البحر الأحمر وخطر تمركز القوى الكبرى
سلسلة إجراءات اتخذتها المملكة العربية السعودية منذ انطلاق عملية «عاصفة الحزم» في
مارس 2015م للتخلص من تمرد جماعة «أنصار الله» الشيعية المدعومة من إيران في اليمن،
بدأتها بدعم الحكومة اليمنية الشرعية برئاسة عبد ربه منصور هادي وتعزيز الإجراءات
الأمنية على الحدود وتطوير قدراتها البحرية وتكثيف المناورات البحرية مع دول
الجوار، وذلك بعد أن أدركت المملكة أن أي خلل في استقرار الأمن البحري في مدخلي
البحر الأحمر من الجنوب عند مضيق باب المندب ومدخله الشمالي عند قناة السويس سيؤدي
إلى الإضرار بمصالحها الاقتصادية.
لكن منذ أن تحولت المنطقة مركزاً للقواعد العسكرية أصبحت السعودية أمام تحديات لا
تتعلق فقط بتطوير منظومتها الأمنية في محيط مياهها الإقليمية أو حدودها البحرية بل
أيضاً تتضمن الاندفاع باتجاه إبعاد خطر التصارع الدولي بالقرب من حدودها والحفاظ
على نفوذها السياسي والأمني في تلك المنطقة.
منذ انكشاف ظاهرة القرصنة التي كانت تستهدف السفن التجارية وناقلات النفط على
امتداد السواحل الصومالية عام 2008م بدأت تتراكم القوى العسكرية الأجنبية في
المنطقة من خلال نشر الدوريات البحرية والقواعد العسكرية عند مدخل مضيق باب المندب
أحد أشهر ممرات الملاحة البحرية في العالم، فقد استضافت جيبوتي التي تبلغ مساحتها
23 ألف كلم2 خمس قواعد عسكرية، تتبع الولايات المتحدة، وفرنسا، والصين، واليابان،
وإيطاليا، وتتشاور بشأن إنشاء قاعدة عسكرية تركية. ويعود السبب الرئيس لتراكم تلك
القوى لأهمية مضيق باب المندب الذي يصل المحيط الهندي بالبحر الأبيض المتوسط. ويقدر
معهد السلام الأمريكي حجم التجارة العالمية التي تمر عبر البحر الأحمر بــ700 مليار
دولار سنوياً، بالإضافة إلى قرابة خمسة ملايين برميل من المواد النفطية التي تعبره
يومياً، ويصل عرض مضيق باب المندب في أضيق نقطة إلى 16 كلم، وتعبر المضيق أكثر من
60 سفينة تجارية يومياً، بالإضافة إلى السفن الحربية والسياحية.
بالنسبة للسعودية التي تمتلك حدوداً بحرية على البحر الأحمر تصل إلى 2400 كلم،
تحاول احتواء التحديات الأمنية المحيطة بها من خلال تطوير ودعم أسطولها البحري الذي
تعد قاعدة الملك فيصل بجدة مركزاً لعملياته، عبر إشراكه بمناورات عسكرية مكثفة مع
جيرانها في حوض البحر الأحمر، آخرها مناورات «الموج الأحمر1» التي أتت ضمن بادرة
لبلورة تحالف عربي جديد لحماية أمن البحر الأحمر تفادياً لتطور المواجهة مع إيران
ومحاولاتها المستمرة للإخلال باستقراره الأمني عبر هجمات تنفذها جماعة الحوثي في
اليمن، ففي أكتوبر 2015م انتزع التحالف العربي الذي تقوده السعودية في حرب اليمن
السيطرة على جزيرة بريم من جماعة الحوثي بعد محاولتها عرقلة حركة الملاحة في
المضيق، وفي يوليو 2018م أعلنت المملكة استهداف نقالة نفط تابعة لها في البحر
الأحمر من قبل جماعة الحوثي، عقب تلك الأحداث بدأت مشاورات سياسية مع دول حوض البحر
الأحمر لتعزيز كيان عسكري يضم السعودية ومصر واليمن والسودان وجيبوتي والصومال
والأردن.
