( أحطت بما لم تحط به )
ليس خافيًا على القارئ الكريم ما أوتيه نبي الله سليمان بن داود من الملك العظيم ودعائمه، فقد بيَّن الله تعالى في كتابه شيئًا من ذلك، فقال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْـجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ 12 يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْـجَوابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ} [سبأ: 12، 13]، وهذا الملك إنما هو دعوته عليه السلام التي استجابها الله له: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ 35فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ 36 وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ 37 وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ 38 هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ 39 وَإنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 35 - 40].
وفي تفسيره لقوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّـمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْـمُبِينُ 16 وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْـجِنِّ وَالإنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل: 16، 17] قال الشوكاني: «{وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ} كل شيء تدعو إليه الحاجة كالعلم والنبوة والحكمة والمال وتسخير الجن والإنس والطير والرياح والوحش والدواب وكل ما بين السماء والأرض»[1].
وقال ابن كثير: «وكان يَعرف لغة الطير والحيوان أيضًا، وهذا شيء لم يُعطَه أحد من البشر - فيما علمناه - مما أخبر الله به ورسوله. ولهذا قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّـمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 16] أي: مما يحتاج إليه الملك. {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْـجِنِّ وَالإنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل: 17] يعني: ركب فيهم في أُبَّهة وعَظَمة كبيرة في الإنس، وكانوا هم الذين يلونه، والجن وهم بعدهم في المنزلة، والطير ومنزلتها فوق رأسه، فإنْ كان حرٌّ أظلته منه بأجنحتها»[2].
غاب أحد هؤلاء الجنود، ولم يكن موجودًا حين طلبه نبي الله سليمان، إنه الجندي الهدهد. قال ابن عباس: «كان الهدهد مهندسًا، يدلُّ سليمان على الماء، إذا كان بأرض فلاة طلبه فنظر له الماء في تخوم الأرض، كما يرى الإنسانُ الشيءَ الظاهر على وجه الأرض، ويعرف كم مساحة بُعدِه من وجه الأرض، فإذا دلهم عليه أمر سليمان عليه السلام الجانَّ فحفروا له ذلك المكان، حتى يستنبط الماء من قراره، فنزل سليمان عليه السلام يومًا بفلاة من الأرض، فتفقد الطير ليرى الهدهد فلم يره، فقال: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ 20 لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ 21} [النمل: 20، 21]»[3].
لم يلبث الهدهد كثيرًا، فقد جاء بعد غياب يسير: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ 22 إنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ 23 وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ 24 أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْـخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ 25 اللَّهُ لا إلَهَ إلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ 25 قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ 27 اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ 28} [النمل: ٢٢ - ٨٢].
المبادرات الفردية:
أبرز دروس قصة الهدهد التي قصها الله تعالى في كتابه هو «روح المسؤولية الفردية»، التي ينبغي أن يتحلى بها الفرد في الوقت الذي ينتمي فيه إلى جماعة دعوية، تلك الروح التي يشعر فيها الفرد - وهو ضمن جماعة - أنَّ عليه مسؤولية كبيرة في تحقيق أهداف الجماعة وفكرتها، مهما كان موقعه في هذه الجماعة، ومهما كان حجمه فيها، ومهما كانت وظائفه المنوطة به فيها.
وإذا كان القرآن قد قصَّ علينا بعض مبادرات الأقوياء في مملكة سليمان كما في قوله تعالى: {قَالَ يَا أَيُّهَا الْـمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ 38 قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الْـجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ 39 قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 38 - 40] فإننا الآن بصدد مبادرة لم تصدر من كائن قوي، كالجن والإنس والوحوش والسباع، بل نحن بصدد مبادرة صادرة من كائن ضعيف، من طير ضعيف، من الهدهد.
