• - الموافق2025/08/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
شيخوخة  الأمم المتحدة

مرت الأزمان، وطوَّر الغرب المسيحي نظامًا دوليًّا أكثر إحكامًا لإعادة استغفال المسلمين، والسيطرة عليهم، سُمِّي بـ«النظام الدولي»، وتجلَّى في «عُصْبة الأمم» التي أُنْشِئَتْ في أعقاب الحرب العالمية الأولى عقب مؤتمر باريس للسلام عام 1919م، الذي أنهى الحرب الع


أصرَّ المَلِك أبو عبد الله الصغير آخر ملوك الأندلس المسلمين على أن يُوقِّع البابا، الاتفاقية التي أبرَمها مَلِك غرناطة الأخير مع ملكي قشتالة وأرغون، فرناندو وإيزابيلا، لتسليم غرناطة؛ ظنًّا منه أن ذلك سيمنح الاتفاقية ضمانة من أعلى سلطة كاثوليكية في العالم، ولم يُخيِّب المَلِكَان ظنّه، فحظيت الاتفاقية بموافقة البابا، ووقَّع نيابةً عنه، الكردينال الأبرز دسبينا، ورؤساء الهيئات الدينية، الدوقات والمركيزون والكونتات والرؤساء. وذُيِّلت المعاهدة، بنبذة خلاصتها، أن مَلِكَي قشتالة يؤكدان ويضمنان بدينهما وشرفهما الملكي، القيام بكلّ ما يحتويه هذا العهد من النصوص، ويُوقِّعانه باسميهما ويمهرانه بخاتميهما، وعليها تاريخ تحريرها، وهو يوم ٢٥ نوفمبر سنة ١٤٩١م.

كان ذلك كلّ ما يمكن لـ«الصغير» آخر ملوك الأندلس المسلمين، أن يفعله لمنح اتفاقية استسلامه الحمقاء صفتي «الدولية» والضمانة «الدينية» اللتين كانتا تتوفران للبابا وكرادلته؛ فقد كانت الاتفاقية «تضمن» للمسلمين حريتهم الدينية المظنونة، وسلامة أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، وحرية حركتهم، وكل ما يطمع مستسلم أن يطلبه من غالب.

لكنَّ هذا الغطاء الدولي والديني سرعان ما تحوَّل لغطاء لشرعنة نقض كل هذا، وأوله قَسَم إيزابيلا، وحفيدها، شارلكان، فكلاهما طلبا من البابا أن يُحِلَّهما من قَسَميهما، فأحلَّهُمَا؛ بحجة أن المسلمين يُمثِّلون خطرًا عن الدين المسيحي، ووجودهم سيؤدي حتمًا لشيوع الكفر! ثم تمدَّد دور البابا ليمنح صكوكًا دولية للبرتغاليين والإسبان ما يتعدى خط الطول 100 غربًا، ما لم يكن بها دول «مسيحية»!

مرت الأزمان، وطوَّر الغرب المسيحي نظامًا دوليًّا أكثر إحكامًا لإعادة استغفال المسلمين، والسيطرة عليهم، سُمِّي بـ«النظام الدولي»، وتجلَّى في «عُصْبة الأمم» التي أُنْشِئَتْ في أعقاب الحرب العالمية الأولى عقب مؤتمر باريس للسلام عام 1919م، الذي أنهى الحرب العالمية الأولى، وانتهى أمرها عام 1935م قبل الحرب العالمية الثانية، بعد أن وصل عدد أعضائها 58 دولة، التي تمخضت عنها منظمة الأمم المتحدة التي تأسست عام 1945م، أي في نهاية الحرب العالمية الثانية.

كان تأسيس المنظمتين هو أكبر دلالة على غروب شمس الحضارة الإسلامية التي هَيْمَنت على جغرافيا واسعة من العالم لقرون طويلة، فَارِضَةً بل مُؤسِّسَةً لنظامٍ دوليٍّ، رسَم ملامح العلاقات الدولية، وأوجَدَ لها قِيَمًا وقواعد وأصولًا تسير عليها؛ إذ كان القانون الدولي يُوضَع في الباب العالي (بالسلطنة العثمانية)، ثم تسري قواعده وفق قاعدة قانون المنتصر، إلى أوروبا وآسيا وإفريقيا، فعرف العالم قواعد الدبلوماسية والسفارات، وقوانين البحار الدولية، وما إلى ذلك من القواعد الحضارية الناظمة للتعامل بين الدول بطرق تبدو متحضرة، وإن خُولِفَتْ من هنا أو هناك.