بالإضافة إلى أزمة اليمن فإن السعودية خصوصاً وبلدان حوض البحر الأحمر عموماً أمام
ثلاثة تحديات يتضخم تأثيرها في الممر الملاحي جنوب البحر الأحمر، أبرزها أن القواعد
العسكرية المتمركزة في محيط باب المندب وخصوصاً في جيبوتي تعد بادرة لتطور الصراع
التجاري بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، لاسيما وأن واشنطن تدافع عن
أسطولها الخامس ونفوذها في منطقة الخليج، بينما الصين تؤسس لبقاء دائم في المنطقة
لحماية استثماراتها في إفريقيا وتأمين إمداداتها النفطية، وبالإضافة إلى الصين
فهناك تركيا أيضاً التي أنشأت قاعدة في مقديشو وأخرى في الخرطوم وتسعى لإنشاء أخرى
في جيبوتي بهدف تعزيز نفوذها في تلك المنطقة وحماية استثماراتها في إفريقيا، أما
بالنسبة لإيران وهي الخطر العلني الذي تواجهه السعودية فهي تحاول فرض وصاية أمنية
من مضيق هرمز وحتى قناة السويس شمالاً باتجاه المتوسط، وعبر أدواتها مثل جماعة
الحوثي تحاول إبراز قدرتها على تعطيل حركة الملاحة في محاولة للتذكير بــ«حرب
الناقلات» التي وقعت في المنطقة عام 1982م، وسبق أن خرجت تصريحات من شخصيات مثل
الجنرال قاسم سليماني بهذا الشأن يشار إليها لاحقاً. وتمتلك السعودية على سواحل
البحر الأحمر خمس موانئ، أبرزها ميناء الملك فهد الصناعي في ينبع ويستخدم لتصدير
النفط ومشتقاته، بالإضافة إلى ميناء جدة الإسلامي وهو أحد أبرز الموانئ التجارية في
المملكة، بالإضافة إلى قرب المنطقة من العاصمة المقدسة مكة المكرمة التي لها رمزية
كبيرة عند المسلمين.
التنافس الأمني وحدود تأثيره:
يمكن تسليط الضوء على التصارع الدولي المتضخم في المنطقة من خلال شرح نوعية التمركز
العسكري في جيبوتي التي تؤجر أغلب القواعد العسكرية الموجودة عند مدخل مضيق باب
المندب، ووفقاً لمركز مقديشو للبحوث والدراسات، تجني جيبوتي نحو ربع مليار دولار
سنوياً مقابل تأجير أراض لقواعد عسكرية.
بالإضافة إلى المملكة التي تعد أهم اقتصاد في حوض البحر المتوسط فإن هناك عدة دول
تبدي اهتماماً كبيراً باستقرار البحر الأحمر بحسب مصالحها الأمنية والاقتصادية،
أولها وأبرزها الأردن التي تمتلك ساحل العقبة الذي لا يتجاوز طوله 24 كلم على البحر
الأحمر ويعد المركز الرئيس للعمليات التجارية والسياحية للأردن والمنفذ الوحيد
باتجاه البحر والمحيط، لذلك تحاول تعزيز أمنها عبر القوات الملكية البحرية والكتيبة
77 التي تتلقى دعماً وإمداداً من الجيش الأمريكي بما في ذلك المعدات العسكرية،
وشاركت القوات البحرية الأردنية في مناورات «الأسد المتأهب» التي جرت في أبريل
2018م مع الجيش الأمريكي بالإضافة إلى مشاركتها في مناورات «الموج الأحمر1» مع
بلدان حوض البحر الأحمر للحفاظ على جاهزيتها. بالإضافة إلى الأردن هناك الكيان
الصهيوني الذي بدأ نشر نفوذه العسكري والاستخباري في البحيرة العربية منذ عام
1951م، حيث تم إنشاء ميناء إيلات باعتباره منفذاً وحيداً للملاحة الصهيونية باتجاه
المحيط الهندي، لكن بسبب الحروب المتكررة بين مصر والكيان الصهيوني كان مضيق تيران