إن مبادرات الأفراد تنمُّ عن حجم الاهتمام وروح المسؤولية، وليست مرتبطة بالقدرة والعجز، ولا بالقوة والضعف. وأعجب من ذلك أنها لا ترتبط بالتخصص ومجال الوظيفة، فالهدهد كان يعمل في استكشاف مواقع المياه، ولم يكن من مهامه شؤون الممالك، ولذلك فقده سليمان عليه السلام في وقتٍ كان ينبغي أن يكون موجودًا فيه، لكنه يحمل همَّ الفكرة وهي الدعوة إلى التوحيد، تلك الفكرة التي سخَّر لها سليمان عليه السلام كل مملكته، برغم التخصصات المتنوعة داخل هذه المنظومة.
ولك أنْ تتخيل مؤسسةً دعويةً يحمل مجموعُ أفرادها همَّ الفكرة والأهداف - وليس بالضرورة كل فرد فيها - كيف ستكون هذه المؤسسة في تحقيق أهدافها؟ وكم هو الزمن الذي تحتاجه لإنجاز المشاريع والأعمال؟
هدهدٌ كان سببًا في دخول مملكة كاملة وعظيمة في دين الله!
هل تعلم - أيها القارئ الكريم - ماذا تعني مملكة سبأ؟
قال قتادة: «كان أولو مشورة الملكة ثلاثمائة واثني عشر رجلًا، كلُّ رجلٍ منهم على عشرة آلاف رجل»[4]. غير ما وصفه الهدهد بقوله: {إنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23].
إننا بحاجة إلى الروح الهدهدية في نفوس العاملين والأعضاء، فكم ستختصر المسافات والأوقات في تحقيق الأهداف وبلوغ الطموحات، وكم سيفتح الله بها نوافذ وآفاقًا جديدة للعمل.
عن أبي سعيد الخدري قال: «جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يومًا نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله. فقال: (اجتمِعنَ في يوم كذا وكذا، في مكان كذا وكذا). فاجتمَعنَ، فأتاهنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمهنَّ مما علمه الله»[5]. قال ابن حجر عن المرأة التي بادرت بهذا المقترح: «لم أقف على اسمها، ويحتمل أن تكون هي أسماء بنت يزيد بن السكن»[6].. تأمَّل هذه المبادرة الصادرة من امرأة لم تُعرَف على وجه الحقيقة عند أهل الحديث من تكون! كيف استطاعت أنْ تفتح نافذة جديدة ومهمة في التعليم الشرعي، ونفع الله بهذه المبادرة فتعلمت النساء من رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة وباهتمام خاص بهن.
وفي معركة اليمامة، وهي معركة الإسلام الكبرى في حروب الردَّة، وحينما تحصن أهل اليمامة في حديقة الموت، وقد صعب على المسلمين اقتحامها.. حينها لمعت فكرةٌ في رأس البراء بن مالك رضي الله عنه فقال لأصحابه: «يا معشر المسلمين! ألقوني عليهم في الحديقة» فاحتملوه فوق الجُحُف [وهي التروس] ورفعوها بالرماح، حتى ألقوه عليهم من فوق سورها، فلم يزل يقاتلهم دون بابها حتى فتحه، ودخل المسلمون الحديقة من حيطانها وأبوابها، يقتلون من فيها من المرتدة من أهل اليمامة، حتى خلصوا إلى مسيلمة لعنه الله[7].. فكرة البراء بن مالك رضي الله عنه هذه لم تصدر من توجيهات القيادة، وليست هي أمرًا متفقًا عليه من قبل، وإنما وجد البراء بن مالك رضي الله عنه في نفسه قدرة على إحداث عمل يفتح الله به على المسلمين؛ ففعل ذلك، ففتح الله بفعله هذا على المسلمين حديقة الموت، ثم حصل الظفر.
الجندية والإبداع:
إحدى أكبر الإشكاليات التي يعاني منها العمل الإسلامي هي وجود تعارض في ذهن الفرد بين الجندية والإبداع، أو قُلْ: بين الروح الجماعية وبين الروح الابتكارية، أو قُلْ: بين العمل الصحيح لتحقيق الأهداف (الكفاءة) والمبادرة المقترحة لتحويل مسار الإجراءات والأنشطة.. سمها ما شئت!
