سلوى الحزين
إن راحة القلب وسروره، وزوال همومه وغمومه، مطلب كل واحد من الناس، به تحصل الحياة الطيبة، وبه يتم السرور والحبور. أما الحزن؛ فهو الحمى التي تشل جسم الحياة، وتكدر صفوها وتنغص عيشها.
الحزن من أحب الأمور إلى الشيطان في نفوس المؤمنين، قال تعالى: {إنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَىْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إلَّا بِإذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْـمُؤْمِنُونَ} [المجادلة: 10]، لذلك نهى الله تعالى عنه في غير ما آية في كتابه فقال: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا} [آل عمران: 193]، وقال: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [الحجر: 88].
الحزن قرين الهم والغم، لذلك استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم منهما فقال: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن»[1].
تنفرج أمام الإنسان أبواب السعادة، حتى لا تستطيع أرض أن تقله، ولا سماء أن تظله؛ فهو فرح مسرور في غبطة وحبور، حتى إذا ما تقلبت عليه الأمور، وتنادت حوله حوادث الدهور، ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وانغلقت عليه أبواب قد انفرجت؛ ابتلاء من الله وتمحيصاً وتعليماً لعباده أن الدنيا هكذا خلقت، فرح وسرور، وأحزان وشرور، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الإنسَانُ إنَّكَ كَادِحٌ إلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق: ٦].
الأسباب الدافعة للحزن
من رحمة الله بعباده، ولطفه بأوليائه: أن جعل لانشراح صدورهم برغم المنغصات أسباباً، ولانبساط النفس وطيب الحياة أبواباً. قال تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ} [الأنعام: 125].
لقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم أعظم الناس بلاء، وكان أعلم الناس بربه، فكان أشرح الناس صدراً، وأطيبهم نفساً، وأنعمهم بالاً، امتن الله عليه بشرح صدره فقال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: ١]، فمن كان للنبي الكريم أتبع كان له من سعة الصدر وانشراحه المقام الأرفع.
ألا وإن من أعظم أسباب انشراح الصدور: توحيد الله تعالى؛ إيماناً به، ورضاً بقضائه وقدره. قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِـحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، وقال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ 22 لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 22، 23]. وقال النبي الأكرم: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله»[2]، «تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة»[3].
إذا أردت أن يفرج الله همك، فاقطع طمعك في كل مخلوق، ولا تعلق على أحد أملاً غير الله تعالى.
من أعظم أبواب السعادة: دعاء الوالدين، فاغتنمه ببرهما ليكون دعاؤهما حصناً حصيناً من كل مكروه.
إذا أهمك أمر ونابتك نائبة، فافزع إلى الصلاة، «كان النبي إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة»[4]، وكان يقول: «أرحنا بها يا بلال»[5]، ويقول أيضاً: «وجعلت قرة عيني في الصلاة»[6].
أد زكاة مالك تكن مطمئن البال، يقول تعالى: {إنَّ الإنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا 19 إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا 20 وَإذَا مَسَّهُ الْـخَيْرُ مَنُوعًا 21 إلَّا الْـمُصَلِّينَ 22 الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ 23 وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ 24لِلسَّائِلِ وَالْـمَحْرُومِ} [المعارج: 19 - 25].
اعف عمن ظلمك، وصل من قطعك، وأعط من حرمك، واحلم على من أساء إليك، تجد الأمن والسرور.
طهر قلبك من الحسد، ونقه من الحقد، وأخرج منه البغضاء، وأزل منه الشحناء، تجد الأمن والسرور.
اترك الذنوب والمعاصي؛ فالهموم والأحزان عقوبات عاجلة؛ فكيف ينشرح صدر من ضيع صلاته ومنع زكاته؟! كيف ينشرح صدر من عق والديه وقطع أقرب الناس إليه؟! أم كيف ينشرح صدر من ظلم مسلماً في مال أو عرض؟!
كيف ينشرح صدر من أكل الربا وغش المسلمين في بيع أو شراء؟! قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى 5 وَصَدَّقَ بِالْـحُسْنَى 6 فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى 7 وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى 8 وَكَذَّبَ بِالْـحُسْنَى 9 فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5 - 10].
اجتنب سوء الظن، واطّرح الأوهام والخيالات الفاسدة، والأفكار المريضة؛ فكم ملئت مستشفيات من مرضى الأوهام، وكم أثرت هذه الأمور على قلوب كثير من الأقوياء، فضلاً عن الضعفاء، وكم أدت إلى الحمق والجنون.
وأكثر ما يُخاف لا يكون، وغالب ما يسمع من مكروه لا يقع، وفي الله كفاية، ومنه العون والحفظ والرعاية. والمتوكل على الله قوي القلب لا تؤثر فيه الأوهام، والمعافى من عافاه الله.
إطلاق البصر إلى الحرام يورث هموماً وغموماً، وجراحاً في القلب وآلاماً، والسعيد من غض بصره وخاف ربه. واهجر العشق والغرام والحب الحرام؛ فإنه عذاب للروح ومرض للقلب، وافزع إلى الله وإلى ذكره وطاعته.
تقرب إلى الله بالنوافل بعد أداء ما افترض من الواجبات واترك المحرمات. ففي الحديث القدسي عن رب العزة جل جلاله: «ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه»[7].
أكثر من ذكر الله وتلاوة القرآن؛ تجد السكينة والطمأنينة والأنس والسرور، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].
أكثر من: {لَّا إلَهَ إلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِـمِينَ} [الأنبياء: 87]، فلها سر عجيب في كشف الكروب، ونبأ عظيم في رفع المحن والخطوب.