مغلقاً في وجه السفن الصهيونية حتى عام 1978م، حيث وقعت اتفاقية كامب ديفيد بين
الطرفين، وتحول المضيق إلى ممر ملاحة دولي يخضع لقوانين الملاحة الدولية. تقول
الأرقام الاقتصادية في الكيان الصهيوني إن إيلات فقدت أهميتها كمركز للعمليات
التجارية في البحر الأحمر وفي عام 2011م تم تفريغ أو تحميل حوالي 2.3 مليون طن من
البضائع، من إجمالي 44.5 مليون طن في الموانئ الصهيونية. لكن ذلك لا يفقدها أهميتها
باعتبارها البوابة الوحيدة غير المتوسطية للكيان الصهيوني ومنفذها الوحيد لإفريقيا
وشرق آسيا، كذلك تستخدم للعمليات العسكرية الاستطلاعية، فقد كشف تقرير نشره مركز
إستراتفورت الأمني الأمريكي عام 2012م عن وجود قاعدة عسكرية صهيونية في أرخبيل دهلك
بإريتريا تستخدم لمراقبة حركة الملاحة في مضيق باب المندب ومتابعة سفن تهريب
الأسلحة للمقاومة الفلسطينية وحزب الله اللبناني. وذكرت مصادر أن القاعدة قد أنشئت
في منطقة تشرف على باب المندب على بعد 135 كم من العاصمة أسمرة.
وبين تقرير نشره المركز الإعلامي الفلسطيني أن «وجود إسرائيل في إريتريا شديد
التركيز ودقيق، ويشمل جمع المعلومات الاستخبارية في البحر الأحمر ومراقبة أنشطة
إيران». وتتركز إستراتيجية الكيان الصهيونية الأمنية في البحر الأحمر بحسب دراسة
نشرها معهد بيغن السادات حول عدة أهداف أهمها:
- عدم التأثير على حركة الملاحة والطيران الصهيوني في تلك المنطقة باتجاه المحيط
الهندي والشرق الأقصى وإفريقيا.
- تحديد الأطراف التي يمكن التعاون معها في حوض البحر الأحمر وتحديد آليات للتعاون
معها.
- التعاون مع الأطراف الإقليمية لمنع عمليات تهريب الأسلحة في تلك المنطقة.
وفي إطار محاولاتها تعزيز الشراكة مع البلدان الواقعة على حوض البحر الأحمر تجري
الحكومة الصهيونية مع الأردن محادثات لإنشاء ما يعرف بمشروع «قناة البحرين» التي
ستربط البحر الميت بالبحر الأحمر لإنهاء أزمة المياه التي تعاني منها الأردن من
خلال إنشاء محطات لتحلية المياه. ويدعم البنك الدولي المشروع الذي من المتوقع أن
تبلغ إجمالي تكلفته 2.7 مليار دولار.
إيران والقرصنة البحرية:
إحدى المخاطر التي أظهرتها أزمة جماعة الحوثيين في اليمن هي محاولات إيران الجدية
تعزيز نفوذها العسكري في تلك المنطقة بداعي الهيمنة وحماية نفسها من الحصار
الأمريكي المفروض عليها والتهديدات المستمرة لضربها عسكرياً، وهذا الأمر يعيد إلى
الأذهان ما عرف عام 1982م بــ«حرب الناقلات» التي شهدت تنفيذ غارات متبادلة بين
إيران والعراق استهدفت أهدافاً نفطية بما في ذلك ناقلات النفط. في مارس عام 2015م
حاولت إيران نشر سفن حربية بالقرب من مضيق باب المندب لكن قطعاً حربية مصرية اعترضت
طريقها كجزء من عملية عاصفة الحزم التي تقودها السعودية في اليمن، وتحاول مصر كجزء
من بلدان حوض البحر الأحمر حماية المضيق للحفاظ على حركة الملاحة باتجاه قناة
السويس التي توفر أكثر من خمسة مليارات دولار سنوياً من الناتج القومي.