ومفاد هذه الإشكالية هو أنَّ الانتماء إلى مجموعةِ عملٍ ما يعني الالتزام الحرفي بالخطط الإجرائية والتوجيهات الإدارية بنسبةٍ مئويةٍ كاملة، وأنَّ الاجتهاد الشخصي الخارج عن خط التوجيه وجداول التخطيط خطأ يضرُّ بمنظومة العمل وأهدافها ويؤشر إلى النزعة الفردية ذات الأهداف الخاصة.
هذه الإشكالية الذهنية حوَّلت الكثيرين من الأفراد إلى مجرَّد آلاتٍ تعمل وفق ما يُرسَم لها من خطط ونشاطات من قِبَل الإدارات فقط، ولم تسمح لهم بالإبداع ولا بالابتكار، فأصبحوا مرتهنين للخطط الإجرائية، مرتهنين لتوجيه القيادة، مرتهنين للمناخ السائد.
الإبداع والخروج عن المألوف والابتكار أمورٌ قد يتطلبها واقع العمل في مؤسسات الدعوة، لظروفٍ تدعو إلى ذلك، ربما لما يستحدث من شرائح جديدة من المستهدفين والمستفيدين، أو ربما لتغيُّرٍ ثقافي طرأ على المستهدفين والمستفيدين، أو ربما للتحولات الاجتماعية والاقتصادية الناشئة في المجتمع المحيط.. المسببات أكثر من أن تحصر والمهم هنا هو الحاجة في ظرف ما إلى الابتكار والإبداع وإلى تفجير الطاقة الفردية. فإذا كان الأفراد (الجنود) يعتقدون أنهم غير مطالبين بتغيير طرائق التفكير، وغير مطالبين بإيجاد منافذ جديدة لتحقيق الغايات الكبرى، بناء على أن القيادات هي المسؤولة عن هذا النوع من التفكير وأنها هي المسؤولة عن رسم خريطة العمل لكل فرد، وأن محاولات الأفراد الإبداعية إنما هي قفز إلى مقر القيادة ومحاولة للتمرد على المنظومة.. إذا كان الأفراد يعتقدون ذلك فهذا خلل في البناء التربوي لديهم، وتشوُّه في مفاهيم العمل والحركة، فالقرآن الكريم يربي المسلم على أن يكون إيجابيًّا مبادرًا متحملًا للمسؤولية حتى وهو في جماعة ونظام وتحت قيادة.
السلبية من أشد الأمراض التي تعاني منها مؤسسات الدعوة: أن يظل العاملون - وهم في عنفوان شبابهم وزهرة أعمارهم - تتخدَّد أيديهم في انتظار التوجيهات العليا من قيادات المؤسسة.
لقد كانت الجندية تحت قيادة محمد صلى الله عليه وسلم تستنفر كل الطاقات الفردية، وتحفز الإبداع والتفكير لدى الأفراد، بغضِّ النظر عن مواقعهم. قال ابن إسحاق: «حُدثت عن رجال من بني سلمة، أنهم ذكروا أن الحباب بن المنذر بن الجموح قال: يا رسول الله! أرأيت هذا المنزل، أمنزلًا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال صلى الله عليه وسلم: (بل هو الرأي والحرب والمكيدة) فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل. فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله، ثم نغوِّر ما وراءه من القُلُب، ثم نبني عليه حوضًا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لقد أشرت بالرأي). فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس، فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقُلب فغورت، وبنى حوضًا على القليب الذي نزل عليه...»[8]. هذا الحباب بن المنذر، إنه ليس من وزراء النبي صلى الله عليه وسلم ولا هو من العشرة المبشرين، ولا هو من سادات المهاجرين.. ليس شرطًا أن يكون لديه مؤهلٌ لإبداء رأي أو انتقاد خطة أو اقتراح فكرة. لم يستدلَّ أحدٌ بهذا الاقتراح على خروجه من المنظومة، أو تمرده على السلطة، برغم صراحة الفكرة: «فإن هذا ليس بمنزل. فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم».
