انتفاضة القدس.. العجز يعري القيادة الصهيونية
شيئًا فشيئًا تكتشف دوائر صنع القرار في تل أبيب أن انتفاضة القدس قد عمقت أزمة خطابها السياسي ومنطلقاتها الأيدلوجية وخطها الدعائي، لدرجة أن النخب الفكرية والبحثية والإعلامية الصهيونية باتت تطرح الكثير من التساؤلات حول مسوغات تمتع اليمين الحاكم بالشعبية برغم أن أيدلوجيته سقطت في اختبار المواجهة مع المقاومة الفلسطينية، كما يعكس ذلك فشله في مواجهة الانتفاضة. لقد مست انتفاضة القدس أحد أكثر الأعصاب حساسية في البناء الفكري لليمين الصهيوني الحاكم، والمتمثل في الطرح القائل بأن الاحتفاظ بالأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة يمثل ضمانة لتحقيق الأمن وأن التخلي عنها يفضي إلى انكشاف «الأمن القومي».
وقد دللت الوقائع منذ اندلاع الانتفاضة على أن هذا الزعم يستند إلى أسس واهية تمامًا، حيث تبين بالدليل القاطع أن الإصرار على التمسك بالأرض المحتلة لم يفضِ إلا إلى تدهور مستوى الشعور بالأمن الشخصي للصهاينة. وهذا ما دفع المفكر الصهيوني «آرييه شافيت» للجزم بأن أحداث انتفاضة القدس تمثل أكبر تحدٍ لخطاب اليمين الصهيوني ومنطلقاته الأيدلوجية لأنها كشفت لرجل الشارع الصهيوني فداحة الثمن الذي يتوجب عليه أن يدفعه من أجل الحفاظ على المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية. ويلفت شافيت إلى أن ما فاقم الأمور سوءًا حقيقة أن الفلسطينيين خلال انتفاضة القدس تمكنوا من تجاوز آليات العمل الناجعة التي كان يستخدمها جهاز المخابرات الداخلية في الكيان الصهيوني «الشاباك» في مواجهة حركات المقاومة الفلسطينية، على اعتبار أن جميع منفذي العمليات لا ينتمون لتنظيمات ويعملون بمبادرة فردية، مما شكل تحديًا كبيرًا للجهاز، وقلص من قدرته على إحباطها. وفي الحقيقة، فقد تفاقم الإحباط في الأوساط الشعبية ودوائر النخبة الصهيونية، على اعتبار أن قادة المستوى السياسي الحاكم والمؤسسة الأمنية في تل أبيب باتوا عاجزين عن طمأنة الصهاينة ولم يعودوا واثقين من إمكانية تقديم التزام بوضع حد لهذه الانتفاضة. ومما زاد من حدة الحرج الصهيوني أن اندلاع انتفاضة القدس ترافق مع ما يوصف بحالة «انعدام اليقين الإقليمية»، والتي تعبر عنها التحولات في المنطقة، والتي برغم أن مظاهرها الحالية لا توحي بتحديات كبيرة للكيان الصهيوني إلا أن تل أبيب تفترض أن مآلات هذه التحولات لن تصب لصالحه في النهاية، سواء في سوريا أو في مصر. من هنا لم يتردد رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الأسبق «أهارون زئيفي» (فركش) في القول بأن موجة عمليات المقاومة التي تجتاح الضفة الغربية والقدس المحتلة وفلسطين 48 باتت تمثل أكبر تحدٍ أمني تعرض له الكيان الصهيوني منذ العام 1948م. وينتقد «فركش» الخفة التي يتعامل بها القادة الصهاينة مع أحداث الانتفاضة، حيث يحذر من أن حرص رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو على الحفاظ على الوضع القائم على اعتبار أنه «أقل الخيارات سوءًا» سيفضي إلى نتائج كارثية. وبرغم أنه لا يوجد ما يؤشر على أن القيادة الصهيونية ستعيد تقييم سياساتها لإدراكها أن أية إعادة تقييم ستبرز التناقضات في خطابها ولن تخدمها في النهاية انتخابيًّا وسياسيًّا، إلا أن هذا السلوك يمثل وصفة لتفاقم أزمة خطاب اليمين الصهيوني وسيفضي إلى انكشافه أمام حقائق الواقع القاسية. ونظرًا لإدراك هذه الحقائق، فقد عمدت بعض النخب اليمينية الحاكمة إلى محاولة إقناع الرأي العام الصهيوني بأن هجمات باريس تدلل على «صوابية» مواقف اليمين الصهيوني لاسيما رفضه الانسحاب من الأراضي الفلسطينية. وقد أخذ وزير التعليم «نفتالي»، الذي يتزعم حزب «البيت اليهودي» المتدين، يحاجج بأن المدن الصهيونية ستتعرض للهجمات نفسها التي تعرضت لها باريس في حال وافق الكيان الصهيوني على الانسحاب من الضفة الغربية وسمح بإقامة دولة فلسطينية، متعهدًا بألا يسمح بالانسحاب «حتى من سنتيمتر واحد من الضفة» ولن يكون شريكًا في أية حكومة توافق على قيام دولة فلسطينية. وبحسب منطق بنات، فإن من يريد تجنب مصير باريس فعليه «الصبر والاستعداد للتضحية» وعدم استخلاص استنتاجات تفضي للانسحاب من الأراضي المحتلة. ومن الواضح أن مثل محاججة بنات هذه لا تصمد في اختبار التاريخ، إذ إنه في ظل وجود الاحتلال تمكن المقاومون الفلسطينيون من الوصول للعمق الصهيوني، إلا أن بنات وغيره من قادة اليمين يحاولون صد الانتقادات التي توجه لهم. لكن هناك في تل أبيب من يحاول تقليص فرص تبرم الرأي العام الصهيوني من مظاهر الفشل من خلال تصوير انتفاضة القدس وكأنها «جزء من برنامج عمل يهدف إلى تدشين دولة الخلافة الإسلامية»، كما يزعم وزير الخارجية السابق «أفيغدور ليبرمان». ومن الواضح أن هذا الجدل يهدف إلى محاولة بناء قواسم مشتركة مع أوربا من أجل إضفاء شرعية على المشروع الاستيطاني من ناحية، ومن ناحية ثانية يهدف إلى التغطية على المأزق الصهيوني. ونظرًا لأن الساسة الصهاينة لا تعنيهم الحقائق فقد فوجئوا عندما تبين لهم أن محاولة استغلال هجمات باريس لم يكن لها تأثير كبير على وتيرة عمليات المقاومة، حيث دللت هذه العمليات على أن الصهاينة هم آخر من يصلح لإلقاء الدروس على الفرنسيين والأوربيين، ما داموا عاجزين عن تأمين المستوطنات ومستوطنيهم في مواجهة فتيان يحملون السكاكين.