وفي يناير 2018م هددت جماعة الحوثي بإغلاق مضيق باب المندب وحاولت سابقاً الاستيلاء
على جزيرة بريم التي تطل على المضيق، كما تبع ذلك تهديد إيراني من قبل الجنرال قاسم
سليماني بإغلاق مضيق هرمز، ولمحاولة فرض وجودها العسكري في تلك المنطقة عززت إيران
وجودها العسكري مع إريتريا واستخدمت اتفاقيات تعاون مشترك مع السودان لاستمرار بقاء
سفنها العسكرية في البحر الأحمر، قبل أن تقطع السودان العلاقات مع طهران في يونيو
2016م.
ومنذ عام 2011م حاولت إيران نشر قواتها البحرية في البحر الأحمر برغم أن العقيدة
القتالية للبحرية الإيرانية تركز بشكل كبير على مضيق هرمز إلا إنها مؤخراً بدأت
محاولة توسيع حضورها في تلك المنطقة نظراً لاستخدام البحر الأحمر في عمليات تهريب
السلاح إلى الحوثيين وحزب الله في لبنان والمنظمات الفلسطينية، وبحسب تقديرات
عسكرية فإن إيران تستطيع تنفيذ تعطيل جزئي للمجرى المائي لمضيق باب المندب لبضعة
أسابيع في حال اندلعت مواجهة عسكرية لأن تعطيل وصول النفط إلى أوربا والولايات
المتحدة من خلال البحر الأحمر قد يتسبب بارتفاع أسعاره عالمياً بالإضافة إلى تأثيره
على اقتصاديات كبرى مثل الاقتصاد الصيني وسيدفع باتجاه أزمة اقتصادية عالمية لا
يمكن قبولها، لذلك يرجح أن يكون البحر الأحمر مسرحاً ثانوياً لأي مواجهة عسكرية مع
إيران. ففي عام 2011م أرسلت إيران أسطولاً صغيراً من السفن الحربية الإيرانية في
مهمة إلى سوريا. وفي نهاية عام 2011م أجرت تدريبات بحرية في بحر العرب مع وحدات
منتشرة في خليج عدن حتى مضيق باب المندب.
وكانت الرغبة واضحة من التدريبات لإظهار القدرات الهجومية للبحرية الإيرانية، وفي
يناير 2013م نشرت إيران وحدات بحرية في البحر الأحمر، وذكرت الحكومة أنها سترسل
أسطولها لعبور قناة السويس لحماية سفنها من القرصنة. برغم التعبئة الإيرانية
المستمرة في البحر الأحمر إلا إن مركز الدراسات الأمنية الأمريكي إستراتفورت أكد في
دراسة له أن القدرات البحرية الإيرانية لا تستطيع تحقيق أي حسم في المعارك البحرية
بسبب ضعف وقدم معداتها العسكرية البحرية التي تعود لحقبة الشاه. وأشارت الدراسة إلى
أن البحرية الإيرانية لديها منشأة في ميناء عصب الإريتري الهدف منها جمع المعلومات
والحفاظ على التواجد بالقرب من مضيق باب المندب. وينقسم الأسطول الإيراني إلى قسمين
الأول يتبع الجيش الإيراني والآخر يتبع الحرس الثوري الذي بدوره يقوم بتوسيع نفوذ
إيران البحري في محيط المياه الإقليمية لبلدان الخليج العربي، ويضم 25 ألف عنصر
ويمتلك 32 زورقاً حربياً سريع الهجوم بالإضافة إلى 3 فرقطات مسلحة بصاروخ صيني مضاد
للسفن من طراز سي 802. بالإضافة إلى ذلك يمتلك الحرس الثوري في ترسانته البحرية
سفناً مضادة للألغام و29 غواصة، خمس منها فقط يمكنها العمل في المياه الزرقاء، لكن
برغم محاولات إيران تطوير قدراتها البحرية إلا إن الحصار المفروض عليها منعها من
صيانة المعدات التي جرى الحديث عنها، فهي في الجانب العملياتي مجرد أرقام باستثناء
الزوارق الانتحارية السريعة التي تصنعها إيران في محاولة منها لتعويض نقص ترسانتها
البحرية، فلا يمكن لتلك الترسانة أن تكون ذات فاعلية في ظل عدم وجود غطاء جوي
لحمايتها في البحر، وظهر ضعف القدرات العسكرية الإيرانية في الحرب السورية جلياً
حينما استعانت طهران بالجيش الروسي لحماية حليفها الأسد من السقوط واقتصر تدخلها
فقط على المرتزقة من أفغانستان وبعض البلدان الفقيرة، وبرغم أنها تدعي امتلاك
طائرات بدون طيار إلا إنها فشلت فشلاً ذريعاً في مواجهة الحركات الانفصالية في
بلوشستان على حدود باكستان.