لا تنس: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]، فإنها تطفئ الحريق، وينجو بها الغريق، ويعرف بها الطريق، وفيها العهد الوثيق.
كرر «لاحول ولا قوة إلا بالله» فإنها تشرح البال، وتصلح الحال، وتحمل بها الأثقال، وترضي ذا العزة والجلال.
أكثر من الاستغفار، فمعه الرزق والفرج والذرية، والعلم النافع والتيسير وحط الخطايا.
أكثر من الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها تذهب الهموم، وتزيل الغموم، وتشفي القلب المكلوم.
الزم أذكار الصباح والمساء، وأذكار النوم، والأذكار المخصوصة لما يعرض من أحوال ومناسبات.
الهج عند الكرب خاصة بما علم النبي صلى الله عليه وسلم أمته بأن تقول: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم»[8].
ادع الله تعالى قائلاً: «اللهم إني عبدك ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو علمته أحداً من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي»[9].
وادعه كذلك متضرعاً: «اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر»[10].
ابذل المعروف إلى الناس، اسع في قضاء حوائجهم وتيسير أمورهم وتفريج كرباتهم، فصنائع المعروف تقي مصارع السوء والهلكة، والجزاء من جنس العمل. يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»[11].
إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وعش في حدود يومك، وأجمع همك لإصلاحه؛ فإنك إذا أصلحت يومك صلح غدك.
اعلم أنك لست الوحيد في البلاء، فما سلم من الهم أحد، وما نجا من الشدة بشر.
قدر أسوأ الاحتمالات عند الخوف من الحوادث، ثم وطن نفسك لتقبلها، تجد الراحة واليسر.
إذا اشتد الحبل انقطع، وإذا أظلم الليل انقشع، وإذا ضاق الأمر اتسع، ولن يغلب عسر يسرين.
البلاء يقرب بينك وبين الله، ويعلمك الدعاء، ويذهب عنك الكبر والعجب.
لا بد من شيء من الخوف يذكرك الأمن، ويحثك على الدعاء، ويردعك عن المخالفة، ويحذرك من خطر أعظم.
ولا بد من شيء من المرض يذكرك العافية، ويجتث شجرة الكبر ودرجة العجب؛ ليستيقظ قلبك من رقدة الغافلين.
افرح باختيار الله لك؛ فإنك لا تدري بالمصلحة، فقد تكون الشدة خيراً لك من الرخاء.
ربما ساءتك أوائل الأمور، وسرتك أواخرها؛ كالسحاب أوله برق ورعد وآخره غيث هنيء.
عسى أن يكون منعه لك - سبحانه - عطاء، وحجزك عن رغبتك لطفاً، وتأخيرك عن مرادك عناية؛ فإنه أبصر بك منك.
عسى تأخيرك عن سفر خيراً، وعسى حرمانك من زوجة بركة، وعسى ردك عن وظيفة مصلحة؛ لأنه يعلم وأنت لا تعلم.
إذا وقعت في أزمة فتذكر كم أزمة مرت بك ونجاك الله منها، حينها تعلم أن من عافاك في الأولى سيعافيك في الأخرى.
تذكر كثير عفو الله عنك.
تمشي على قدميك وقد بترت أقدام، وتعتمد على ساقيك وقد قطعت سيقان، وتنام وغيرك شرد الألم نومه، وتشبع وغيرك جائع.
سلمت من الصمم والبكم والعمى، ونجوت من البرص والجنون والجذام، وعوفيت من السل والسرطان؛ فهل شكرت ربك الرحمن؟!
تذكر حسن العوض والجزاء عن البلاء.
أيها الفقير، صبر جميل، فقد سلمت من تبعات المال وعناء الجمع وحراسة الثروة، وطول الحساب عند الله تعالى.
ويا من فقدت بصرك، أبشر بالجنة ثمناً، واعلم أنك عوضت نوراً في قلبك وسلمت من رؤية المنكرات، ومشاهدة المزعجات والملهيات.
أيها المريض، طهور إن شاء الله تعالى؛ فقد هذبت من الخطايا، ونقيت من الذنوب، وصقل قلبك، وذهب كبرك وعجبك.
يا من بليت بعاهة، لا تظن العاهات تمنعك من بلوغ الغايات؛ فكم فاضل حاز المجد، وهو أعمى أو أصم أو أشل أو أعرج أو أبرص؛ فالمسألة مسألة همم لا أجسام؛ فصبراً ورضا عن الله، فلك الأجر والثواب.
وما يغني عن الفتيان حسن وجوههم
إذا كانت فعالهم غير حسان
يا من فقدت ولدك، لك قصر الحمد في الجنة. ويا من فاتك نصيبك من الدنيا نصيبك في جنات عدن ينتظرك.
إذا لم تعص ربك ولم تظلم أحداً، فنم قرير العين وهنيئاً لك، فقد علا حظك وطاب سعيك وبوئت من الجنة منزلاً[12].
[1] صحيح البخاري 2893.
[2] سنن الترمذي 2516.
[3] المستدرك 6303.
[4] سنن أبي داود 1319.
[5] سنن أبي داود 4985.
[6] سنن النسائي 3939.
[7] صحيح البخاري رقم 6502.
[8] صحيح مسلم 2730.
[9] المسند 3712.
[10] صحيح مسلم 2720.
[11] صحيح مسلم 2699.
[12] هذا الجهد اختيرت فقراته من مجموعة مقالات وخطب ومؤلفات، أهمها كتاب «لا تحزن» لعائض القرني. مع تشذيب وتهذيب وربط وترتيب. أسأل الله تعالى أن يدفع بها الأحزان عن المسلمين، ويجلب بها السعادة لنا ولوالدينا وأهلينا وذرياتنا أجمعين آمين.