• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
تدبير الاختلاف عند العلماء

تدبير الاختلاف عند العلماء

إن التربية المحمدية ركزت على المبادئ التي تخدم وحدة المسلمين وتدفع عنهم التفرقة والاختلاف المذموم، وقد بدا ذلك جلياً من خلال نصوص شرعية كثيرة[1]، منها أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رجلاً قرأ آية، وسمعت النبي يقرأ خلافها، فجئت به النبي فأخبرته، فعرفت في وجهه الكراهية، وقال: «كلاكما محسن، ولا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا»[2].

ولا شك أن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم تأثروا تأثراً بالغاً بتلك المبادئ، فجعلوها نبراسهم، وسار مسارهم التابعون وتابعو التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ومن أبرزهم الأئمة الأعلام أمثال مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم، بحيث لم يتعصبوا لآرائهم، ولم يثبت عن أحدهم أنه كفر مخالفيه أو انتقص من شأنهم لأنهم لم يروا ما رأى، وبذلك ساهموا رضي الله عنهم سنين طويلة في استقرار المجتمع المسلم، وإبعاده عن مغبة التناحر والتطاحن.

وهذه بعض آداب الاختلاف التي يمكن استنتاجها من بعض مواقفهم:

أـ أساس اختلافهم مصوغات مقبولة:

من المعروف لدينا أن الاختلاف بين الفقهاء نتج عن أسباب علمية محمودة، ولم ينتج عن أسباب سياسية أو مصلحية ممقوتة، وما نتج عن هاتين لا يعد فقهاً بل هو لغو وهراء ما أنزل الله به من سلطان.

وقد ألف علماء في موضوع الاختلاف الفقهي وأسبابه كتباً، أذكر منها:

ـ «الإنصاف في التنبيه على المعاني والأسباب التي أوجبت الاختلاف» لأبي محمد عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي المتوفى سنة 521هـ: الكتاب طبعته دار الفكر بتحقيق الدكتور محمد رضوان الداية. وتضمن ثمانية أبواب: تحدث فيها عن أسباب الخلاف الفقهي، فذكر أنه قد ينتج عن اشتراك الألفاظ واحتمالها لأكثر من معنى، أو بسبب عارض الحقيقة والمجاز، أو الإفراد والتركيب، أو العموم والخصوص، أو من جهة الرواية، أو من قبل الاجتهاد والقياس، أو النسخ، أو الإباحة.

ـ «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» لتقي الدين ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي المتوفى سنة 728هـ: طبعته الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض - المملكة العربية السعودية، سنة 1983م.

في هذا الكتاب يلتمس ابن تيمية للعلماء الأعذار في الاختلاف، إذ اعتبر قول أحدهم المخالف للحديث ناتجاً عن ثلاثة أمور:

أحدها: عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله.

الثاني: عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول.

الثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ[3].

ودعا رحمه الله تعالى إلى موالاتهم بعد موالاة الله تعالى ورسوله، خصوصاً أن العلماء ورثة الأنبياء، وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم[4].

ـ «الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف» لأحمد بن عبد الرحيم المعروف بالشاه ولي الله الدهلوي المتوفى سنة 1176هـ: طبعته دار النفائس ببيروت، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، تضمن خمسة أبواب: ذكر في بعضها أسباب الخلاف بين المذاهب الفقهية، وبين أهل الرواية وأصحاب الرأي.

ب ـ اعتبار آرائهم مذهباً فقهياً غير لازم لكل الأمة:

إن العلماء مهما بلغت قدراتهم العلمية لم يكن أحدهم يعتبر نفسه مجتهد الأمة، بل اعتبروا اجتهاداتهم حقاً يرونه وفهماً خاصاً لكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ليس من الواجب إلزام الناس به، وهذا أمر يتضح بشكل جلي من خلال مواقفهم.

فهذا الإمام مالك على جلالة علمه، ومعرفته بحديث المدنيين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلمه بالفتوى، يرفض اقتراح المنصور أن تنسخ كتبه وتوزع على كل الأمصار، ثم يؤمر الناس بالعمل بما فيها ولا يتجاوزونه إلى غيره، قال رضي الله عنه في رده على المنصور: «يا أمير المؤمنين لا تفعل هذا فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، وأتوا به من اختلاف الناس، فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم»[5].

علق محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي على جواب مالك بقوله: «فانظر اتساع مالك، ترك للناس حريتهم، ولم يجعل للسياسة دخلًا في كتابه، فأقبلوا عليه باختيارهم»[6].

وعلق طه جابر العلواني بقوله: «فأي رجل هذا الإمام الجليل الذي يأبى أن يحمل الناس على الكتاب الذي أودع فيه أحسن ما سمع من السنة، وأقوى ما حفظ وأدرك من العلم الذي لا اختلاف فيه عند أهل المدينة وذلك الحشد من علماء عصره»[7].