ومِن قَبْل العثمانيين، كان المماليك قد وضعوا نظامهم البحري والتجاري الدولي المميز، ونظَّموا أعمال التجارة عبر القنصليات، واستضافوا التجار من دول البحر المتوسط، وألزموا أوروبا بالتخلّي عن بعض هَمَجيتها وقرصنتها حتى حين، ولا يُنْسَى ما للرُّوّاد الأوائل منذ عهد الخلفاء الراشدين إلى الدولة الأموية إلى العباسية في تأهيل العالم للتعامل وفق قواعد، ولو تحت طائلة الإذعان للأقوى (المسلم).

ثم «خسر العالم بانحطاط المسلمين» على حد تعبير العلامة أبي الحسن الندوي -رحمه الله- في كتابه الأثير، وأُسِّس لنظام دولي ظالم، في كلّ ملامحه، نجَم عنه منظمة الأمم المتحدة، التي بلغت اليوم من العُمُر أرذله، وهي تدخل عقدها التاسع، وقد أصابها الوَهَن والصَّمَم، كالشاعر العباسي عَوف بن مُحـلِّـم الخُزاعي، الذي قال ذات يوم، لعبد الله بن طاهر بن الحسين:

إن الثمانين -وَبُلِّـغْـتُهَا-

قد أحوجتْ سمعي إلى ترجُمان

تأسست عصبة الأمم، ومن بعدها الأمم المتحدة، لفَرْض نظام ظالم استبدادي على العالم، تضع قواعده الدول المنتصرة في الحربين العالميتين، كلّ في منظمته وحربه، لتضمن سيادة وهيمنة ونفوذًا مستمرًّا على العالم.

أجهزة الأمم المتحدة وأدوارها

تتكوَّن المنظمة الدولية التي تأسست في العام 1945م، وانبثقت عنها لاحقًا كثير من الأجهزة، ثم المنظمات والصناديق والبرامج، من:

1-الجمعية العامة:

تضم حاليًّا 193 دولة، وتتخذ قراراتها الخاصة بهيكلها وتمويلها ونحوها بأغلبية ثلثي الأعضاء، وسائر قراراتها الأخرى بالأغلبية البسيطة، ولا تتمتع الجمعية بقدرة عالية على تنفيذ قراراتها إلا من خلال مجلس الأمن، الذي يختزل القدرة على اتخاذ قرار هؤلاء في خمسة فقط من الأعضاء.

2-مجلس الأمن:

المُعلَن عنه أنه المسؤول عن «الأمن والسلام الدوليين»، ولديه الصلاحية لإصدار قرارات بتوقيع عقوبات على الدول المخالفة لنظام الأمن الدولي، وفي حالات أخرى يُتيح تنفيذ قراراته بالقوة.

3-محكمة العدل الدولية:

هي الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة. ويتمثل دور المحكمة في تسوية المنازعات القانونية التي تعرضها عليها الدول، وفقًا للقانون الدولي، ولا يحق للأفراد التحاكم إليها، وإنما الدول المُوقِّعَة على النظام الأساسي للمحكمة، في حالات معينة يتقاضى فيها طرفان أمام المحكمة أو تُقدّم دولة مُوقِّعَة دعوى من خلالها أو عبر اتفاق مسبق يُتيح للمحكمة الفصل بين المتخاصمين.

وبخلاف ذلك؛ فإن الأجهزة المتبقية هي: الرئاسة، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي، مجلس الوصاية (تجمَّد عمله منذ عام 1994م)، والأمانة العامة.