إن العاملين في مؤسسات الدعوة ينبغي أن يتشربوا هذا المفهوم، وأن يفكوا الارتباط الذهني بين الجندية والجمود، وأن يدركوا أن الإبداع لا يعني التمرد، وأنَّ الانتماء مؤهل كافٍ للإبداع والابتكار والمبادرات المتفردة.
القيادة ومساحات الحرية:
في واقع الأمر إنَّ هذه الإشكالية ليست على مستوى الأفراد في مؤسسات الدعوة، بل طالت شريحةً من الإدارات والقيادات لم تتمكن من استيعاب مفهوم «الإبداع لا يعني التمرد»، فهي لا تحب تحويل مسارات العمل، وتكره الابتكار، وتقاوم التجديد.
ثمة أسباب تجعل هذه القيادات ترفض فكرة التجديد والتحويل، ولا تقبل مبادرات الأفراد، لعلَّ منها الخوف من تغيير النمط السلوكي لهذه القيادات في مؤسسات الدعوة، حيث أَلِفت نمطًا معينًا وعادات محددة، وأصبح لديها أشبه ما يكون بالعلاقة العاطفية مع جو المؤسسة يجعلها تناضل دون تغييره، ولربما أصبحت تستلذ بهذا الواقع، وتجد فيه أُنسها وراحتها النفسية؛ فالتغيير في هذه الظروف هو انتكاسة بالنسبة إليها.
ومن الأسباب أيضًا تأثير الفكر الصوفي المتغلغل في أعماق المجتمعات الإسلامية، والذي يغرس في النفوسِ السلبيةَ المقيتة في نفوس الأفراد تجاه المشايخ، ويرفع من شأنها، ويحث على التنصل من المسؤوليات لتصبح في مجموعها منوطة بشخصية القائد (الشيخ)، ويعتنق الجبر في مسألة القدر، ولسان حاله يقول:
دع المقادير تجري في أعنتها
ولا تبيتنَّ إلا خاليَ البال
ومن سلبيات الفكر الصوفي أن يجعلك تصنف الإخفاقات في قائمة المصائب، بينما لا يوجد شيء لديه اسمه المعائب.
ومن الأسباب كذلك: الارتباط الذهني بين مبادرات الأفراد والتمرد على السلطة، فالفرد حين يحاول التغيير، وحين يبادر بمنأى عن القيادة - في نظر هؤلاء - فهو خارج عن عباءة الجماعة، متفرِّد التفكير، تنقصه الروح الجماعية كما تنقصه الروح الجندية.
من أهم الأمور التي ينبغي أن تؤمن بها قيادات المؤسسات الدعوية: أهمية توفير هامش لحرية الأفراد ضمن الإطار العام للمؤسسة.. هذه المساحة من الحرية هي التي تظهر من خلالها شخصية الفرد فيصبح له كيان واختيار داخل منظومة العمل، وهي التي من خلالها تُصقَل مواهبه، وهي التي من خلالها تُعالَج إشكالاته التربوية والعملية، وهي التي من خلالها يقوم بدوره الحقيقي في تطوير العمل والمؤسسة.
وحين تُضيِّق القيادات من مساحات الحرية هذه فإن الكبت الذي يطال الأفراد سيجعلهم يتسللون لواذًا تاركين مؤسساتهم، وسيورث شيئًا من النقمة على هذه المؤسسات التي لا تعترف بشخصية الفرد.. ثم تتفاجأ المؤسسات فإذا هي لم يبقَ فيها سوى الأفراد الضعفاء، الذين لا يستطيعون التقدم بالمؤسسة في طريق النجاح.
أمَّا إنْ عجزت القيادة.. لا أقول: عن توفير هامش الحرية للأفراد، بل إنْ عجزت عن استيعاب طاقاتهم وقدراتهم وطموحاتهم فعليها أنْ تغضَّ الطرف عما لم تستطع إليه سبيلًا من عملٍ فردي، في أقل الأحوال. والحكمة تقتضي تشجيع هذه الطاقات وتحفيزها واحتواءها، والرضا بها، والشعور بأنها تتم في المسار الطبيعي لا المسار الشاذ المتفرد.
