الـتــديــن الـمـغـشــوش
المقصود بالتدين المغشوش أو التدين المصلحي هو الذي لا يتقيد بالمقاصد الشرعية التي أُنزلت لأجلها الكتب وأرسلت الرسل المتمثلة في عبادة الباري سبحانه، والعمل لأجل الفوز بالمقام العالي في يوم المعاد، وتوظيف النصوص الشرعية في تحقيق العبودية الكاملة لله تعالى، والنأي عن مواطن الشبه واستخدام الدين سلمًا لقطف الدنايا من حطام الدنيا.
فالتدين المغشوش هو الذي يقدم المصلحة الدنيوية على المصلحة الأخروية، والمصلحة الشخصية والجهوية على المصلحة العامة من غير مبرر شرعي، وهو الذي يصلح ظاهره لأجل الناس ويقبح باطنه، وهو التدين الذي يبدو صاحبه قديسًا أو «ملاكًا» أمام الخلق، ويصبح «إبليسًا» لعينًا أمام الخالق.
وصاحب التدين الكاذب لا يقر له قرار، وليس له حد يقف عنده، فالمحرك الرئيس له هو مصلحته الخاصة، فدرجة تدينه تزداد أو تنقص كلما غلا أو رخص هدفه المنشود، وشعاره الدائم هو «حيثما كانت مصلحتي فثم ديني».
فصاحب التدين المغشوش لا يعدم حيلة في تزيين عمله، وتجميل صنيعه، فتراه تذرف عيناه في مجالس العلم والوعظ، وتبدو أضراسه في مجالس اللهو، تجده مناصرًا للظلمة أو مؤازرًا للمظلومين، لأنه مستعد لتوظيف الدين والعلم لكل المتناقضات ما دام يصب ذلك في مصلحته، ولهذا فحين سُئل شميط بن عجلان رحمه الله: هل يبكي المنافق؟ قال: «يبكي من رأسه، أما من قلبه فلا!».
فالمنافقون في زمن النبوة كانوا يلجؤون إلى التدين المغشوش لمآرب في أنفسهم، وقد أظهرت عوراتـهم الآيات القرآنية: {إذَا جَاءَكَ الْـمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْـمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ 1 اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ 2 ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: ١ - ٣]، كما فصلت أخبارهم وأوصافهم وفضحت أخلاقهم سورة التوبة التي سماها بعض العلماء السورة الفاضحة.
وأصحاب التدين الشكلي لا يرون أي غضاضة في التهام أموال غيرهم باسم التدين والتزهد، وفي الذكر الحكيم: {إنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34]، وهذا النوع من الناس آفة في الدين والدنيا معًا، وفيهم يقول الشاعر:
وهل أفسد الدين إلا الملوك
وأحبار سوء ورهبانها
فباعوا النفوس ولم يربحوا
ولم تغل في البيع أثمانها
ولا يستحيي أصحاب التدين المغشوش من الاعتراض أو توجيه التهم إلى أهل العفة والنزاهة ولو كانوا أنبياء - عليهم السلام -، فهذا الخارجي وأبو الخوارج ذو الخويصرة التميمي يعترض على قسمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في غنائم حنين ويطالبه بالعدل - وهو العادل -، فلا يزيد الحبيب صلى الله عليه وسلم بأن قال: «رحم الله موسى فقد أوذي أكثر من ذلك فصبر».
والغريب أن صاحب التدين الكاذب قد يعرض نفسه للمهالك، وعلمه للنشر، وماله للإنفاق؛ مع سوء الطوية، ويكون أول من تُسعر بهم جهنم يوم القيامة، فـعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال قاتلت فيك حتى استشهدت، قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جرئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل ثم أمر به، فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار»، وفي الترمذي في هذا الحديث: ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال: «يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة».