أما المنظمات والوكالات والبرامج التابعة للأمم المتحدة، فهي:

1- الوكالات المتخصصة: هي منظمات دولية مستقلة تعمل مع الأمم المتحدة بموجب اتفاقيات شراكة رسمية. ومن بين هذه الوكالات: الوكالات التشاركية مع الأمم المتحدة: وهي منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، ومنظمة الصحة العالمية (WHO)، ومنظمة التعليم والعلوم والثقافة (UNESCO)، ومنظمة العمل الدولية (ILO)، ومنظمة حماية الطفل (UNICEF).

2- البرامج التابعة للأمم المتحدة: برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR)، وبرنامج الأمم المتحدة المشترك لمكافحة الإيدز (UNAIDS)، وبرنامج الغذاء العالمي (WFP)، وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP).

3- لصناديق التابعة للأمم المتحدة: صندوق الأمم المتحدة للسكان (الصحة الإنجابية وتنظيم الأسرة) (UNFPA)، إلى غير ذلك.

ولا شك أن هذا التنوُّع والتشعُّب للمنظمة الدولية يجعلها لا تخلو من أعمال إيجابية، لكنَّ ما يطغى عليها في الواقع هو ما يَضُرّ العالم -وفي قلبه العالم الإسلامي-، ولا ينفعه إلا بالنزر القليل.

ثمانون عامًا من النجاح والفشل

منذ تأسست المنظمة في العام 1945م، وحتى العام 2025م، قامت المنظمة بدَوْرها الأساسي الذي أُنْشِئَتْ من أجله، وهو ضمان هيمنة الدول الخمس الأعضاء في مجلس الأمن (الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين)، وخصوصًا الغرب الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، على سائر دول العالم، وشَرْعَنَة ما تقوم به «الدول الكبرى» من جرائم متنوّعة، أبرزها: مصادرة حقوق الشعوب في تملك إرادتها وحكم نفسها بنفسها في أصعدة السياسة والاقتصاد والمجتمع والقانون.

وقد نجحت الأمم المتحدة عبر آلياتها المتعددة في تقييد أيدي المسلمين عن نَيْل حقوقهم والدفاع عنها بطرق مختلفة، يكاد يمكننا أن نضرب لها أمثلة لكثرة شواهد الضيم الذي حلَّ بالمسلمين جراء سياساتها المختلفة، بما تتيحه هذه السطور:

1- تُعدّ المنظمة الدولية وَفِيَّة للأغراض التي أُنْشِئَتْ من أجلها، فأصل ميثاق الأمم المتحدة يعود إلى ميثاق الأطلسي، المُوقَّع في أغسطس 1941م، والذي أعلن بموجبه فرانكلين دي روزفلت، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، ووينستون تشرشل، رئيس وزراء المملكة المتحدة، عن «مبادئ مشتركة محددة في السياسات الوطنية لبلديهما، التي يبنيان عليها آمالهما في مستقبل أفضل للعالم».

وأشارت هذه الوثيقة، في فقرتها الثامنة، إلى «إنشاء نظام أوسع ودائم للأمن العام» في المستقبل. وقد كان، مائلًا في قراراته إلى دولتي التأسيس، والاستضافة، والتمويل. وقد وُضِعَ نظام الأمم المتحدة ليخدم الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية؛ إذ جُردت الجمعية العامة للأمم المتحدة من أيّ سلطة يمكنها أن تنتهك بها سيادة الدول إلا عن طريق مجلس الأمن الدولي، الذي وضع قراراته في قبضة 5 دول فقط، تقودها الولايات المتحدة الأمريكية، ما أوجَدَ أكبر نظام ديكتاتوري في العالم، وهو نظام مجلس الأمن الدولي، الذي يُتيح التدخل في شؤون جميع الدول عسكريًّا إذا ما وافق هؤلاء الخمسة، ويَحُول دون أيّ تدخُّل ترفضه أيّ دولة منهم، من دون دول العالم كله، بما فيها من كتل سكانية كبيرة كالهند وإندونيسيا والبرازيل ونيجيريا، ونحوها.

