• - الموافق2025/04/30م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
استقرار منهج أهل السُّنة وانضباطه

والحق لا تُغيِّره الأوصاف الحسنة والمصطلحات الفضفاضة التي يُزيِّن بها أهل الباطل ما هم عليه من العقائد الفاسدة والأفكار الضالة، رجاءَ قبولها عند ضعفاء الناس وشيوعها بينهم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

إنّ مِن منَّة الله على أهل الإسلام، أنْ حَفِظ لهم مصادرهم في العقيدة والتشريع، وقيَّض لهم علماء ميَّزوا لهم وبيَّنوا المنهج الصحيح في التلقّي والاستدلال، فلا تَذَبْذُب ولا اضطراب في تلقّي التصورات والأفكار والعقائد من هنا وهناك، بل مصدر تلقّي العقائد هو كتاب الله وسُنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وإن مَن تطلَّب الهداية بعيدًا عن هذين الأصلين فهو الواقع في شَرَك الضلال والعياذ بالله.

يقول ابن أبي العز الحنفي -رحمه الله-: «فكل مَن طلب أن يُحَكِّم في شيءٍ مِن أمْر الدين غيرَ ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ويظنّ أن ذلك حَسَن، وأن ذلك جَمْع بين ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبين ما يُخالفه؛ فله نصيب من ذلك (أي: مُخالَفة السُّنَّة)، بل ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- كافٍ كاملٌ، يدخل فيه كلّ حقّ، وإنما وقع التقصير من كثير مِن المنتسبين إليه»[1].

ومما يَحْسُن إيراده في هذا الموضع ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «ينبغي للمسلم أن يُقَدِّر قَدْر كلام الله ورسوله... فجميع ما قاله الله ورسوله يجب الإيمان به، فليس لنا أن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض، وليس الاعتناء بمراده في أحد النصين دون الآخر بأولى من العكس، فإذا كان النص الذي وافقه يعتقد أنه اتَّبع فيه مراد الرسول، فكذلك النص الآخر الذي تأوله، فيكون أصل مقصوده معرفة ما أراده الرسول بكلامه»[2].

- والحق ما وافق الدليل من غير التفات إلى كثرة المُقبلين، أو قلة المُعرضين؛ فالحق لا يُوزَن بالرجال، وإنما يُوزن الرجال بالحق، ومجرد نفور النافرين، أو محبَّة الموافقين لا يدل على صحة قولٍ أو فساده، بل كلّ قول يُحتَجّ له خلا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنه يُحتَجّ به.

وأهل الحديث والسُّنة هم الذين ليس لهم متبوع يتعصّبون له إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فهم أعلم الناس بأقواله وأحواله، وأعظمهم تمييزًا بين صحيحها وسقيمها، وأئمتهم فقهاء فيها، وأهل معرفة بمعانيها، وهم -أيضًا- أعظم الناس اتباعًا لها: تصديقًا وعملًا وحُبًّا، وموالاةً لمن والاها، ومعاداةً لمن عاداها، الذين يردّون المقالات المُجْمَلة إلى ما جاء به من الكتاب والحكمة؛ فلا ينصبون مقالة -عن رَأْي أو ذَوْق- ويجعلونها من أصول دينهم وجُمَل كلامهم، إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، بل يجعلون ما بُعِثَ به من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه.

- والحق لا تُغيِّره الأوصاف الحسنة والمصطلحات الفضفاضة التي يُزيِّن بها أهل الباطل ما هم عليه من العقائد الفاسدة والأفكار الضالة، رجاءَ قبولها عند ضعفاء الناس وشيوعها بينهم، مثل: الحرية، والتسامح، وقبول الآخر، ونحوها. ويُطلقون على أهل الحق من أهل السنة الألفاظ الذميمة والألقاب الشنيعة؛ تنفيرًا منهم، وتحقيرًا لما يدعون إليه، مثل: التطرف، والتشدد، والانغلاق، ونحوها.

وكل هذه الاصطلاحات لا ينبغي أن تُغيِّر من الحقائق شيئًا.

ولا يَرِد على هذا استخدام المصلحات المعاصرة في بيان الحق، والدعوة إليه؛ فإن ذلك مشروع متى كان البيان واضحًا، سليمًا من المعاني الباطلة، بل هو دليل قوة وتمكُّن؛ قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: «وأما مُخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم ولغتهم؛ فليس بمكروه إذا احتيج إلى ذلك، وكانت المعاني صحيحة، كمخاطبة العجم من الروم والفرس والترك بلُغَتهم وعُرْفهم، فإن هذا جائز حَسَن للحاجة...»[3].  

فمخاطبة أهل الاصطلاح بلغتهم واصطلاحهم يُفيد من وجوه:

الأول: أنهم يفهمون الحُجَّة.

الثاني: أن ذلك أبلغ في الرد عليهم، وكسرهم.

الثالث: بيان تمكُّن أهل الحق من معاني مسائلهم وعرضها بأيّ أسلوب يقتضيه الموقف.

- وهذا المنهج شامل لجميع أبواب الدين؛ عقيدةً وشريعةً، أخلاقًا وسلوكًا؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «ثم هم مع هذه الأصول [يعني أصول الاعتقاد]، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر على ما تُوجبه الشريعة، ويرون إقامة الحج والجهاد والجُمع والأعياد مع الأمراء أبرارًا كانوا أم فجارًا، ويحافظون على الجماعات، ويدينون بالنصيحة للأُمَّة، ويعتقدون معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا»، وشبَّك بين أصابعه -صلى الله عليه وسلم-[4]، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «مَثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر»[5]، ويأمرون بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضا بمُرّ القضاء، ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خُلقًا»[6]، ويندبون إلى أن تصل مَن قطعك، وتُعطي مَن حرمك، وتعفو عمَّن ظلمك، ويأمرون ببر الوالدين، وصلة الأرحام، وحُسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل، والرفق بالمملوك، وينهون عن الفخر والخيلاء والبغي والاستطالة على الخَلق بحقّ أو بغير حق، ويأمرون بمعالي الأخلاق، وينهون عن سفسافها، وكل ما يقولونه أو يفعلونه من هذا أو غيره فإنما هم فيه متَّبعون للكتاب والسنة»[7].

