراحلين وجهودهم.
لأجل ذلك؛ ما أحوجنا إلى دراسة السنن الكونية، ومعرفة طبائع المجتمعات والناس، حتى يكون التفاعل مع الأحداث رشيداً، وبمواجهة الصعاب حكيماً، وكي لا يكون للمفاجآت وَقْع شديد علينا، أو تأثير مزلزل على تماسكنا، فالأصل في عدد من الحوادث الكبرى أن تأتي على حين غرَّّة، ومن استعدَّ لطروقها بمعرفة سوابقها نال مغانمها راشداً، ونجا من عقابيلها وعواقبها المخيفة.