2- ترتب على هذا النظام الظالم، ألَّا يَصْدُر أيّ قرار «فعَّال» ضد مصالح الولايات المتحدة بدرجة أولى، والدول الأربع التي تملك كلّ منها أيضًا حق النقض (الفيتو)، على أيّ قرار لا يتَّسق مع سياسات تلك الدول، وكذلك؛ فإنه يمكنهم إصدار أيّ قرار ضد أيّ دولة عضو في الأمم المتحدة، ولو كانت غالبية الدول تؤيد هذه الدولة المظلومة.

وعليه؛ فإن الأمم المتحدة قد أصدرت قرارات ضد «إسرائيل»، لكنها كانت خالية من أيّ جدوى، كما أن قرارات مجلس الأمن التي صدرت ضدها كلها كانت بتلك الصيغ التالية: «يدعو إلى انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها خلال حرب 67»، «يدين محاولة إسرائيل ضمّ القدس الشرقية»، «يؤكد أن إنشاء المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة ليس له أيّ شرعية قانونية»، «يطالب بوقف إطلاق النار في غزة، وفتح ممرات إنسانية عاجلة»، «يدعم مقترح وقف إطلاق النار في غزة» (قرارات مجلس الأمن أرقام: 242 و478 و2334 و2712 و2735)، وهي قرارات مائعة رغم صدورها من مجلس يمكنه أن يفرض قراراته على «إسرائيل» بالقوة، طبقًا لما يُتيحه البند السابع من القانون الأساسي له. وهي قرارات -كما ترون- بالآلاف، وكلها جوفاء إلا ما فُرض قهرًا على الدول الإسلامية.

3- في مقابل القرارات الجوفاء، ثمة قرارات مُلزمة بالقوة ضد المسلمين، ومنها: حظر السلاح على تصدير السلاح إلى أطراف الصراع في البوسنة والهرسك (وهو قرار كان يعلم مُصْدروه أنه لن يُنفَّذ إلا على المسلمين، وبالتالي يَسلبهم القدرة على القتال، ويمنع أيّ دولة من مساعدتهم بقرار أُمَمي). وكذلك حظر تصدير السلاح إلى العراق خلال الفترة ما بين حرب «تحرير الكويت» إلى غزو العراق، والتي أتاحت للولايات المتحدة احتلال العراق بعد إضعافه تمامًا، ومنه قرار النفط مقابل الغذاء الذي جرَّد العراق من قوته العسكرية وهيَّأه للاحتلال، وتم رفع الحظر عام 2010م بعدما خضع العراق للاحتلال الأمريكي الذي يكاد ينسحب جزئيًّا منه بعد 15 عامًا من رفع الحظر. وكذا حظر توريد السلاح جزئيًّا إلى السودان بهدف إضعافه، بغرض تقسيمه لاحقًا. بينما لم تفلح 50 دولة طالبت مجلس الأمن بمنع توريد السلاح لـ«إسرائيل» لمنع إبادتها للمدنيين في غزة وتهجيرهم منها.

4-فضائح التدخل العسكري لقوات تابعة للأمم المتحدة في الصراعات، وارتكابها جرائم متنوعة، من القتل أو التباطؤ لمنعه (كمثل ما حصل في البوسنة والهرسك والصومال ورواندا والكونغو الديمقراطية)، وقد شملت هذه الانتهاكات في الصومال: القتل غير المشروع، واستخدام القوة المفرطة، والاعتقالات التعسفية، والتعذيب، وانتهاكات أخرى مثل الفساد والاستغلال المالي. وتباطؤها في وقف الإبادة كما في أراكان بماينمار، أو ارتكاب جرائم الاغتصاب أو المساعدة عليها كما في تلك الدول أيضًا، ومن أبرزها فضيحة الكتيبة الهولندية التي تسببت في أكبر جريمة قتل واغتصاب في أوروبا خلال خمسين عامًا، في سريبرينيتسا البوسنية، وغيرها من دول إفريقيا، كإفريقيا الوسطى (بين عامي 2014- 2015م)، كما اتهمت البعثة العسكرية التابعة للأمم المتحدة في الكونغو الديمقراطية بارتكاب جرائم، وقد «احتجَّ المدنيون على ما وصفوه بأنه نقص في الحماية الكافية وانتشار الاعتداء الجنسي مِن قِبَل الجنود. أصبحت البعثة غير مقبولة شعبيًّا، لدرجة أنه في سبتمبر 2023م، طلب الرئيس فيليكس تشيسكيدي من الأمم المتحدة سَحْب بعثتها قبل عام»؛ وفقًا لـ(كلير كلوبوسيستا ومارييل فيراغامو، دور الأمم المتحدة في إفريقيا، مركز «مجلس العلاقات الخارجية» الأمريكي)، وكذلك في بلدان أخرى وطئت البعثات الأممية أرضها.