لكن مما لا شك فيه أن أكثر ما أصاب النخبة الصهيونية الحاكمة بالإحراج تمثل في أن المعطيات الرسمية تدلل على أن المقاومة الفلسطينية، لاسيما في ظل انتفاضة القدس، أسهمت إلى حد كبير في فشل المشروع الاستيطاني ذاته. فبحسب معطيات حركة «السلام الآن» الصهيونية التي اطلعت عليها «البيان» تبين أنه قد طرأ انخفاض بنسبة ٣٪ على عدد المستوطنين اليهود، حيث إنهم باتوا يشكلون 12% في الضفة الغربية، بينما يشكل الفلسطينيون 88%، وهذه معطيات تعكس الفشل المدوي للمشروع الاستيطاني الصهيوني في الضفة الغربية. ومما لا شك فيه أن المقاومة الفلسطينية لعبت دورًا أساسيًّا في دفع المشروع الاستيطاني الصهيوني إلى الفشل. في الوقت ذاته، بات في حكم المؤكد أن الإجراءات الأمنية الصهيونية أصبحت عاجزة عن وقف التدهور في مستويات الشعور بالأمن الشخصي لدى الصهاينة، وهو ما بات يشكل إحراجًا للقيادة في تل أبيب. فقدرة الصهاينة على التمتع بالخدمات التي يقدمها الكيان باتت محدودة بسبب الخوف والفزع من عمليات المقاومة. فقد كشفت صحيفة «ميكور ريشون» النقاب عن أن حالة الهلع التي أصابت المستوطنين اليهود الذين يقطنون القدس الشرقية ومحيطها قد أفضت إلى انخفاض كبير في عدد المرضى الذين يتوجهون لمستشفى «هداسا» أكبر المستشفيات الصهيونية في القدس المحتلة. ونقلت الصحيفة عن إطباء كبار في المستشفى استهجانهم من خوف اليهود من زيارة المستشفى برغم أنهم يعيشون في وسط فيه الكثير من الفلسطينيين، حيث نشرت الصحيفة صورًا تظهر فيه أقسام استقبال المرضى وهي شبه فارغة في الأوقات التي كان يتوجب أن تكون ساعات ذروة. ونظرًا لإدراك القيادة الصهيونية عمق مظاهر تدهور مستوى الشعور بالأمن الشخصي، فقد عمدت القيادة إلى استثمار إمكانيات ضخمة من أجل طمأنة المستوطنين ومحاولة تحسين شعورهم بالأمن. وفي هذا السياق عرضت قيادة جيش الاحتلال على نتنياهو خطة لتأمين الشوارع الرئيسية التي يستخدمها المستوطنون في الضفة الغربية بشكل خاص، حيث تتضمن الخطة زرع كاميرات واستخدام طائرات بدون طيار وتوظيف شبكات تقنية تعتمد على نظام الطاقة الشمسية في المراقبة والرصد على الشوارع لتقديم إنذارات سريعة عن محاولات الفلسطينيين تنفيذ عمليات طعن أو دهس أو نصب كمائن مسلحة. وإلى جانب الكلفة المادية الباهظة التي يتطلبها توفير هذه التقنيات، فإن «أودي سيغل»، معلق الشؤون السياسية في قناة التلفزة الصهيونية الثانية، كشف عن أن الافتراض السائد لدى المستوى السياسي والنخب الأمنية في تل أبيب يقول إن «الأسوأ لم يأتِ بعد»، بمعنى أنهم يتوقعون تعاظم مظاهر المقاومة في هذه الانتفاضة.
قصارى القول، إن انتفاضة القدس تفضح عجز الكيان الصهيوني وتعمق أزمته البنيوية والأيدلوجية والسياسية وتمس بتماسكه الاجتماعي، وهي تقدم تصورًا حول المآلات البائسة التي سينتهي إليها هذا الكيان في حال تمت مواجهته بمشروع نهضة عربي أو إسلامي شامل.
:: مجلة البيان العدد 343 ربـيـع الأول 1437هـ، ديسمبر 2015م.