الخطاب الوظيفي البديل
يجتهدُ
عددٌ من القنواتِ الفضائيةِ المنحرفةِ في السنواتِ الأخيرةِ في محاولةِ تصديرِ عددٍ
من الرموزِ الذين يتحدثون في كافةِ القضايا الشرعيةِ، وبطبيعةِ الحالِ فإن أولئك
الرموزَ سيدورون في فلكِ التوجهاتِ الفكريةِ لهذه القنواتِ الفضائيةِ، ويصاحبُ
خروجَهم عادةً حالةٌ من التسويقِ الإعلاميِ الذي يضخمُ من قدراتِهم العلميةِ
وانفتاحِهم الفكريِّ وسعةِ اطلاعِهم، في مقابلِ التبخيسِ والتقليلِ من أهلِ العلمِ
المعروفين.
إنها
ظاهرةٌ بارزةٌ في الوسطِ الإعلاميِّ المعاصرِ، وتزدادُ ظهوراً مع بعضِ المواسمِ
كرمضانَ، أو بعضِ المناسباتِ، وهي جديرةٌ بالرصدِ والتحليلِ للنظرِ في حجمِ تأثيرِ
مثلِ هذه الشخصياتِ، ودوافعِ ذلك، ولنا مع هذه الظاهرةِ تعليقاتٌ عدةٌ:
أولاً:
النظرُ في السببِ المحفزِ لهذه القنواتِ في البحثِ عن شخصياتٍ شرعيةٍ بديلةٍ تقومُ
بدورٍ وظيفيٍّ معينٍ يكشفُ لنا عن معنًى إيجابيٍّ رائعٍ، وهو الأثرُ الكبيرُ
للأحكامِ الشرعيةِ في حياةِ المسلمين، وتعلقُهم بأحكامِ الحلالِ والحرامِ، وهو ما
وقفَ عقبةً تحولُ دونَ مشاريعِ الإفسادِ والانحرافِ، وقوَّى دورَ أهلِ العلمِ نظراً
لثقةِ الناسِ بهم في معرفةِ الحلالِ والحرامِ، فبسببِ إدراكِ مثلِ هذا المعنى نشأتِ
الحاجةُ للبحثِ عن برامجَ دينيةٍ بديلةٍ تتجاوزُ التأثيرَ العميقَ لأهلِ العلمِ
الذين يبينونَ الأحكامَ الشرعيةَ، وينكرون المنكراتِ، ويوضحون الدلائلَ، بخطابٍ
شرعيٍّ آخر يمكنُ توظيفُه وتطويعُه، فهذه الظاهرةُ السلبيةُ هي ردةُ فعلٍ على
الموقفِ الإيجابيِّ الشعبيِّ العميقِ في تعظيمِ الأحكامِ الشرعيةِ، واحترامِ أهلِ
العلمِ الذين يصدرون عنها.
إن من
يدركْ مثلَ هذا المعنى لن يثبطَه وجودُ هؤلاء المتحدثين ولو كثروا، بل سيكونَ
محفزاً لأهميةِ نشرِ العلمِ وبيانِ الأحكامِ وتصحيحِ التصوراتِ.
ثانياً:
هذا الخطابُ الشرعيُّ البديلُ يعتمدُ على عواملِ دعمٍ ماديةٍ وإعلاميةٍ كبيرةٍ، لا
يمكنُ تحصيلُها بسهولةٍ، وهي بلا شكٍ سببٌ رئيسٌ لانتشارِ مثلِ هذه البرامجِ وشيوعِ
تأثيرِ الشخصياتِ المستضافةِ فيها، غيرَ أنه لا يمكنُ ردُّ تأثيرِ مثلِ هذه
البرامجِ إلى هذه العواملِ الداعمةِ التي قد يعجزُ عنها أهلُ العلمِ والدعوةِ، بل
ثَمَّ عواملُ أخرى تسهمُ في إنجاحِ هذه البرامجِ تجبُ العنايةُ بها لأن ثمَّ
تقصيراً بيّناً فيها، ومن تلك العواملِ طبيعةُ الموضوعاتِ المعالَجةِ في هذه
البرامجِ، حيث تغطي مساحةً من القضايا التي تمسُ حاجاتِ الناسِ، وتشغلُ تفكيرَهم،
ويكثرُ الجدلُ فيها، وتتحدثُ بلغةٍ قريبةٍ لعمومِ الناسِ، ففي الجملةِ هو خطابٌ
يمتلكُ قدرةً على التأثيرِ، فساهمَ الإعلامُ والمالُ في توسيعِ انتشارِه، وهذا
يحتمُ على أهلِ العلمِ والدعوةِ ومقدمي الخطابِ العلميِّ والدعويِّ المعاصرِ ضرورةَ
تقويمِ البرامجِ العلميةِ والدعويةِ التي تقَدمُ لعمومِ الناسِ في الفضائياتِ
لقياسِ مدى ملامستِها لحاجاتِ الناسِ، وامتلاكِها للأدوات الفكريةِ الجيدةِ، وعمقِ
معالجتِها للقضايا، وهو موضوعٌ يتطلبُ مساحةً طويلةً من البحثِ والنقاشِ، وأيُّ
إجابةٍ هنا ستكونُ إجابةً عجلى لا تحققُ العلمَ والعدلَ الواجبَ، إنما ثمَّ قناعةٌ
بوجودِ قصورٍ معينٍ يسهمُ في إضعافِ التأثيرِ، وهذا الإدراكُ يحفزُنا لتطويرِ
وتجويدِ العملِ.