واغتصبت كتيبة أممية قاصرات في ساحل العاج عام 2007م، والسودان أيضًا في العام نفسه، وأقام الجنود الأمميون شبكة دعارة في الكونغو، وتورَّط جنود في انتهاكات جنسية في ليبيريا وبوروندي، كما تورَّط جنود في مقايضة الذهب بأسلحة ومؤن ومعلومات في رواندا والكونغو! وبحسب «التقرير التقييمي لجهود الإحاطة في حالات الاستغلال والانتهاك الجنسي المتعلقة بموظفي بعثات السلام التابعة للأمم المتحدة» الصادر في 2015م؛ فإنه تم إحصاء 480 اتهامًا بارتكاب انتهاكات في الفترة الممتدة ما بين 2008 و2013م. وبـسبب وجود بعثة الأمم المتحدة في الكونغو، أصبحت البلاد «عاصمة الاغتصاب في العالم».

5-انحياز قوات حفظ السلام الأممية التي بدأت في العام 1948م كقوات فصل وقوات «محايدة» إلى التدخل إلى جانب الحكومات والنُّظم التي يساندها «المستعمرون» التقليديون، كما حدث في مالي والصومال وكينيا؛ حيث تنحاز عمليات حفظ السلام، مثل بعثة الأمم المتحدة المتكاملة متعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي (مينوسما) وبعثة الاتحاد الإفريقي في الصومال (أميصوم)، إلى أطراف متناحرة.

وباسم «مكافحة الإرهاب» طوَّرت الأمم المتحدة أسلوبًا للتدخل في النزاعات إلى جانب نُظُم حكم استبدادية يرعاها الغرب، بعد أن كان دورها المُعلَن مسبقًا «حياديًّا»، وذلك في مراحله الأولى التي اختتمت بهذا الانحياز في المرحلة الخامسة. ورغم الاتهامات المُوجَّهة لحركة شباب المجاهدين الصومالية، وحركة تحرير أزواد المالية بالإرهاب، فإن مبدأ التدخُّل في الصراعات يخالف الأُسُس التي قامت عليها فلسفة قوات حفظ السلام، كما أن الأمم المتحدة قد تورَّطت في مقابل ذلك بدعم مجموعة إرهابية، وهي جماعة الحوثي اليمنية، وانكشفت بذلك في أكثر من فضيحة، أبرزها السماح بتهريب الأسلحة عليها. وهي وإن كانت استندت إلى تصنيفها للجماعتين الإفريقيتين بالإرهاب، وعدم تصنيفها للحوثيين بذلك؛ فإنها لم تضع معيارًا واحدًا يمكن القياس عليه في تصنيفها هذا.

6-إماتة جهود المصالحة في بلدان إسلامية عديدة، كأمثال الأدوار المشبوهة التي تلعبها أو لعبها مبعوثو الأمم المتحدة في أفغانستان وليبيا والسودان والصومال وقضية الصحراء بين المغرب والجزائر، وغيرها.

7-استخدام منظمة الطفل لإرغام العالم على اتباع ثقافة غربية محدَّدة في التعامل مع الأطفال وتربيتهم، وتحريضهم على التمرُّد على مفهوم الأسرة واحترام الأبوين، وكذا المرأة، عبر إشاعة النسوية الغربية، من خلال سلسلة من القرارات الإلزامية التي تُوقِّع عليها نُظم علمانية لفرض أنماط سلوكية محددة للمرأة، والتدخل في «الصحة الإنجابية»، وتحديد الإنجاب في الدول الإسلامية، إلى غير ذلك من خلال صندوق الأمم المتحدة للسكان. وتبنّي مفهوم «الجندر» والشذوذ وتغيير الجنس إلى غير ذلك من الانحطاطات الأخلاقية التي ترعاها الأمم المتحدة بمنظماتها وبرامجها وصناديقها المختلفة.

