يبدأ الطناحي مقدمته بتصوير الحالة الثقافية في وقته؛ من حيث التشكيك الممنهج في تراث الأمة -لغةً وتاريخًا وعلومًا وثقافةً- تشكيكًا لم يقتصر فقط على وسائل الإعلام المرئي والمقروء
في أواسط الثمانينيات صنَّف الدكتور محمود الطناحي كتاب
«الموجز
في مراجع التراجم والبلدان والمصنفات وتعريفات العلوم»[1]؛
ليكون دليلًا لطلبة الدراسات العليا في جامعة أُم القرى بمكة المكرمة، يستعينون به
في دراستهم وأبحاثهم. وكان هذا المُصنّف الأقرب إلى رسالة مفصّلة أكثر من كونه
كتابًا يحوي مقدمة جرى بها قلم صاحبها بالاستطراد والاسترسال، فوصل حجمها إلى قرابة
ثلث المصنّف. وليس هذا ما يعنينا فيما كتبه الطناحي -رحمه الله- بقدر ما تعنينا
أفكار الطناحي نفسه في هذه المقدمة التي لم تحظَ -رغم أهميتها وقيمة ما فيها من
أفكار- بأهمية المقدمة التي كتبها شيخه؛ ربما لعدم انتباه أغلب الناس إلى كتابٍ
يتحدَّث عن عناوين وطبعات الكتب التراثية في التراجم والبلدان، وغيرها!
يبدأ الطناحي مقدمته بتصوير الحالة الثقافية في وقته؛ من حيث التشكيك الممنهج في
تراث الأمة -لغةً وتاريخًا وعلومًا وثقافةً- تشكيكًا لم يقتصر فقط على وسائل
الإعلام المرئي والمقروء، وإنما وصل إلى قاعات الدرس في الجامعات، وهذا التشكيك
تُرْجِم بعد ذلك إلى ظاهرتين يلمّح إليهما الطناحي، ويذكر أثريهما فيما يذكر؛ ألا
وهما:
1- وصول هذه الأفكار إلى الكتب والمناهج والمقررات التي يدرسها الطلبة في أقسام
اللغة والأدب، وتحوّل بعضها إلى فلسفات غريبة لا يُفهَم منها شيء، ولا تُعبِّر عن
فكر ملموس يستدلّ به أو عليه.
2- تلقّي المناهج الغربية والمستوردة في اللسانيات الحديثة وعلم الأصوات والنحو،
والفرح بها، وترديد ما ذكره أهل هذه العلوم من أسبقية إبداعها وإنتاجها، في حين أن
أصول هذه العلوم، وكثير مما يتباهى به الفرحون بالدعاية لها؛ موجود في تراثنا،
معلوم مصدره عند مَن أقام عليه، ودرس في مصادر التراث دراسة واعية متأنية متمهلة لا
تتعجل الحكم على الأشياء[2].
ثم ماذا كانت نتائج ذلك؟
كانت النتيجة تعميق سطحية الفكر عند أكثر طلبة الجامعات، وغياب أبسط بديهيات البحث
لمعرفة مطالب دراساتهم. ويذكر الطناحي -مثالًا- أن أحد الطالب جاءه مُنكرًا على ابن
منظور الذي لم يُورد معنى مصدر (التراث)، في حين أنه كان يجهل معرفة مصدر الكلمة
الذي يُفترَض أن يبحث عنه أصلًا![3]
أما أهمّ ما ذكره الطناحي في هذه المقدمة -بعد أن عرج على أثر هذه الأفكار ونتاجها
في نفسه وفي أهل جيله ورفاقه والطلاب الذين عايشهم، ثم قدَّم لأهمية معرفة الطبيعة
العامة للكتب والمراجع ومصادر التراث المختلفة وضرورة الإلمام بمفاتحها وتنوعها-
فهو إشارته إلى حقيقتين مهمتين:
أولهما: أنه لا يغني كتاب عن كتاب
وهي نقد فكرة ذاعت وانتشرت ولا زالت للأسف تجد مَن يُروِّج لها حتى يومنا هذا؛
مفادها أن كتب التراث تتشابه كثيرًا، ولا بأس بأن يكتفي الدارس أو المُطالع بكتاب
مِن كل فنّ، ويا حبذا لو كان مِن كتب المتأخرين؛ لأنه يُغني عن غيره، فلا حاجة
للباحث أن يُطالع في أكثر من كتاب لنفس الفنّ؛ لأنها تتشابه في النهاية، ولا بأس أن
تكون هناك مشاريع لغربلة هذا التراث وتنقيته، وانتقاء ما يصلح منه على أساس هذه
الدعوة السابق ذِكْرها.
وهي فكرة يجتهد الطناحي في عرضها، والتدليل على عدم صحتها، مبينًا أن أصحاب هذا
الزعم يفتقرون إلى معرفة ما يتكلمون عنه، فلا أحد منهم يُقدِّم أساسًا للتفريق أو
التمييز، أو يُقدِّم معيارًا لتفضيل ما يبقى أو تنحية ما لا يُحتاج إليه.
ثم ينتقل الطناحي إلى نقض فكرة أخرى متمخّضة عن هذه الفكرة الأم؛ ألا وهي أن التراث
الصالح للانتفاع والاحتجاج بأصالته وإبداعه يقتصر على الخمسة قرون الأولى؛ لأنها
قرون الإبداع والخلق؛ كما يقول أصحاب هذه الدعوى فيُمحِّص دعواهم، ويذكر من أهل
القرون؛ الثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر، أعلامًا من مُصنّفي كتب
العلوم والموسوعات العلمية، مثل ابن حجر، والسيوطي، والشهاب الخفاجي، والبغدادي
صاحب خزانة الأدب، والمرتضى الزبيدي، والشوكاني، بكل ما لهم من مُؤلَّفات
ومُصنَّفات.