ثالثاً:
يبادرُ بعضُ الفضلاءِ حينَ يسمعُ بتأثرِ بعضِ الشبابِ والفتياتِ بمثلِ هذه
الشخصياتِ التي تُصَدَّرُ في الخطابِ البديلِ بتسديدِ اللومِ وتحميلِ التبعةِ على
المنهجِ التربويِّ والتعليميِّ والشرعيِّ الذي يقدَّمُ للناسِ، فيقولون: لمْ يحدثْ
مثل هذا التأثرِ إلا بسببِ خللٍ كبيرٍ في طريقةِ تعليمنا الشرعيِّ، ومنهجِنا
التربويِّ، بما سهلَ لأيِّ متحدثٍ أن يصلَ إلى عقولِ الناسِ فيغيرَ أفكارَ الكثيرِ
منهم.
ومع
إدراكِنا لأهميةِ التطويرِ لمناهجِ التعليمِ، وطرائقِ التدريسِ، وأساليبِ التربيةِ،
وأنَّ ثَمَّ حاجةً ملحةً للنقدِ والتقويمِ لها، إلا إن هذه الطريقةَ لا تنطلقُ من
نظرٍ صحيحٍ في سببِ المشكلةِ، فالإشكالُ الحقيقيُّ ليس بشكلٍ أساسيٍّ متعلقاً
بقصورٍ في منهجِ التعليمِ أو التربيةِ، وإنما سببُ ذلك هو أن هذه الشخصياتِ التي
تقدمُ الخطابَ الشرعيَّ البديلَ تتناولُ موضوعاتٍ شرعيةً تفصيليةً، فتتعرضُ لتضعيفِ
أحاديثَ تتطلبُ تخصصاً في معرفةِ علمِ الجرحِ والتعديلِ، أو تثيرُ شبهاتٍ حولَ جمعِ
القرآنِ، أو حجيةِ السنةِ، أو الإجماعِ، أو تذكرُ بعضَ الأحكامِ الفقهيةِ أو
النصوصِ التراثيةِ، التي هي من قبيلِ الشبهاتِ التي قُتلتْ بحثاً في كتبِ أهلِ
العلمِ، ويعرفُها الكثيرُ من طلبةِ العلمِ، غيرَ أن هذا التناولَ التفصيليَّ لا
يحسُنه عامةُ الناسِ، ولا يمكنُ أن تصلَ بعمومِ الناسِ إلى مستوى الإدراكِ
التفصيليِّ للشبهاتِ والردِ عليها، فأكثرُ الناسِ عندَهم معرفةٌ للحقِ، ودلائلِه في
الجملةِ، وأما الإدراكُ التفصيليُّ للأدلةِ، ومعرفةُ الأجوبةِ على الإشكالاتِ فيخفى
عليهم، ولا يجبُ عليهم ولا يذمون بسببِ عدمِ العلمِ به، فحين يأتي أيُّ متحدثٍ
فيخوضُ في هذه القضايا فإنهم لا يملكون عادةً الإجابةَ التفصيليةَ عنها، وليس سببَ
هذا قصورٌ في منهجِ التربيةِ أو التعليمِ، وإنما طبيعةُ هذه القضايا تتطلبُ تخصصاً
لا يملكونه.