إنَّ وجود هذا النوع من الأفراد يقتضي أنْ تتعامل معه - كقائد - من منظورين: كونه واقعًا وكونه فرصة. أيها القائد! اجعل من تفرُّد الطاقات نوافذ جديدة في مسارات العمل؛ تأمَّل قول سليمان عليه السلام: {قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ 27 اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل: 27، 28]، لم يغلق سليمان عليه السلام ملف المبادرة المتفردة والإبداعية والتي هي ليست من تخصص الهدهد، لم يفعل ذلك! فهذه المبادرة ربما تفتح أفقًا جديدًا في العمل، وربما يكون هذا المسار الجديد الذي جاء به هدهد ضعيف أفضل من بعض مسارات العمل المألوفة والمتفق عليها بين القيادات.. ربما يختصر المسافات إذا استُثمِر بشكل جيد.
القيادات الواعية بمنأى عن الاستبداد، قادرة على توسيع قاعدة العمل، قادرة على تحميل الجميع المسؤولية الحقيقية عن العمل.. في هذه الحال سيكون جميع الأفراد مسؤولين عن المؤسسة، لا فرق بينهم وبين القيادات والإدارات والمستشارين، وفي الوقت ذاته سيكونون قادرين على تحمل تبعات هذه المسؤولية، إنهم نعم العون على تحقيق الأهداف، وهم الأقدر على النهوض بهذه المؤسسة. تأمَّل الدوافع التي جعلت الهدهد يطير المسافات الطويلة ويراقب الممالك العظيمة وهو مشغول البال بنشر التوحيد مهموم بالقضاء على الشرك!
وفي مجلسٍ لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن هو معهم حينها، وهم بعد في مكة في حال من الضعف، طُرح هذا السؤال: والله ما سمعت قريشٌ هذا القرآن يُجهَر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه؟ فقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أنا. قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلًا له عشيرة يمنعونه من القوم إنْ أرادوه. قال: دعوني، فإنَّ الله سيمنعني. فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى، وقريشٌ في أنديتها، حتى قام عند المقام ثم قرأ سورة الرحمن. فقالت قريش: إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد. فقاموا إليه، فجعلوا يضربونه في وجهه، ثم انصرف إلى أصحابه، فقالوا: هذا الذي خشينا عليك. فقال: ما كان أعداء الله أهون عليَّ منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غدًا. قالوا: لا، حسبك، قد أسمعتهم ما يكرهون[9].
في الواقع لم يكن ابن مسعود رضي الله عنه ذا عشيرة تمنعه في مكة؛ فهو هذلي، كما كان ضعيف الجسم، ولكنه فرد يرى مسؤوليته تجاه نصرة الإسلام ورفع حالة الضعف والاستسرار التي كان الجميع يعيشها، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يثرب على هذه المبادرة التي لم تكن ضمن توجيهاته، ويتيح المجال أمام الجميع لعمل ما يمكن عمله لتحقيق ذلك الهدف، وهو رفع حالة الضعف والاستسرار، إلا الخطوط الحمراء التي تعتبر كارثة على أهل الدعوة، مثل التوجيه بكف اليد عن مقابلة الأذى، ونحوه مما يعتبر تعديًا صارخًا للإستراتيجيات الكبرى.
الاستبداد الدعوي والمستقبل:
في قوله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ 20 لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [النمل: 20، 21] ما يشير إلى التعامل مع الأفراد، من تفقدهم ومحاسبتهم والحزم في الحفاظ على انتظام الأمور، لكن الحوار الذي جرى بين سليمان والهدهد يشير إلى هامش الحرية المطلوبة، وتقييم القيادة لها تقييمًا موضوعيًّا غير قابل للانطباعات: {قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ 27 اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ 28} [النمل: 27، 28]. هذه أركان التعامل مع المبادرين المتفردين: وسطٌ بين طرفي نقيض، فلا الكبت وإغلاق الملفات، ولا التسييب والفوضى، إنما هي الحقائق والمعلومات، والمبررات والتفسيرات، والتجربة العملية تصدق ذلك أو تكذِّبه، ومن خلالها يتم الحكم على المبادرات.