وتظهر آثار الأعمال الصالحة من صلاة وصيام وصدقة أصحاب التدين المغشوش فيحملون أطنانًا من الحسنات، ولكن تختفي وراء ذلك جبال من الموبقات والسيئات، فلم تكن الطاعات تحجزهم عن ركوب الخطايا، فهم أولياء فيما يظهر للناس، وظلمة فيما يختفي من أعمالهم، ومصداق ذلك قول المعصوم صلى الله عليه وسلم: «المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاته وزكاته وصيامه، وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه من الخطايا أخذ من خطاياهم فطرح عليه، ثم طرح في النار».
وصاحب التدين الكاذب يدعو ويحث الناس على فعل الخير واجتناب المحرم، ولكن لا يُخضِع نفسه لهذا القانون، كأن شعاره «خذ علمي ولا تأخذ عملي»، ومصداق ذلك قول الحبيب المعصوم صلى الله عليه وسلم: «يُجاء بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه، فيقولون: أي فلان ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه».
ولا يتورع صاحب التدين المغشوش في القول على الله بغير حق ما دام هذا المسلك يدر عليه بالنفع الدنيوي، يقول ابن القيم في مثل هؤلاء القوم: «كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها، فلابد أن يقول على الله غير الحق في فتواه وحكمه، في خبره وإلزامه، لأن أحكام الرب - سبحانه - كثيرًا ما تأتي على خلاف أغراض الناس، ولاسيما أهل الرئاسة، والذين يتبعون الشبهات، فإنهم لا تتم لهم أغراضهم إلا بمخالفة الحق ودفعه كثيرًا، فإذا كان العالم والحاكم محبين للرئاسة، متبعين للشهوات، لم يتم لهم ذلك إلا بدفع ما يضاده من الحق، ولاسيما إذا قامت له شبهة، فتتفق الشبهة والشهوة، ويثور الهوى، فيخفى الصواب، وينطمس وجه الحق، وإن كان الحق ظاهرًا لا خفاء به، ولا شبهة فيه أقدم على مخالفته، وقال: لي مخرج بالتوبة» (الفوائد: ص١٤٥).
وصاحب التدين المغشوش قد يقوم ببناء مسجد أو مدرسة أو مرفق حيوي، ولكن مراده ليس وجه الله تعالى واليوم الآخر، بل له شأن وأمر آخر، وقد قَصَّ علينا القران الكريم خبر أبي عامر الفاسق وتظاهره بالتدين الكاذب وقيامه ببناء مسجد للضعفاء وأبناء السبيل، بحسب زعمه، وهدفه الحقيقي هو الكيد والمكر للدعوة، ففضح الله تعالى أمره وسمى ما بناه مسجد الضرار، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْـمُؤْمِنِينَ وَإرْصَادًا لِّـمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إنْ أَرَدْنَا إلَّا الْـحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 107]، ثم قال تعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّـمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْـمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108].
ولقد عاب عدد غير قليل من علماء الإسلام أمثال هؤلاء الحمقى الذين يوظفون دينهم لأجل اللقمة ويسترزقون به، حتى إن الحاكم روى في تاريخه عن ربيعة الرأي أنه قال للإمام مالك: يا مالك من السفلة؟ قال: «قلت من أكل بدينه»، فقال لي: ومن أسفل السفلة؟ قلت: «من أصلح دنيا غيره بفساد دينه».
فأصحاب التدين المغشوش موجودون في كل زمان ومكان، ويطلون رؤوسهم أو يختفون ويتوارون عن الأنظار بحسب مصالحهم، ويجيدون التلوُّن والتقمصَّ بقوالب مختلفة ومتنوعة، فهم آفة الأمم، وسبب الانتكاسة والهزائم التي تعاني منها أمة الإسلام في الأزمنة المتأخرة.
فالواجب على كل شخص أن يتقي الله تعالى وأن يكون هدفه ورأس ماله الحقيقي إخلاص العبادة لله تعالى وأن يكون شعاره: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِـحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
وفقني الله تعالى وإياكم لما فيه صلاح ديننا ودنيانا.
:: مجلة البيان العدد 344 ربـيـع الثاني 1437هـ، يـنـايــر 2016م.