8-إصدار بيانات خاطئة لغرض مساندة سياسة «استعمارية» ما، مثل تضخيمها لحالات الجوع والمرض في السودان في بعض المراحل؛ بغرض إفساح المجال للتدخل الدولي، وإصدار بيانات تضليلية عن الأوضاع في أفغانستان، لا سيما فيما يتعلق بالمرأة، والاضطهاد المزعوم لها هناك.

وبالجملة؛ فحين تتدخَّل الدول الكبرى بدعوى أن دولة ما قد أصبحت «دولة فاشلة»؛ فإن بيانات الأمم المتحدة عادة ما تكون جاهزة لدعم هذا المُبرّر للتدخل في شؤون الدول.

9-إماتة كثير من القضايا التي تتعلق بالمسلمين، فمثلًا «كشفت مصادر في الأمم المتحدة ومنظمات إغاثة عن أن مسؤولة الأمم المتحدة في ميانمار حاولت وقف مناقشة قضية حقوق مسلمي الروهينجا مع حكومة ميانمار. وقال أحد مسؤولي الأمم المتحدة: إن رئيسة البعثة الأممية في ميانمار (بورما) حاولت منع مدافعين عن حقوق الإنسان من زيارة مناطق الروهينجا الهامة» (بي بي سي 29/9 /2017م). ومما يُوجَّه بقوة للأمم المتحدة من انتقادات أنها لم تُوقِف معظم الإبادات الجماعية في العالم، لا سيما في سوريا والعراق وميانمار ورواندا.

10-مساندة النظم الشمولية الديكتاتورية، وإضفاء الشرعية عليها أحيانًا؛ من خلال إشرافها -وتغطيتها- على انتخابات مزورة، ومساهمتها في تقسيم بلدان ذات سيادة؛ تنفيذًا لرغبات الدول الكبرى، عبر تشجيع ومساندة مبدأ حق تقرير المصير بشكل انتقائي، بما يتماشى مع سياسات تلك الدول، وتصديها له إن جرت الرياح بما لا تشتهي تلك الدول.

11-تضخيمها لمسألة الأقليات في الدول الإسلامية، وغضّ الطرف عنه في غيرها، كمثل ما هو في سوريا من جهة، والصين والهند من جهة مقابلة، والأمثلة كثيرة.

12-توفير الغطاء الرسمي لمنظمات مشبوهة تعمل بالتعاون مع المنظمة الدولية، لا سيما في نطاق التنصير، ومنظمات نسوية وحقوقية تُنفّذ أجندات دول بعينها.

13-مساندة أذرعها المختلفة لسياسات غربية، كمثل ما شدّدت عليه منظمة اليونسكو في حادثة تفجير طالبان لتمثال باميان في فترة حكمها الأولى، التي اتُّخِذَت كأحد أهم ذرائع التدخل الدولي للإطاحة بنظامها، بينما تخفض صوتها بالإدانة لما يتعلق بجرائم بشار ونتنياهو وحُكّام الصين والهند بشأن آثار المسلمين وأماكنهم المقدسة كالمساجد الأثرية في تلك البلاد.

14-ومن أخطر ما قامت به الأمم المتحدة بمنتهى الخسّة، هي أعمال التجسس لحساب دول كبرى، وكيان غاصب، فلقد تورطت بعثات التفتيش عن الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل في دولٍ بعينها في تحديد مواقعها، للقصف، وتجريد تلك الدول من أسلحتها؛ تمهيدًا لاحتلالها، وأبرز تلك الدول كانت العراق وإيران، واللتين لم تستفيدا من فتح أبوابهما للمفتشين الدوليين في منع ضربهما، بل ساهم ذلك في حصوله!

