الهمج المتحضر (الانكشاف الأخلاقي في أزمة كورونا لدى الغرب)
«ذهبتُ للغرب فوجدت إسلاماً ولم أجد مسلمين، ولَـمَّا عدت للشرق وجدت مسلمين ولكنني لم أجد إسلاماً»، مقولة شهيرة أطلقها الشيخ محمد عبده عندما ذهب لمؤتمر باريس عام ١٨٨١م ثم عاد من هناك إلى مصر، ليأخذها منه كل من ذهب بعده إلى دول الغرب ليشنف أسماعنا بالحضارة والتقدم والتزام الغربيين بالأخلاق، ومن بعد محمد عبده ظهر التنويريون ليكرِّسوا كل جهودهم لنقل التجربة الغربية إلى بلاد المسلمين لكي يلحقوها بركب (التحضر)!
هناك قاعدة فقهية تقول: «الحكم على الشيء فرع عن تصوره»، ومعناها أن الحكم على الشيء مبنيٌّ على حجم إدراك الشخص بالشيء وإلمامه به، وأن المخرجات المختلة مبنية بالتأكيد على مدخلات خاطئة، وربما هذا ما حدث مع الشيخ محمد عبده وحدث أيضاً مع التنويريين الذين صدعوا رؤوسنا بحضارة الغرب والتزامه، يبدو أن التصور الصحيح عن الغرب لم يكتمل في مخيلتهم، وأنهم رأوه من جانب واحد فقـط، فأدى ذلك لإخراج حكم مختل عنهم.
وكما قيل: إن الشدائد تُظهِر المعادن، وفي نار الأزمات يتبين الذهب من النحاس؛ فقد تكشفت صورة بائسة لحضارة الغرب، وظهر عوار كبير في منظومة أخلاقه في أزمة (كورونا) الأخيرة، سواء على مستوى القيادات السياسية، أو على مستوى الشعوب، لتكتمل لنا الصورة من كافة جوانبها.
على المستوى القيادة السياسية صرح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تصريحاً مباشراً بأن الولايات المتحدة لا تريد لدول أخرى الحصول على ما تحتاجه من أقنعة، وذيَّل التصريح بقوله: «ولكم أن تسمُّوا ما سيحصل بالانتقام إن لم نأخذ ما نريد»، ومن بعدها اتُّهمت الولايات المتحدة باعتراض مسار شحنة تحمل 200 ألف كمامة، كانت متجهـة إلى ألمانيا، وتحويلها لاستخدامها الخاص، بحسب ما ورد في وكالة BBC. حتى داخل الولايات المتحدة نفسها اندلـعت حرب كمامات بين الولايات والحكومة الفيدرالية.
لم تتجرأ الولايات المتحدة على ذلك الفعـل إلا برؤيتها عمليات القرصـنة التـي حدثت بين دول أوروبا على (الكمامات)؛ ففي أوائل شهر مارس، صادرت دولة التشيك 110 آلاف كمَّامة كانت قد اشترتها إيطاليا، وتم حل المشكلة بعد تدخل القنوات الدبلوماسية، وتكرر الأمر مع فرنسا حين استولت على شحنة أقنعة متوجهة إلى كلٍّ من إيطاليا وإسبانيا الأكثر تضرراً من أزمة كورونا، وبعد جهود دبلوماسية وافقت فرنسا على تسليم جزء من كمية الكمامات المحتجزة.
تكررت الحادثة بين الجارتين ألمانيا وسويسرا، بعدما صادرت ألمانيا 240 ألف كمَّامة كانت معدَّة للتصدير إلى سويسرا، ولم تفرج عنها إلا بجهود دبلوماسية، والأمر لم يقتصر على قرصنة الشحنات؛ بل حصل عرض أسعار مضاعفة للحصول من البائع على الشحنات كما فعلت الولايات المتحـدة مع شحنة متوجـهة من الصين إلى فرنسا، وظهرت تصريحات رسمية فرنسية استاءت من ذلك التصرف.
وصلت الأنانية للذروة في تصريحات عدد من المسؤولين الغربيين منهم الرئيس الأمريكي عن إعطاء أولوية العلاج للشباب على حساب المسنين وذلك بدافع الحفاظ على الاقتصاد! وقد أصدرت الجمعية الطبية البريطانية توصيات تطالب بإزالة مرضى فيروس كورونا من المسنين من على أجهزة التنفس الصناعي حتى يمكن إنقاذ المرضى الأصغر سناً والأكثر صحة!
على مستوى الشعوب فقد شهدت أغلب المتاجر في أمريكا وكندا وأستراليا اشتباكات على المواد الغذائية والصحية وصلت إلى حدِّ الاشتباك بالأيدي والصعق بالكهرباء، وهو ما وُثِّق عبر مقاطع فيديو عديدة، وقد استغلت الشركات تلك الفرصة لتضاعف أثمان الأدوات الصحية.