إذنْ، من
أين يأتي الخللُ؟ وعلى من يكون اللومُ؟
اللومُ
يتجهُ إلى جانبين:
الأول: من
صدّرَ أمثالَ هؤلاءِ الناسِ في مثلِ هذه القنواتِ حتى يبثوا شبهاتِهم وشكوكَهم على
الجميعِ، إذ ارتكبَ غشاً للأمةِ، وخيانةً للأمانةِ، فالفضاءُ الإعلاميُّ يضعُ
المتحدثَ أمامَ جمهورٍ واسعٍ يسهلُ جداً أن يؤثرَ فيه بغضِ النظرِ عن مستوى علمِه
أو صحةِ منهجِه، فكلُّ صاحبِ فكرٍ مهما كان باطلاً، ومهما كان صاحبُه ضعيفاً، فإنه
سيؤثرُ في قطاعٍ كبيرٍ من الناسِ إذا فتحتْ له مثلُ هذه المنابرِ، وكلُّ من أعانَه
على ذلك فهو شريكُه في الإثمِ والغشِ والخيانةِ.
الثاني:
غيابُ المنهجِ العلميِّ الواجبِ في كيفيةِ تلقي العلمِ، إذ الواجبُ على عمومِ
الناسِ أن لا يصدروا في أحكامِهم إلا عن الثقاتِ من أهلِ العلمِ ممن يعرفون دينَهم
وعلمَهم، وأن لا يقبلوا من أيِّ متحدثٍ، فالفتيا دينٌ، وكما قالَ محمدُ بن سيرينَ:
«إن هذا العلمَ دينٌ فانظروا عمن تأخذون دينَكم»، هذا المنهجُ أيضاً يفرضُ على
المسلمِ الورعَ في الحديثِ عن الأحكامِ فلا يتكلمُ بلا علمٍ أو تثبتٍ، {وَلا
تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ }[الإسراء:
36]، فالكلامُ في دينِ اللهِ بلا علمٍ من الكبائرِ العظامِ، {قُلْ
إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ
وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْـحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ
بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}[الأعراف:
33].
حينَ
يتمسكُ المسلمُ بمثلِ هذا المنهجِ العلميِّ الموضوعيِّ الرصينِ فإنه سيكونُ محصناً
من أيِّ تأثيرٍ عبثيٍّ يُصَبُّ عليه، فلا تتلاعبُ به مثلُ هذه القنواتِ.
فالتأثيرُ
الموجودُ نابعٌ من تقصيرٍ وتفريطٍ عند بعضِ الناسِ أثمرَ لهم هذا، فما حدثَ لبعضِهم
من انحرافٍ عن الشريعةِ، وتغييرٍ في المفاهيمِ هو مما كسبتْ أيديهم، {فَلَمَّا
زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:
5]، فما كانَ هذا ليحدثَ لولا وجودُ التقصيرُ في العملِ بالمنهجِ الشرعيِّ الواجبِ،
إضافةً إلى التقصيرِ في تتبعِ مثلِ هذه القنواتِ وبرامجِها مع معرفةِ الشخصِ
لحالِها وفسادِها، وإذا أضفتَ لذلك ما قد يحملُه بعضُ الناسِ من أهواءٍ وميولٍ
تجنحُ بهم نحوَ الترخصِ والتساهلِ، مع إرعاءِ سمعِهم وبصرِهم للخطابِ الإعلاميِّ
المشوِّهِ لكلامِ أهلِ العلمِ ونصوصِ الشرعِ، وكلُّ هذا مما يجعلُهم عرضةً لتقبلِ
الأفكارِ المخالفةِ للشريعةِ.
رابعاً:
يعتمدُ الخطابُ الشرعيُّ البديلُّ عادةً على الشعاراتِ البراقةِ التي يستهوي بها
عقولَ الشبابِ والفتياتِ، فيوحي للمشاهدِ أنه خطابٌ عقلانيٌّ منفتحٌ محبٌ للحياةِ،
مجددٌ، يميلُ إلى الرخصةِ واليسرِ، وبطبيعةِ الحالِ إن هذا كلَّه في مقابلِ تشويهِ
الخطابِ الشرعيِّ بزعمِ كونِه متشدداً منغلقاً غير عقلانيِّ.
