«بيرنيز» لم يخاطب عقل الإنسان، بل خاطَب رغبته العميقة في الانتماء، والقبول الاجتماعي، والإحساس بالقوة. حوَّل السيجارة -على سبيل المثال- إلى «شعار للحرية»، وربط منتجات الشركات بمفاهيم كبرى كالنجاح والحرية والهوية
«إذا
فهمنا آليات ودوافع العقل الجماعي، فليس من المستحيل أن نتمكَّن من السيطرة
والتحكُّم بالجماعات وفقًا لإرادتنا، وبغير علمٍ منهم؟ فقد أثبتت الممارسات الحديثة
في مجال
«البروباغندا»
أن هذا الأمر ممكن الحدوث، على الأقل ضمن حدود معينة»؛
صاحب هذه العبارة هو
«إدوارد
بيرنيز»،
رائد صانعة الرأي العام، وأبو عِلْم العلاقات العامة والتسويق، وأطلق على نظريته
هذه في تشكيل الرأي أو التحكُّم به
«هندسة
الموافقة».
استطاع
«إدوارد
بيرنيز»
عبر نظريته الجديدة وقتها أن يُشكِّل خيطًا خفيًّا امتدّ عبر المجتمعات كلها،
غازلاً منها عبيدًا طائعين لسلطةٍ لا يرونها، يهزُّون رؤوسهم دائمًا موافقين،
والشيء المبهر في هذه النظرية أنها تنسج نوعًا من الطاعة يحظى بكامل الحرية
الفردية، وليس عبر أساليب الضغط والتخويف المعتادة.
«بيرنيز»
هو ابن أخت
«سيغموند
فرويد»،
لم يكن مجرد متخصص في الدعاية؛ بل هو الذي وضَع الأسس العلمية لما صار لاحقًا علمًا
مستقلًّا:
«علم
التحكُّم بالرأي العام».
استفاد من نظريات
«فرويد»
عن اللاوعي والرغبات المكبوتة، لكنّه لم يستخدمها للعلاج، بل للسيطرة والتوجيه.
بنى أدواته على فكرة أن الجماهير لا تُفكّر عقلانيًّا، بل تُحركها الغرائز
والعواطف، وأن بإمكان نُخبة صغيرة أن تُوجِّه هذه الغرائز لصالح قوى رأس المال
والسياسة.
«بيرنيز»
لم يخاطب عقل الإنسان، بل خاطَب رغبته العميقة في الانتماء، والقبول الاجتماعي،
والإحساس بالقوة. حوَّل السيجارة -على سبيل المثال- إلى
«شعار
للحرية»،
وربط منتجات الشركات بمفاهيم كبرى كالنجاح والحرية والهوية.
أحد أشهر إنجازات
«بيرنيز»
كان تزيين تدخلات الشركات الأمريكية في دول العالم الثالث. في غواتيمالا مثلًا، قاد
حملة لتشويه الحكومة المنتخبة ديمقراطيًّا؛ تمهيدًا لانقلابٍ رَعَتْهُ وكالة
المخابرات المركزية، بحجة حماية
«الحرية»
و«الديمقراطية»،
بينما كان الهدف حماية المصالح الأمريكية.
خلال عمل
«بيرنيز»
مع إدارة الرئيس الأمريكي
«توماس
وودرو ويلسون»
خلال الحرب العالمية الأولى بالتعاون مع لجنة الإعلام الأمني، كان هو المُروّج
الرئيسي للفكرة القائلة:
«إن
حروب أمريكا وجهودها كانت بغرض إدخال الديموقراطية إلى كافة شعوب العالم».
وبعد الحرب، وجَّه
«وودرو
ويلسون»
دعوةً إلى
«بيرنيز»
لحضور مؤتمر باريس للسلام عام 1919م.
إنّ ما زرَعه
«بيرنيز»
تحوَّل إلى ثقافة كاملة، من أهم معالمها:
- التحكم بالرأي العام أصبح غايةً لا وسيلة.
- الاستهلاك الأعمى حلّ محل التفكير الحرّ.
- الشعوب أصبحت تتبنَّى أفكارًا صِيغَت لها خصيصًا، فتُدافع عن مغتصبيها
باستماتةٍ!!
- وظيفة الإعلام لم يَعُد نقل الحقائق، بل إعادة تشكيلها لخدمة قوى خفية.