- والالتزام بهذا المنهج يُفيد إثبات أن الحق هو فيما جاء به الشرع؛ قال تعالى: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4]، فالوحي جاء بالحق، ودلَّ على طريق الوصول إليه، قال السعدي: «{وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ}؛ أي: اليقين والصدق، فلذلك أمَركم باتباعه، على قَوْله وشَرْعه؛ فقوله حقّ، وشرعه حقّ، والأقوال والأفعال الباطلة، لا تُنْسَب إليه بوجهٍ من الوجوه، وليست من هدايته، لأنه لا يهدي إلا إلى السبيل المستقيمة، والطرق الصادقة»[8].

- والاعتماد على الكتاب والسنة وإجماع الأمة في الاستدلال وفق المنهج الذي قرَّره أهل العلم المُحقِّقون يُقلِّل الخطأ ويُكَثِّر الصواب والتوفيق، والخطأ إن وُجِدَ فبسبب نقص عِلْم المستدِلّ أو قصور فَهْمه، أو سوء قصده، وهذا هو المشهور المُشَاهد في أهل الأهواء والبدع والانحراف قديمًا وحديثًا، ولكن قد يوجد شيء منه في بعض أهل السنة؛ قال شيخ الإسلام: «ففي بعضهم من التفريط في الحق، والتعدي على الخَلْق ما قد يكون بعضه خطأً مغفورًا، وقد يكون منكرًا من القول وزورًا، وقد يكون من البدع والضلالات التي تُوجب غليظ العقوبات؛ فهذا لا يُنكره إلا جاهل أو ظالم... ولكن -مع ذلك- هم بالنسبة إلى غيرهم -في ذلك- كالمسلمين بالنسبة إلى بقية المِلَل، فكل شرّ يكون في بعض المسلمين فهو في غيرهم أكثر، وكل خير يكون في غيرهم فهو فيهم أعلى وأعظم، وهكذا أهل الحديث والسنة بالنسبة إلى غيرهم من طوائف المسلمين»[9].

كما أنّ أهل السنة «يَعرفون الحق ويرحمون الخلق، أما أهل البدع فيُكَذِّبون بالحق ويُكَفِّرون الخلق، فلا عِلْم ولا رحمة»[10].

-ومن هنا، فالالتزام بهذا المنهج يُفيد المؤمن يقينًا وثباتًا، ومخالفته تُفيده اضطرابًا وتنقلًا؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «إنك تجد أهل الكلام أكثر الناس انتقالًا من قولٍ إلى قولٍ، وجزمًا بالقول في موضع، وجزمًا بنقيضه، وتكفير قائله في موضع آخر! وهذا دليلُ عدم اليقين، فإن الإيمان كما قال فيه قيصر لما سأل أبا سفيان عمَّن أسلمَ مع النبي -صلى الله عليه وسلم-: «هل يرجع أحدٌ منهم عن دينه سخطةً له، بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا. قال: وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشته القلوب، لا يَسخطه أحد»[11]. ولهذا قال بعض السلف -عمر بن عبد العزيز أو غيره-: «مَن جعل دِينه غرضًا للخصومات أكثر التنقُّل»[12].

أما أهل السنة والحديث فما يُعلم أحد من علمائهم، ولا صالح عامّتهم رجع قطّ عن قوله واعتقاده، بل هم أعظم الناس صبرًا على ذلك، وإن امتُحِنُوا بأنواع المِحَن، وفُتِنُوا بأنواع الفِتَن، وهذه حال الأنبياء وأتباعهم من المتقدمين، كأهل الأخدود ونحوهم، وكسلف الأُمَّة من الصحابة والتابعين وغيرهم من الأئمة... ومَن صبَر مِن أهل الأهواء على قوله، فذاك لما فيه من الحق؛ إذ لا بد في كل بدعة -عليها طائفة كبيرة- من الحق الذي جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ويوافق عليه أهل السنة والحديث؛ ما يُوجب قبولها؛ إذ الباطل المَحْض لا يُقبَل بحالٍ. وبالجملة: فالثبات والاستقرار في أهل الحديث والسُّنة أضعافُ أضعاف أضعاف ما هو عند أهل الكلام والفلسفة»[13]

 


 


[1] شرح العقيدة الطحاوية - ط الأوقاف السعودية ١/٢٣.

[2] مجموع الفتاوى ٧/٣٧.

[3] درء تعارض العقل والنقل ١/٤٣.

[4] أخرجه البخاري (٢٤٤٦)، ومسلم (٢٥٨٥).

[5] أخرجه البخاري (٦٠١١)، ومسلم (٢٥٨٦).

[6] أخرجه أبو داود (٤٦٨٢)، وأخرجه الترمذي (١١٦٢)، وأحمد (٧٤٠٢) وصححه الألباني.

[7] مجموع الفتاوى ٣/١٥٩، وينظر النص مطولاً في «العقيدة الواسطية» (ص129- 131).

[8] تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن: ص٦٥٨.

[9] مجموع فتاوى ابن تيمية: ٤/٢٤.

[10] مختصر الصواعق المرسلة، لابن تيمية، 2/431.

[11] أخرجه البخاري (51).

[12] أورده ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/116).

[13] مجموع فتاوى ابن تيمية: 4/50، 51.

 

 


أعلى