إن سياسة الأبواب الموصدة والنوافذ المغلقة استبدادٌ وسيكون له من الآثار السلبية المستقبلية على الأفراد والمؤسسات ما يجعلها في مصاف الضعفاء.
فمن آثار هذه السياسة: تحويل الأفراد الأقوياء أصحاب المبادرات والمشاريع من نقطة قوة لصالح المؤسسة إلى مصدر تهديد عليها، ذلك أن هؤلاء الأفراد لا تقوى نفوسهم على البقاء في مؤسسات لا تعترف بقدراتهم، وسيضطرون للخروج منها مكرهين، وهذا بحد ذاته أمر ملفت للانتباه والملاحظة، وفي وقتٍ ما ستجد المؤسسة أنه لم يتبق لها سوى الضعفاء وغير القادرين.
ومن الآثار كذلك وهو أشد خطرًا: تنشئة الأجيال القادمة في التربية والعمل على سنَّة الجمود الفكري والحركة الآلية ذات التحكم والسيطرة، تمامًا كما هو الحال عند الطرق الصوفية. ولا يتكشف خطر هذا الأثر إلا حين تنزل النوازل في المجتمع وتطرق المستجداتُ أبواب العصر، فلا يستطيعون إيجاد فقهٍ للتعامل معها. ونحن اليوم نعيش بطئًا شديدًا في معالجة النوازل والمستجدات والتعامل معها، وما هذا إلا نتيجة طبيعية لتربية لا تستوعب - أحيانًا - الطاقات الفردية والنزعات المتفردة، وتعتمد بشكل كامل على التوجيه الإداري.
وحين تقرأ سيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، وكيف استطاعوا مواكبة المتغيرات الناشئة عن تقدم الزمان، والناشئة عن فتح الأمصار المختلفة في حضاراتها، وما يتبعه من تعايش مع أمم أخرى وملل مخالفة، وما يتبعه من تعايش مع أنماط مختلفة من الثقافات والحضارات والأعراق، مع الحفاظ على الإستراتيجيات الكبرى ووحدة الأهداف وهوية الدعوة.. حين تقرأ كل ذلك يجللك الانبهار بالتربية النبوية التي صنعت من كل فردٍ مسؤولًا عن العمل لهذا الدين.
الطاقات الفذة في المؤسسات:
مؤسسات اليوم تحمل بين أروقتها طاقات فذَّة ذات طموح وتطلعات، طاقات قادرة وهاجة، تنظر إلى المؤسسة التي تنتمي إليها بعين الاهتمام وتعيش أهدافها بروح المسؤولية، طاقات شابة واعدة ذات دم حار وفكر عصري وقاد، تعيش زمن الانفتاح ولديها خبرة جيدة في التعامل معه، ومعالجة مشكلاته، ومعرفة ثغراته ومواضع الفرص فيه، في مجتمع جديد له ثقافته وطرائقه ونماذجه.
هذه الطاقات الفذَّة لا تستطيع أن تبقى مكتوفة الأيدي أمام واقعها وتحدياته، وأمام مؤسساتها وأهدافها، وهي في الوقت نفسه لديها المقومات الكافية لأن تقول لقيادتها بأدبٍ وحكمة: أحطتُ بما لم تحطْ به! ستدَّعي - وحق لها - أنَّ لديها ما ليس لدى قياداتها من العلم والرأي والتجربة الجديدة، وستطالب بإتاحة الفرصة لها ودعمها والوقوف معها لتثبت نجاح تجربتها الإبداعية الجديدة، والتي لم تخرج عن إطار التنظيم. قال البغوي في قوله تعالى: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ}: «الإحاطة العلم بالشيء من جميع جهاته. يقول: علمتُ ما لم تعْلم، وبلغتُ ما لم تبلغْه أنت ولا جنودك»[10]، وقال ابن جرير: «لأن سليمان كان لا يرى أنَّ في الأرض أحدًا له مملكة معه، وكان مع ذلك صلى الله عليه وسلم رجلًا حُبِّب إليه الجهاد والغزو، فلما دله الهدهد على ملك بموضع من الأرض هو لغيره، وقوم كفرة يعبدون غير الله، له في جهادهم وغزوهم الأجر الجزيل، والثواب العظيم في الآجل، وضمّ مملكته لغيره إلى ملكه، حقت للهدهد المعذرة، وصحَّت له الحجة في مغيبه عن سليمان»[11].