وحين انبرت الأمم المتحدة لتصفية مخزون السلاح الكيماوي لدى بشار الأسد، فلأنه مَثَّلَ تهديدًا لـ«إسرائيل» لا للشعب السوري الذي تم قصفه مرة أو مرات قليلة بالسلاح الكيماوي، بينما قتلته آلاف البراميل المتفجرة، فلم تكن نسبة ضحايا الكيماوي بشيء قياسًا بما قتله وجرحه السلاح التقليدي السوري، الذي لم تَأْبَه له الأمم المتحدة؛ لأنه لا يَخْدش أمن «إسرائيل»!

وتلك محض أمثلة محدودة بما يتسع له المقام لهذه «النجاحات» التي تُنفّذها الأمم المتحدة وأذرعها ببراعة، والجُعْبة مليئة بما يشين هذه المنظمة ويجعلها في صفوف العداء للعالم الإسلامي برُمّته، والذي لم تسمح له المنظمة بأن يتمثل في مجلس أمنها، وذراعها الباطش، من خلال تخصيص مقعد لها بين الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، مع أن نسبة المسلمين في العالم تُمثّل ربع سكان الكوكب!

*     *     *

أما فشل المنظمة؛ فأيضًا له مظاهره المتعددة، لكن أبرز ما يمكن استقراؤه من أمرها الحاضر، واستشرافه من شأنها المستقبلي، هو أن الأمم المتحدة نفسها قد هانت في أعين مُؤسّسيها، وربما تتراجع اهتماماتهم بجدواها شيئًا فشيئًا، وهذا ما أدَّى إلى «تبجُّح» تلك الدول بمخالفتها، بل باستخفافها بالمنظمة وبالمنظمات التابعة لها أو المتعاونة معها، كمثل استهانة واشنطن بالمحكمة الجنائية الدولية (التي لا تنتمي إلى الأمم المتحدة، لكنها متعاونة معها بشكل وثيق، وبينهما علاقة قانونية ومعلوماتية قوية ترقى لقَدْر مِن الاعتبار الأممي الذي يستمدّ شرعيته من القرب من المنظمة الدولية)، وتوقيعها عقوبات على أكبر قضاتها؛ لأنهم أدانوا سياستها أو سياسة «إسرائيل». وكذلك استخفاف «إسرائيل» بكل قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة على حدود فلسطين المحتلة، وكذا منظماتها، ومنها الأونروا في فلسطين المحتلة.

والأدهى، كان قرار حكومة الولايات المتحدة الأمريكية بفرض عقوبات على فرانشيسكا ألبانيز، المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967م، بعدما قدمت تقارير تدين «إسرائيل»، وتضع صورة حقيقية عن الوضع في غزة، ومنها التقرير الموثق الذي قدَّمته في يوليو الماضي، واعتمد على أكثر من 200 تقرير وبلاغ من دول وأكاديميين ومنظمات حقوقية، وأفاد أن أكثر من 60 شركة عالمية كبرى تتورَّط في دعم ما وصفته ألبانيز بـ«اقتصاد الإبادة الجماعية» ضد الشعب الفلسطيني، إضافة إلى إفادتها في أغسطس 2025م حول تمثيل المقاومة الحقيقي للشعب الغزاوي عبر انتخابات حرة ديمقراطية على خلاف ما تُصوِّره الآلة الإعلامية العالمية على أنهم «مجموعة من القتلة»؛ على حد تعبيرها.

ولقد صارت سمعة الأمم المتحدة سيئة جدًّا في كثير من الدول التي تدخَّلت فيها لـ«حفظ السلام»؛ فإذا بها تتورط في كثير من الجرائم التي جعلت دولًا كثيرة تطلب من بعثاتها مغادرتها، كالصومال والكونغو الديمقراطية، وتورطت في صراعات بشكل مباشر ما جعل النيران تُصوّب إلى جنود بعثاتها العسكرية كطرف أصيل في الصراع، وصارت جزءًا من المشكلة، وليست جزءًا من الحل.