ج ـ دماثة أخلاقهم وتأدبهم مع مخالفيهم:

الشواهد على ذلك كثيرة يصعب حصرها، ولعل من أفضل وأحسن مثال على أدب الاختلاف، الرسالة الرائعة التي بعث بها الليث بن سعد إلى الإمام مالك، يعرض عليه فيها وجهة نظره في أدب جم رفيع حول كثير مما كان يذهب إليه الإمام مالك ويخالفه فيه.

وهذا بعض ما جاء فيها:

بدأ الليث هذه الرسالة بالسلام، وحمد الله تعالى، ثم سأل الله العافية، وحسن الباقية في الدنيا والآخرة، وعبر عن سروره لصلاح حال مالك والمسلمين بالمدينة.

وفي شأن اختلافه مع الإمام مالك وما يراه أهل المدينة، قال رحمه الله بأدب وحسن خلق: «بلغك أني أفتي بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندكم، وأني يحق علي الخوف على نفسي لاعتماد من قبلي على ما أفتيتهم به، وأن الناس تبع لأهل المدينة التي إليها كانت الهجرة وبها نزل القرآن، وقد أصبت بالذي كتب به من ذلك إن شاء الله تعالى، ووقع مني بالموقع الذي تحب، وما أجد أحداً ينسب إليه العلم أكره لشواذ الفتيا ولا أشد تفضيلاً لعلماء أهل المدينة الذين مضوا ولا آخذ لفتياهم فيما اتفقوا عليه مني والحمد لله رب العالمين لا شريك له.

وأما ما ذكرت من مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ونزول القرآن بها عليه بين ظهري أصحابه وما علمهم الله منه وأن الناس صاروا به تبعاً لهم فيه فكما ذكرت، وأما ما ذكرت من قول الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْـمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 100} [التوبة: 100]، فإن كثيراً من أولئك السابقين الأولين خرجوا إلى الجهاد في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله فجندوا الأجناد واجتمع إليهم الناس فأظهروا بين ظهرانيهم كتاب الله وسنة نبيه ولم يكتموهم شيئاً علموه»[8].

أما المسائل التي ناقشه فيها بأدب رفيع فمنها:

ـ «الجمع بين الصلاتين ليلة المطر»: لم يجمع الصحابة في الشام بين الصلاتين في المطر، وفيهم أبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ومعاذ بن جبل.

ـ «القضاء بشهادة شاهد ويمين صاحب الحق»: لم يقض به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشام وحمص ومصر والعراق، ولم يكتب به إليهم الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وكذلك عمر بن عبد العزيز كان يقضي في المدينة بشاهد ويمين، ثم غير رأيه لما علم أن الصحابة في الأمصار الأخرى يقضون بغير ذلك[9].

ـ «الزوجة متى شاءت أَخْذ مؤخر صداقها دفع لها»: قضى بذلك أهل المدينة ووافقهم أهل الشام والعراق ومصر، لكن لم يقض أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من بعدهم لامرأة بصداقها المؤخر إلا أن يفرق بينهما موت أو طلاق فتقوم على حقها.

وختم رسالته بهذا الكلام الطيب الرائع: «وأنا أحب توفيق الله إياك وطول بقائك؛ لما أرجو للناس في ذلك من المنفعة، وما أخاف من الضيعة إذا ذهب مثلك مع استئناسي بمكانك، وإن نأت الدار، فهذه منزلتك عندي ورأيي فيك فاستيقنه، ولا تترك الكتاب إلي بخبرك وحالك وحال ولدك وأهلك وحاجة إن كانت لك أو لأحد يوصل بك، فإني أسر بذلك، كتبت إليك ونحن صالحون معافون والحمد لله، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم شكر ما أولانا وتمام ما أنعم به علينا، والسلام عليك ورحمة الله»[10].

د ـ اعترافهم بفضل أهل العلم المخالفين لهم:

من الأخطاء التي شاعت في فترات التخلف العلمي واستمرت إلى زماننا هذا أنه بمجرد أن يصدر عن العالم خطأ ما يُحكم عليه بالجهل والفساد، وربما ما اعتبر خطأ لا يكون كذلك، بل قد يكون فتوى مؤسسة على قواعد، لكن قصور فهم الكثيرين بسبب ضحالة المستوى العلمي يجعلهم يسارعون إلى تخطئة غيرهم.