ويضرب الطناحي مثالًا بأحد القضايا اللغوية التي شاع ذكرها في معاجم المتأخرين
(لسان العرب) و(تاج العروس)؛ وكلاهما يُعدّ من أشهر معاجم اللغة، وأغلب الباحثين
يستغني بهما عن غيرهما، ودلل على تعاقب ذِكْرهما لخطأ تكرر ذِكْره دون تمحيص مع
وجود دليل على عدم صحته. ويذكر الطناحي أيضًا قيمة المختصرات في التراث العربي، وأن
بعضها يحوي من الفوائد ما لا يوجد في الأصل المختصر عنه[4].
أما القضية الثانية التي أشار إليها الطناحي فهي أن مجاز كتب التراث كتاب واحد[5]
ويعني بها أن الطابع الموسوعي لكتب التراث يتجاوز مساحة التخصص لكثير منها، فلا
يقتصر على الفن الذي يتكلم فيه، وضرب مثالًا لكتب التوحيدي والمعري والسهيلي؛ من
حيث كمّ الفوائد والمعلومات التي تَرِد فيها دون اقتصارها على الأدب والأشعار فحسب.
وذكر الطناحي أيضًا فيما ذكر أن كثيرًا من هذه الكتب لهذا الطابع تجد فيه من
الفوائد ما لا تجده في كتب التخصص نفسها؛ نتيجة عدم اقتصار مؤلفيها وحصر كتاباتهم
في الفن الذي يصنّفون فيه، وذكر موقفًا بين العقاد وشيخه محمود شاكر في البحث عن
خبر يخص عمرو بن العاص، وأن
«شاكر»
قد أفاده بوجوده في أحد كتب البهاء العاملي صاحب كتابي (الكشكول) و(المخلاة)،
والعاملي معلوم التشيع، وذكر الطناحي أيضًا أن من الكتب الموسوعية التي يُضرَب بها
المثل في هذا الأمر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، وصبح الأعشى للقلقشندي،
ونهاية الأرب للنويري.
ثم يختم شهادته بتقويم عام لعودة الاهتمام إلى التراث وطباعته مجددًا، ولكنه ينتقد
عدم الوفاء بالأصول المفترَض رعايتها في إعادة طبع هذه الأصول، مع إزالة كثير من
دُور النشر لمقدمات مَن عمل عليها سابقًا وبياناتهم وخواتيم هذه الكتب، والإغارة
على كثير من جهودهم، بما يُمثّل عقوقًا لهؤلاء، ومجافاةً لأبسط قواعد الأمانة والبر
بجهودهم.
أما المُلاحظ لهذه المقدمة المستطردة فيجد فيها صِدْق الطناحي في حكايته عن نفسه،
وعن أبناء جيله، وعن الطابع الذي لوَّن هذه الحقبة، وأثره في نفوس أترابه، ثم
تلاميذه، ولا يتكلم الطناحي عن واقعٍ يرصده مِن بعيد، ويحكم عليه بقدر ما كان يتكلم
عن مواقف عايشها، وأفكار تعامَل معها، واحتكَّ بها، ولمس أثرها فيما لامس، وعرف
بواعثها من نتاج أفكار مَن اهتم بإذاعتها وتتبُّع مواردها، وحاكمها إلى ما كان يأخذ
به نفسه من مقارنة ومدارسة للتراث على شيوخه وأساتذته في دار العلوم وخارج دار
العلوم، ممَّن أفاد منهم.
ولعل القارئ لهذه المقدمة يجد في كل ما كان يتكلم به الطناحي مثالًا مضروبًا أو
موقفًا مستعادًا أو ذكرًا لكلام عَلَم من الأعلام، أو إيرادًا لمسألة من المسائل
المُوضِّحة لما يتكلم به دون إملال أو إطالة تزيد عن حاجة البيان والإيضاح.
وأيضًا يُلاحظ القارئ خلال هذه المقدمة أنه لم يقع أسيرًا للطابع الحادّ الذي كان
يتعامل به شيخه الأثير إلى نفسه وقلبه وعقله محمود شاكر[6]
في التعامل مع هذه القضايا، بل كان كلامه دائمًا مُغلَّفًا بمسحة الانتقاد العام
المُوجّه للأفكار والمواقف دون الأشخاص أو المسميات.
ورغم حُرقة الطناحي، وهو يعاين الأثر السيئ لهذه الأفكار؛ إلا أنه سار على طريقة
دائمة -ليس فقط في هذه المقدمة- تقتضي بأن يكون الكلام والحوار والانتقاد دائمًا
مُوجَّهًا نحو معارضتها دون الدخول في تفاصيل جانبية أو حوارات وتفريعات تُشخصن هذه
المسائل وتنقلها عن منطقة البحث والعرض والسجال إلى مساحات التنازع والتراشق، مما
كان يحدث كثيرًا في اشتباكات مماثلة، وهو ما يُحسَب قطعًا للطناحي -رحمه الله وأجزل
مثوبته-.
[1] كتاب الموجز في مراجع التراجم والبلدان والمصنّفات وتعريفات العلوم، طبعة
الخانجي بالقاهرة سنة 1985م، الطبعة الأولى.
[2] المرجع السابق، الصفحات 8 و9 و10 من المقدمة.
[3] صفحة 18 من نفس المرجع.
[4] المرجع السابق، ص23.
[5] المرجع ذاته، ص35.
[6] كان الطناحي من أقرب تلاميذ شاكر إلى نفسه، وقد رثاه الطناحي بأكثر من مقال بعد
وفاته، وفي المقدمة ذكره نحوًا من 5 مرات مصرحًا ومشيرًا.