منذ أن سيطرت جماعة الحوثي على الموانئ اليمنية وخصوصاً ميناء الحديدة تم استخدامه
بحسب التحالف العربي في تهريب الأسلحة الإيرانية وكذلك لشن هجمات على السفن
التجارية وزراعة ألغام بحرية في مضيق باب المندب، وتحاول السعودية الدفع باتجاه
إنجاح اتفاق برعاية الأمم المتحدة لإبعاد مليشيات الحوثي عن ميناء الحديدة، لكن تلك
الجهود حتى الآن بائت بالفشل بعد رفض الحوثي الالتزام بالاتفاق الذي يشرف على
تطبيقه الجنرال الهولندي باتريك كاميرات والذي ينص على تسليم مدينة الحديدة لإدارة
تابعة للحكومة الشرعية.
التصارع الصيني الأمريكي:
إن التحديات الأمنية الحالية في محيط البحر الأحمر قد تتضخم مع زيادة نفوذ الصين
والولايات المتحدة في المنطقة، لاسيما وأن الصين تمتلك تجارة ضخمة تقدر بــ200
مليار دولار مع إفريقيا جعلتها تضعها على هرم اهتماماتها في مشروع طريق الحرير،
لذلك في أغسطس 2017م أعلنت عن إنشاء قاعدة عسكرية صينية بمساحة 23 ألف متر مربع في
جيبوتي ومن المتوقع أن تستضيف القاعدة قرابة 10 آلاف جندي صيني لحماية الشراكة
الاقتصادية بين إفريقيا والصين، فقد مولت الصين مشروع إنشاء سكة حديدية تصل العاصمة
الإثيوبية أديس أبابا حتى ميناء دواليه الجيبوتي في مسعى لتسهيل حركة البضائع
الصينية إلى قلب القارة السمراء. وفي فبراير 2018م أنهت حكومة جيبوتي عقداً مع شركة
موانئ دبي العالمية، مما أدى إلى تجريد شركة الميناء من حقوقها في إدارة محطة
الحاويات التابعة لشركة دوراليه. وتعتقد واشنطن أن حكومة جيبوتي ألغت الاتفاق من
أجل تأميم الميناء ثم تقديمه كهدية إلى بكين. على لسان الجنرال توماس فالهاوزر قائد
قوات مشاة البحرية الأمريكية حذرت واشنطن من تلك الخطوة وقال فالهاوزر موجهاً خطابه
إلى مجلس النواب الأمريكي بتاريخ 13 مارس 2018م: «إذا استلم الصينيون هذا الميناء
فإن العواقب ستكون كبيرة». وبرغم أن الصين أعلنت أن قاعدتها البحرية هدفها التعاون
العسكري ودعم البعثات الإنسانية وحماية الصينيين في حالات الطوارئ، إلا إن واشنطن
التي تمتلك قاعدة عسكرية على بعد كيلومترات قليلة منها تعتقد أن الصين تحاول فرض
طوق على مدخل باب المندب من خلال تشييد قاعدة عسكرية في جالي السريلانكية وأخرى في
جوادر في باكستان ثم الأخيرة في جيبوتي لمراقبة حركة الأسطول الأمريكي الخامس. لكن
الصين لا تخفي قلقها من إمكانية قيام الأسطول الأمريكي الخامس المتمركز في الخليج
العربي بعرقلة إمداداتها النفطية التي تزيد يومياً عن 9 ملايين برميل في حال تأزمت
العلاقة مع الإدارة الأمريكية في ظل وجود حرب تجارية متصاعدة بين البلدين منذ مجيء
الرئيس الأمريكي ترمب.