هذه السلوكات لم تكن معروفة في القرون الخيرة، وفي فترات الازدهار العلمي للأمة، حيث كان العلماء في هذه الفترات لا ينتقصون من شأن مخالفيهم، بل يبجلونهم ويعترفون بمكانتهم العلمية، ومن الأمثلة على ذلك:

ـ بين الإمام مالك والإمام أبي حنيفة رحمهما الله تعالى اختلاف كبير لكن هذا لم يمنع أن يجل أحدهما الآخر ويعترف بعالميته، قال الليث بن سعد: لقيت مالكاً في المدينة، فقلت له: إني أراك تمسح العرق عن جبينك، قال: عرقت مع أبي حنيفة، إنه لفقيه يا مصري. قال الليث: ثم لقيت أبا حنيفة، وقلت له: ما أحسن قول هذا الرجل فيك (أي الإمام مالك)، فقال أبو حنيفة: ما رأيت أسرع منه بجواب صادق، ونقد تام»[11].

ـ وقال محمد بن الحسن في حق الإمام الشافعي رحمهما الله تعالى: «إن كان أحد يخالفنا فيثبت خلافه علينا فالشافعي، فقيل له: فلم؟ قال: لبيانه وتثبته في السؤال والجواب والاستماع»[12].

و ـ نبذ ذكر مخالفيهم بسوء ودفاعهم عنهم:

لقد حرص هؤلاء الفضلاء على أن تكون مجالسهم مجالس خير، ولذلك فمن حاول تجاوز الآداب التي تجب مراعاتها مع أئمة هذه الأمة رد إلى الصواب، وحيل بينه وبين مس أحد بما يكره.

فهذا ابن المبارك رحمه الله تعالى كان يثني على أبي حنيفة، وكان يأخذ من قوله، ولا يسمح لأحد أن ينال منه في مسجده، وفي يوم حاول بعض جلسائه أن يغمز أبا حنيفة، فقال له: «اسكت، والله لو رأيت أبا حنيفة لرأيت عقلاً ونبلاً»[13].

وهذا الإمام أحمد لما بلغه قول يحيى بن معين لابنه صالح: «أما يستحيي أبوك مما يفعل؟ ... رأيته مع الشافعي والشافعي راكب، وهو راجل آخذ بزمام دابته». قال رحمه الله: «إن لقيته فقل: يقول لك أبي: إذا أردت أن تتفقه فتعالى فخذ بركابه من الجانب الآخر»[14].

ز ـ أخذ ما استحسنوه من مخالفيهم:

كان قصد علمائنا الأفاضل من الاجتهاد والفتوى بلوغ مراد الله تعالى، ولذلك إذا من الله تعالى على أحدهم بفهم حسن لا يترددون في قبوله والإفتاء به، وهذا إن دل على شيء فيدل على بعدهم عن العصبية الممقوتة، وقبولهم الحق أنى وجدوه.

فالإمام أحمد كان يقول: «إذا سئلت في مسألة لا أعرف فيها خبراً قلت فيها: يقول الشافعي، لأنه إمام عالم من قريش»[15].

والإمام الشافعي نفسه يستعين بالإمام أحمد في رواية الحديث، قال لأحمد يوماً: «أما أنتم فأعلم بالحديث والرجال مني، فإذا كان الحديث صحيحاً فأعلموني إن يكن كوفياً أو بصرياً أو شامياً، أذهب إليه إذا كان صحيحاً»[16].

هذه إذن بعض آداب الاختلاف عند علمائنا الربانيين، والتي تدل على كونهم مفخرة في حسن الخلق وتدبير الاختلاف، ذلك أنهم استوعبوا جيداً أن الخلاف المذموم المنطلق من التعصب والهوى والأنانية والمصالح الخاصة لا تكون عواقبه إلا كارثية على المجتمع المسلم، فتجنبوه حتى لا يتحملوا مسؤولية تشتت المجتمع وتشرذمه. فرضي الله عنهم وجعلنا خير خلف لخير سلف.

:: مجلة البيان العدد  345 جمادى الأولى  1437هـ، فـبـرايـر  2016م.


[1] ذكر الشيخ يوسف القرضاوي منها عدداً في كتابه الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم، دار الصحوة، ط4، ص27.

[2] صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار، رقم: 3476، ص:4/ 175.

[3] رفع الملام لابن تيمية، ص9.

[4] المصدر السابق، ص8.

[5] الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء لابن عبد البر، دار الكتب العلمية، ص41.

[6] الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي للحجوي الثعالبي، دار الكتب العلمية، ط1، ص1/ 407.

[7] أدب الاختلاف في الإسلام، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ص118.

[8]  إعلام الموقعين لابن قيم الجوزية، دار الكتب العلمية، ط1، ص3/70.

[9] المصدر السابق: 3/71.

[10] المصدر السابق: 3/72ـ 73.

[11] ترتيب المدارك للقاضي عياض، مطبعة فضالة، الطبعة الأولى، ص1/152.

[12] الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء لابن عبد البر، ص89.

[13] المصدر السابق، ص133.

[14] المصدر السابق، ص75.

[15] المبدع في شرح المقنع لبرهان الدين بن مفلح، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، ص8/ 168.

[16] الانتقاء لابن عبد البر، ص75.

googleplayappstore

أعلى