ولئن كنا نطالب الأفراد بأن يتحلَّوا بهذه الروح الهدهدية، فإننا نطالب القيادات أيضًا بأنْ يتحلَّوا بالروح السليمانية المتيحة للخروج عن النص دون تسييب، والتي تحاسب وتعاقب وفي الوقت ذاته تنظر للمبررات بعين الاهتمام، وتقيِّم المبادرات بموضوعية، وتدعم التجارب الجديدة والأفكار الخلاقة في سبيل الارتقاء بالعمل.
إن التفرد والإبداع لم يجعلا سليمان عليه السلام يحكم على الهدهد بالتمرد، وكذلك ينبغي للقيادات. والقيادة الفذَّة هي القادرة على احتواء ودعم وتوجيه الطاقات الفذَّة، أما القيادة الضعيفة فإنها تعتبر القيادة الفذة مصدر ريبة وقلق، وستحاول أنْ تروضها، وتحشرها في عباءتها، وإلا فلا مناص من الإبعاد! وهذا خلاف التربية القرآنية، وخلاف التربية النبوية.
لقد حافظ القرآن الكريم على القيمة المعرفية لتفوق الهدهد على سليمان في جانب محددٍ حين قال: «أحطتُ بما لم تحط به». للتدليل على إمكانية تكرر تفوق الفرد على القيادة في جانب ما، وأنه لا يعيب القيادة بأي حال؛ إنما يعيبها إنكار هذا التفوق أو التعامل معه بصفته نمطًا تمرديًّا لا يليق بإطار المؤسسة. وللتدليل أيضًا على وجوب استثمار التفوقات الموجودة في ثنايا التنظيم، والتي من خلالها يرتقي هذا التنظيم. وتأمل كيف أن سليمان عليه السلام يتجه بجنوده من الطير والإنس والجن في دعم مبادرة الهدهد، ذلك الطائر الصغير الضعيف.
وأول إجراء يمكن اتخاذه للاستفادة من هذه التربية القرآنية تجاه الطاقات الفذَّة والمبادرات المتفردة هو تربية الأجيال على المحاولة والإبداع والابتكار وتحمل مسؤولية الانتماء وتنمية أنماط التفكير.. تربية حقيقية، وليست فقط شعارات مجردة من الواقع العملي والأنشطة المصاحبة، تربية تحمل المؤسسات على احتواء الأفكار الجديدة والتجارب غير المألوفة والصبر على ما يترتب عليها من أخطاء.
إنها رسالة إلى الشباب والعاملين: لا يفوقنكم هدهد ضعيف، ورسالة أخرى إلى القيادات: احموا مؤسساتكم من تسرب الطاقات.
:: مجلة البيان العدد 344 ربـيـع الثاني 1437هـ، يـنـايــر 2016م.
[1] فتح القدير 4/160.
[2] تفسير ابن كثير 6/182.
[3] تفسير ابن كثير 6/185.
[4] تفسير ابن كثير 6/187.
[5] البخاري 4/366 كتاب الاعتصام بالسنة، باب تعليم النبي أمته من الرجال والنساء مما علمه الله ليس برأي ولا تمثيل، ح7310، ومسلم 4/2028 كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه، ح 2633.
[6] فتح الباري 13/306.
[7] البداية والنهاية 6/318، سير أعلام النبلاء 1/196.
[8] السيرة النبوية لابن هشام 2/232.
[9] انظر السيرة النبوية لابن هشام 1/351.
[10] معالم التنزيل 3/394.
[11] تفسير الطبري 11/148.