ويتمركز في قاعدة لامنيار الأمريكية أكثر من 3700 جندي، معظمهم جزء من قوة المهام
المشتركة في القرن الإفريقي، وقد عززت واشنطن حضورها في البحر الأحمر بعد مضاعفة
الصين لحضورها بنشر المدمرتين لابون وتروكستون حيث تقوم بدوريات لمسافة 1400 ميل في
المياه. وبرغم أن الصراع الذي بدت ملامحه ظاهرة على أنه إيراني خليجي إلا إن محاولة
الصين وضع يدها على المنطقة قد تكون سبباً في تأجيج صراع أمريكي صيني يؤثر على
التوازن الإقليمي بين الدول العربية، فدول الخليج العربي التي تبذل جهوداً واسعة
لتقليص النفوذ الإيراني على البحر الأحمر لا تسعى لأن تكون حواضن أمنها الإقليمي
مرتعاً لصراع جديد بين القوى العظمى.
الوجود الفرنسي:
لم تعد المنطقة فقط ملعباً أمريكياً صينياً إيرانياً خالصاً بل أيضا فرنسا تمتلك
حضوراً عسكرياً قديماً تجسده قاعدة عسكرية ضخمة في جيبوتي تضم قرابة 1400 عسكري،
بموجب اتفاقية دفاع ثنائي وقعت عام 1977م، وتتلخص مهمات القاعدة الفرنسية في جمع
المعلومات الاستخبارية ودعم اللواء الثالث عشر من الفيلق الأجنبي الفرنسي في
الإمارات العربية بالإضافة إلى توفير دعم لوجستي لخمس قواعد فرنسية أخرى موجودة في
إفريقيا منتشرة في مالي وموريتانيا وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد كجزء من عملية
برخان لملاحقة الجماعات المسلحة في بلدان الساحل والصحراء. وأبرز تدخلات فرنسا في
إفريقيا تشمل:
•
عملية سيرفال التي بدأت في يناير 2013م واستهدفت ملاحقة جماعات جهادية سيطرت على
العاصمة المالية باماكو.
•
في ديسمبر 2013م نقلت فرنسا 2000 من جنودها لمساعدة مليشيات الأنتي بالاكا المسيحية
في السيطرة على الحكومة بدعم من الأمم المتحدة بعد اندلاع صراع عنيف بين المسلمين
والمسيحيين في البلاد.
•
في عام 1986م ساعدت فرنسا تشاد في إنهاء الحملة العسكرية الليبية عليها بقيادة
الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، ومع ذلك لم تغادر القوات الفرنسية تشاد إلى
يومنا هذا، وساهمت في دعم الرئيس إدريس ديبي وبقائه في السلطة.
•
في عام 2011م دفعت فرنسا حلف الناتو للقيام بحملة عسكرية في ليبيا على إثرها تم
تدمير نسبة كبيرة من البنية التحتية للدولة الليبية ودعم وجود مليشيات مسلحة أنهت
تدخلها بعد مقتل العقيد معمر القذافي.