لقد نفرت الشعوب أيضًا من هذه السياسات، ورفضتها أنظمة دول لها ثقافاتها الخاصة التي تحاربها ثقافة الغرب التي تهيمن على منظمات الأمم المتحدة في الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

وكذلك، علت أصوات من دول ناهضة، اقتصاديًّا وعسكريًّا وسياسيًّا، كالهند وتركيا وإندونيسيا والبرازيل تجادل بأن «العالم أكبر من خمسة»؛ على حد تعبير الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي يشكو كثيرًا من تفرُّد خمس دول فقط بمصائر العالم المنظورة، ويدعو إلى تمثيل بلاده للمسلمين في مجلس الأمن، وتتبع ذلك دول أخرى تتطلع لهذا التمثيل كإيران ونيجيريا ومصر... إلخ.

*     *     *

أرذل العمر

يُبرز موقع الأمم المتحدة على الإنترنت في احتفاله بعامه الثمانين، عبارة «أنطونيو غوتيريش»، الأمين العام للأمم المتحدة؛ باعتبارها قولًا مأثورًا له: «بعد ثمانية عقود، يمكن ربط خط مباشر بين إنشاء الأمم المتحدة وتجنّب اندلاع حرب عالمية ثالثة»، لكنّ هذه العبارة مثيرة للضحك أكثر منه للإعجاب! فالحرب لم تندلع حتى الآن، لأسباب لا تتعلق بالأمم المتحدة التي ساهمت بكل قوتها في تركيع نحو مائتي دولة في العالم لعدد لا يتعدى أصابع اليد الواحدة في العالم.

ومن أهم أسباب عدم وقوع حرب نووية هو امتلاك الدول الكبرى للسلاح النووي. أما الذي كان يمكنه أن يُوقِف إجرامها وتجبُّرها وهيمنتها على العالم، وتفجُّر الصراعات بين «الصغار» هو منع المنظمة الدولية من ممارسة حقهم في التسليح النوعي أُسوةً بتلك الدول المُحتكِرَة له!

ما يُفاخِر به «غوتيريش» أجدر بأن يخجل منه، فلقد مُلئت الأرض جورًا وظلمًا في هذه الثمانين، ومن قبلها من السابقة «عصبة الأمم». ونحن نستطيع أن نُقسِم -غير حانثين-؛ بأن الظلم في هذا القرن لم يشهده العالم منذ 1300 عام سبقتهما؛ فما يُميّز هذا الظلم أنه عامّ وشامل للعالم كله بخلاف ما كان من قبل؛ حيث لم تَخْلُ الأرض من دول قائمة بالعدل في شرق الأرض ومغاربها، حتى في زمان المغول نفسه. أما الظلم الحالي؛ فهو عميم، وللمنظمة الدولية نصيب من تكريسه في العالم كله كأداة في أيدي المستبدّين الكبار.

إن الثمانين التي بلغتها الأمم المتحدة، لا تصلح بحالٍ للاحتفال، وإنما بالتجهيز للدفن؛ ليس لأن مصداقية الأمم المتحدة قد تآكلت تمامًا في كلّ مكان فحسب، وإنما لأنها قد هانت حتى على أيدي صانعي صَنمها. وقد وضعت واشنطن ولندن لبنة الأمم المتحدة قبل ثمانين عامًا، وأسمتها الأولى على اسم شبيه بالثانية، ولقد عادت الثانية لتذكر عبر صحيفتها الكبرى «التايمز» قبل سنوات قليلة، في تقرير لها يحمل عنوانًا مثيرًا، يقول: «كوادر الأمم المتحدة» مسؤولون عن 60 ألف اغتصاب خلال عقد واحد» (18/ 2/ 2018م).

إن الزمان قد تجاوز هذه الشمطاء، فلا الدول الكبرى راغبة في احترامها وتمويلها، ولا الصغرى تُولِيها بعض الاحترام، وهي قد سفحت سُمعتها في كل صعيد، وها هم الليبيون يتندرون بحظر الأمم المتحدة للسلاح في بلادهم، فيما تتدفق إليها الأسلحة من كل حَدب وصَوب! وها هي دول إفريقيا الضعيفة تتبارى في طرد بعثات تلك المنظّمة المُحتقَرة.

 

أعلى