الانكشاف الأخلاقي الذي حدث للغرب في أزمة كورونا، انعكست آثاره السلبية على الغربيين أنفسهم؛ فقد خرج الإيطاليون لحرق علم الاتحاد الأوروبي بعد تحول دولتهم إلى بؤرة لانتشار المرض في أوروبا، وقد ظهر رئيس وزرائهم في خطاب رسمي لـمَّح فيه إلى أن الإيطاليين قد يطلبون الانفصال عن الاتحاد الأوروبي بعد انتهاء موجة كورونا، وقال: إن الاتحاد الأوروبي يشهد مواجهة شديدة وصريحة بسبب التقاعس.
على الجانب الآخر من الغرب، ورغم ضيق ذات اليد في دول الشرق ودول المسلمين، ظهرت معاني التكافل عبر المبادرات التي أطلقها الشباب في دول أبرزها المغرب والأردن والعراق وتركيا، من أجل تخفيف الأعباء المادية للأسر المتوقف أربابها عن العمل، في مشاهد عظيمة جمعت بين توزيع الصناديق الغـذائية ووضع المواد الغذائية على الطرق للمحتاجين.
إن ما حدث يظهر هشاشة المنظومة الأخلاقية في أوروبا، ويظهر الوجه القبيح الهمجي المتخفي وراء غشاء التحضر الذي خُدع فيه محمد عبده وكثير من التنـويريين بعده، وقد فسَّر محمد قطب رحمه الله ظاهرة (الهمج المتحضر) وطريقة تربيتهم الأخلاقية الهشة فيقول: «إنها تُنشِئ الفرد على كثير من الفضائل: لا يسرق ولا ينهب ولا يغتصب ولا يكذب ولا يغش، استقامة جميلة في الطبع والمعاملة، استقامة مريحة تثير الإعجاب، وميل إلى التعاون ونبذ للأنانية وإحساس بالصالح العام وتضحية بشيء من الصالح الخاص في هذا السبيل. كل ذلك نعم، ولكنه في حدود بريطانيا، في حدود القومية البريطانية. فإذا انتقل هذا الرجل الإنجليزي قيد شعرة خارج الحدود البريطانية، خارج الوثن الذي رُبِّي على عبادته، وقام منهج التربية كله على أساسه، فهنا يفاجئك منه شخص آخر لم تعهده من قبل، الأنانية البغيضة والجشع الكريه، الغش والخداع والكذب والدسيسة، والغصب والسلب والنهب، وإيثار الصالح الخاص على كل قيم إنسانية أو صوت للضمير، لماذا؟ هل تغير؟ كلا! وإنما هو ما يزال مخلصاً للوثن الذي يتعبده؛ ولم يكن قط مخلصاً لـ «الإنسانية» لأنه لم يتربَّ تربية إنسانية، ولم يكن قط مخلصاً لله، لأن قاعدة تربيته لم تكن الاتصال الحقيقي بالله. ذلك مَثَل يبين الفارق الحاسم بين منهج التربية الإسلامية ومناهج التربية غير الإسلامية[1].
في تلك الأزمة وجدنا الإسلام في بلاد الإسلام كما هو بقيمه وأخلاقه التي حثتهم على التكافل والتعاون وهذبت النفوس في أحلك الظروف، ولم نجده في دول الغرب كما ادعى التنويريون من قبل، بل وجدنا منظومة أخلاقية هشة يغشاها الاستغلال والقرصة والأنانية عند من كانوا يتغنون بحقوق الإنسان وقدسية القانون.
إن ذلك الإفلاس الأخلاقي الذي تعامل به الغرب مع أزمة كورونا ليس دخيلاً على منظومة أخلاقهم، فهي منظومة مفلسة في الأساس، لا تستمد قيمها من دين أو عقيدة، بل تستمدها من باب المصلحة المتبادلة التي تعود بالنفع على الجميع ويعيش بها الجميع في ودٍّ وسعادة، لكن سرعان ما تتلاشى تلك القيم بسبب استمدادها من نبع شبه جاف لا يتحمل الاستمرارية في تلك الجوائح. وهذا ما أكد عليه سيد قطب - رحمه الله - فقال: «تقف البشرية اليوم على حافة الهاوية، لا بسبب الفناء المعلق على رأسها فهذا عارض من أعراض المرض؛ ولكن بسبب إفلاسها في عالم القيم».
في النهاية.. مخطئ من يظن أن الهدف من المقال وصم بلاد الإسلام بالمثالية، أو محاولة تلميعها، فهي تحوي الغث والسمين من البشر، ولكن كانت محاولة لإفاقة بعض المهووسين بغشاء الغرب الأخلاقي، وإنارة بعض الجوانب المظلمة داخل بلدان (الهمج المتحضر).
[1] منهج التربية الإسلامية، ص38.