تركيا وحضورها في المنطقة:
في مارس 2015م شرعت تركيا في بناء قاعدة عسكرية في العاصمة الصومالية مقديشو
تنفيذاً لاتفاقية تعاون مع الحكومة الصومالية اعتبرت إشارة على دخول تركيا لعبة
الهيمنة في البحر الأحمر، في سياق توسيع دائرة انتشار النفوذ التركي في المنطقة،
لكن تركيا التي تقول إنها تستخدم القاعدة لتدريب أكثر من 10 آلاف عسكري من الكوادر
التابعة للجيش الصومالي تمتلك استثمارات في إفريقيا وصلت العام الماضي لـ20 مليار
دولار، تسعى إلى تعزيز مكانتها ونفوذها في الشرق الأوسط وإفريقيا، وتماشياً مع
سياستها لنشر قواعد متقدمة في منطقة الشرق الأوسط، وقعت أيضاً اتفاقية مع السودان
في ديسمبر 2017م لإنشاء قاعدة عسكرية في جزيرة سواكن المطلة على البحر الأحمر وبرغم
نفي السودان الرسمي لمثل هذه المعلومة إلا إن موقع «ترك برس» التركي أشار إلى زيارة
وزير الدفاع التركي خلوصي أكار للجزيرة في نوفمبر الماضي وتباحثه مع وفود أمنية
سودانية بشأن التطورات فيها، وتجري مفاوضات لإنشاء قاعدة أخرى في جيبوتي.
الخلاصة
لم تكن تركيا والصين وفرنسا والولايات المتحدة وإيران هي فقط الدول الوافدة للتأثير
في أمن البحر الأحمر وتحقيق النفوذ فيه، بل هناك قوات أوربية مشتركة تسير دوريات
بزعم حماية السفن التجارية من القرصنة، كذلك توجد أول قاعدة يابانية في الخارج
متمركزة في جيبوتي أيضاً بالقرب من القاعدة الأمريكية، بالإضافة إلى قاعدة إيطالية
وحضور إسباني وبريطاني في تلك المنطقة.
برغم النوايا الإيجابية التي تظهر من قبل من يشيدون تلك القواعد والتي دائماً
تتمحور حول حماية الملاحة البحرية والاستثمارات الاقتصادية فإن تراكم القوة
العسكرية في الفترة الحالية يمكن حمله على سببين، الأول يتعلق بالتحكم بالمنافذ
البحرية الأكثر تأثيراً على الاقتصاد العالمي كونه طريق العبور لإمدادات الطاقة من
ناحية وكذلك من أهم ممرات البضائع الصينية باتجاه بلدان حوض البحر المتوسط، وهذا
الأمر يمكن اعتباره جزءاً من التصارع الأمريكي الصيني في المنطقة، كذلك على المستوى
الأمني والسياسي هناك محاولات صهيونية إيرانية للهيمنة وتحقيق النفوذ باستغلال فقر
بعض بلدان حوض البحر الأحمر مثل إريتريا وجيبوتي، بالإضافة إلى الحضور التركي الذي
يركز على بناء قوة تراكمية يمكنها أن تكون فاعلة مستقبلاً في طبيعة التحالفات
الموجودة في هذه المنطقة. لذلك يجب على البلدان الواقعة ضمن حوض البحر الأحمر
التركيز على مشروعات أمنية واقتصادية مشتركة لتعزيز تحالفها في وجه القوى الأجنبية
التي تمركز قواتها في تلك المنطقة، بالإضافة إلى تطوير وتجهيز قدراتها العسكرية
البحرية والمحافظة على الانتشار الدائم في ممرات الملاحة الدولية. كذلك فإن توفير
جسور تعاون اقتصادية مع دولة مثل جيبوتي قد يدفعها للتخلي عن مراكمة القواعد
العسكرية على أراضيها تجنباً للمساس بسيادتها وتأثيرها على حركة الملاحة في باب
المندب. والنقطة الأخيرة التي يجب التركيز عليها هي تعزيز التعاون العربي والإسلامي
للحفاظ على البحر الأحمر بحيرة عربية خالصة بعيدة عن النفوذ الأجنبي والدولي
وتجنباً لتحويله لساحة حرب بين قوى دولية على حساب شعوب المنطقة.