والقولُ
بأنها «شعاراتٌ» هو تسميةٌ واعيةٌ منا بطبيعةِ هذا الخطابِ، فهو يستغلُ الجاذبيةَ
الإعلاميةَ التسويقيةَ لمثلِ هذه المفاهيمِ في مدِّ تأثيرِه على الجيلِ الناشئِ،
وإلا فهو خطابٌ بعيدٌ عن العقلانيةِ والموضوعيةِ والعلميةِ، ولا يمتلكُ أسسَ
المنهجِ العلميِّ الموضوعيِّ الصحيحِ، ويعتمدُ على فوضويةٍ ظاهرةٍ في الفهمِ
والاستدلالِ والنقاشِ، لكنَّ إدراكَ مثلِ هذه التفصيلاتِ لا يَظهرُ عادةً لعمومِ
الناسِ، فيبقى في مخيلتِهم الصورةُ الشعاراتيةُ بما يسهمُ في تقويةِ تأثيرِ هذه
البرامجِ. وهذا يقتضي أهميةَ توضيحِ ثلاثةِ أمورٍ:
الأمرُ
الأولُ: ضرورةُ التعريةِ العلميةِ الموضوعيةِ لهذه الحالةِ الشعاراتيةِ حتى تنكشفَ
حقيقتُها، ويظهرَ بعدُها عن العقلِ والعلمِ والتجديدِ.
الأمرُ
الثاني: أهميةُ تحفيزِ الوعيِ الجمعيِّ عندَ الناسِ بأن لا ينخدعَ بمثلِ هذه
الشعاراتِ، وأن يستعليَ بعقلِه ووعيه أن يُتلاعَبَ به بمثلِ هذه الشعاراتِ.
الأمرُ
الثالثُ: ضرورةُ تجويدِ مستوى الخطابِ الشرعيِّ في هذه الملفاتِ التي يتاجرُ بها
أمثالُ هؤلاءِ، فالعقلانيةُ والتجديدُ والانفتاحُ تتطلبُ مستوًى فكريّاً متميزاً
قادراً على التعاطي معها، ولطالما استغلَ الخطابُ البديلُ بعضَ مشاهدِ القصورِ عند
بعضِ الفضلاءِ في تقديمِ صورةٍ نمطيةٍ قبيحةٍ عن أهلِ العلمِ في الموقفِ من
العقلانيةِ وغيرِها.
خامساً:
يجبُ أن لا نُغْرِقَ في التفصيلاتِ عن إدراكِ الصورةِ الكليةِ، فالدخولُ في جدلِ
المسائلِ التفصيليةِ التي يثيرُها الخطابُ البديلُ يسهمُ أحياناً في حجبِ الرؤيةِ
عن الصورةِ الكليةِ لهذا الخطابِ بما يسببُ تلبيساً على الناسِ، فالخطابُ البديلُ
له خصائصُ معينةٌ، ويعملُ في إطارٍ محددٍ، وله غايةٌ يسيرُ إليها، يجبُ أن لا تضيعَ
هذه الرؤيةُ في غبش التفصيلاتِ، فالمشكلةُ مع هذا الخطابِ ليستْ في ترجيحِ قولٍ، أو
مجردِ تضعيفِ حديثٍ، أو نقدِ كتابٍ أو عالمٍ، فمع ما في هذا كلِّه من إشكالاتٍ
علميةٍ ومنهجيةٍ إلا إن السياقَ الذي توضعُ فيه يكشفُ عن الخللِ بشكلٍ أكبرَ، وهو
شيءٌ يبدو مزعجاً جداً لذوي الخطابِ البديلِ، فهم يحرصون على تقديمِ أنفسِهم
كمجتهدين يتناولون مسائلَ شرعيةً بلغةٍ مختلفةٍ عن بعضِ المعاصرين، وهو ما يمكنُ أن
يتقبلَه من يغرقُ في التفصيلاتِ، وأما الذي يقرأُ المشهدَ بشكلٍ كليٍّ فستبدو له
الصورةُ بشكلٍ آخر، وأنه خطابٌ جديدٌ موجهٌ يدارُ بواسطةِ جهاتٍ لها مقاصدُ
معروفةٌ، فهو خطابٌ وظيفيٌّ يرادُ منه هدفٌ معينٌ في تحجيمِ الخطابِ الشرعيِّ
المعاصرِ، فيسكتُ عن بعض الأحكام، ويَتَقَحَّمُ بعضَها، ويثيرُ قضايا معينةً،
وينتقدُ مجالاتٍ، والرؤيةُ الكليةُ تكشفُ عن الأثرِ الوظيفيِّ في مسارِ هذه
الملفاتِ جميعاً.