هكذا أورث
«بيرنيز»
الشعوب الذُّلّ؛ حين أقنعها بأنها
«تختار
بحرية»،
وهي في الحقيقة تخضع بلا وعي.
كانت وجهة نظر
«بيرنيز»
أن الديمقراطية والاختيار الحر خطر عظيم، والبديل أن تختار النُّخَب، ثم تدفع
الجماهير للتصديق على هذا الاختيار عبر وسائل إقناع الجماهير؛ بحيث تجعلها تعتقد
أنها فعلت ذلك بمحض إرادتها.
من أطفأ الشعوب؟
عبر التاريخ، كانت الشعوب تنتفض إذا شعرت أن حياتها مُهدَّدة. كانت تنفجر كما تنفجر
البراكين، بلا مقدمات طويلة إذا انتُهِكَت كرامتها أو احتُلَّت أرضها.
لكن في العصر الحديث، رغم الجوع، والذل، والقهر الذي ربما تراه الشعوب كل يوم، ورغم
احتلال الأرض وحروب الإبادة الجماعية؛ تظل الشعوب ساكنةً وأحيانًا مُصفّقة. بل
وتغرق أكثر فأكثر في صمتها، وتلعق جراحها في عزلةٍ عميقةٍ!
والسؤال: كيف تم الضغط على مفتاح إطفائها فانطفأت؟ ما الذي حدَث؟!
أولاً: تصنيع الوعي الزائف
«صناعة
الطاعة»:
لقد تم تشكيل عقل الجماهير بحيث أصبح الذل
«واقعيةً»،
والظلم
«قدرًا»،
والخضوع لونًا من ألوان
«الذكاء».
وصار الإعلام، والتعليم، والثقافة الشعبية، كلها تعمل على قتل فكرة الكرامة قبل أن
تُولَد، لصالح أنماط أخرى؛ لأن الكرامة لم تَعُد تُدِرّ مالًا. بل تم تغيير مفهوم
الكرامة نفسه؛ بحيث أصبح مفهومًا تجاريًّا
«رأسماليًّا»
بالأساس، يخضع لحسابات اقتصادية فقط.
ثانيًا: اقتصاد الإلهاء:
عصر
«بيرنيز»
أدخَل البشر في حلقةٍ لا نهائية من الانشغال: العمل المُرْهِق من أجل البقاء.
الترفيه المستمر (مسلسلات، ألعاب، قنوات فارغة). والصراعات التافهة (طائفية،
رياضية، فنية).
ثالثًا: العيش الحيواني:
الحضارات تقوم حين يؤمن الناس أن حياتهم ذات مغزى أعمق من البقاء الحيواني. لكن تم
السعي إلى تفريغ الدِّين من جوهره؛ بحيث يصبح طقوسًا خاوية أو مظاهر شكلية. لتحلّ
الحياة المترفة محل كل معاني الحياة الحقيقية، وحين يُسْلَب الإنسان الغاية من
خَلْقه، يتحوّل إلى كائنٍ خاوٍ، لا قيمة له أكثر مما يحمل فوق كتفيه.
رابعًا: الخوف الاجتماعي الذي حل محل الخوف البدائي:
فأصبح فقدان العمل، والعزلة، وخسارة الرفاهية؛ أنماطًا جديدة من الخوف. كلّ تلك
الغرائز وظَّفها
«بيرنيز»
-بشكلٍ عبقري- للتحكم في الشعوب وإخضاعها بطريقةٍ تشعر معها بالرضا التام، وربما
تشعر بلذة خفية تستمتع معها بالذل.
بلا جدال لم يكن إدوارد
«بيرنيز»
مجرد رجل صنَع نظريات حديثة في الترويج والتحكم في الغرائز، بل كان علامة فارقة في
الإمعان في إذلال الشعوب؛ كان عرابًا ورمزًا بحقّ لعصرٍ كامل من صناعة العبودية
الطوعية.
ميراثه حيّ اليوم، ظاهِر في كل شعب خاضع لمحتلّه، مُتَماهٍ مع قَهْره، حتى أصبح
النكير اليوم على مَن أنكر ذلك ورفضه، وقديمًا قال سيدنا عليّ -رضي الله عنه-:
«الناس
من خوف الذل في ذلّ!».