• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الشيخ في الخريطة التغريبية

الشيخ في الخريطة التغريبية

 

عندما قام علماء الأزهر في وقت الخديوي إسماعيل برفض صريح لقانون نابليون الوضعي كبديل جذري عن الشريعة الإسلامية، لم يكن أمام إسماعيل سوى محاولة أخيرة منه لاستمالة الأصوات الرافضة، عبر إدخال صوت شرعي ملاين للرغبة الحاكمة.

خطاب شرعي يعمل كوسيط لتمرير القانون الوضعي تحت سرد علل وتبريرات تضفي الشرعية للقرار السياسي، فلم يجد الخديوي أفضل من رفاعة الطهطاوي، قال الخديوي لهإنك منهم، ونشأت معهم، وأنت أقدر على إقناعهم أن أوروبا ستضطرب إذا لم يستجيبوا إلى الحكم بقانون نابليون”.

أن يعمل العالم الشرعي كرجل جمارك ليشرف ويطمئن على مرور البضاعة التغريبية إلى (الميناء) الإسلامي، وينافح بعد ذلك عن هذا الخيار بأدلة شرعية ومبرّرات دينية وتأويلات وصيغ يتذرّع بها أمام التيار الأوسع الذي وثق بالخطاب الديني؛ هذه كارثة أخلاقية ومنهجية لا بد أن يتبصّر لها المتلقي المسلم ويعالجها بدل أن يقع في حبائلها.

(لا شك أن الخطاب الذي يستدل بآيات قرآنية وأحاديث نبوية، أكثر تأثيراً وقدرة على النفاذ في العقلية المسلمة، لا سيما أنها تشحن النفوس المهزومة بمبرر أمام الفكرة الليبرالية الضاغطة)[1].

هذه الورقة الرابحة تفطّن لها المستبد السياسي مبكراً، فقام الرئيس المصري عبد الناصر، وفي خضم صراعه مع خصومه، باستخدام الرموز الدينية والمؤسسات الدينية لإضفاء الشرعية على فكره الاشتراكي العربي، وأمّم جامعة الأزهر، وسيطر على الرواتب والميزانيات المالية للهيئات الدينية حتى تكون تحت تصرفه.

وكذلك فعل بورقيبة في بدء توليه الأمر، حتى إنه وقف مع الإسلاميين في حملتهم ضد (الطاهر حداد) صاحب كتاب (امرأتنا والشريعة). كان بورقيبة يخفي ملامحه العلمانية حتى يمتلك رصيداً ضخماً من تأييد الشارع التونسي، ولو على حساب مبادئ الليبرالية.

وفي المقابل العلاقة بين العالم الشرعي ومجتمع المثقفين هي علاقة توجس وريبة، يحيطها حذر وسوء ظن، خاصة من قبل المثقف، لكن في بعض الحالات يدني المثقف إليه ذلك الشيخ، ويعلي من قدره، ويبارك بعض فتاويه؛ في حين يسمح لنفسه بإقصاء أكبر عدد من أسماء العلماء والدعاة، ويناضل في سبيل إظهارهم بمظهر الجمود والتخلف والظلامية.

الإعلام التغريبي كذلك إعلام ماكر، وذلك عندما يصف شيخاً وينعته (بالشيخ المستنير)، فتحسس حروف المصداقية في لغته، وهذا هو ما حدث مع شيخ الأزهر (طنطاوي)، الذي كالوا له كل عبارات التفخيم لموافقة فتاويه أغلب رغباتهم، بل وصلت بهم الحال إلى تسميته (طهطاوي) بدل (طنطاوي) تيمّناً بالرائد التنويري.

وما ذكرناه لا يعني ولا يؤول بالضرورة إلى أن ذلك العالم الشرعي قصد عن وعي الترويج والتسويق للنظام التغريبي، قد يحدث ذلك في النزر اليسير منهم، لكن الأغلب يتم ذلك منهم عن قلة وعي بالواقع، وقلة بصيرة بالأحداث المعاصرة، وجهل بالجانب الفكري وتعقيداته على الواقع، وعدم قراءة مآلات الفتاوى التي تصدر منه، خاصة تحت ضغط الواقع.

العالم الشرعي النابه هو الذي يقدر على رؤية الحدث من عدة زوايا، ولا تثنيه مقولة أن الدولة ستُصبغ بالصبغة الإسلامية لمجرد أن حاكمها رضي أن يكتب في الدستور أن دين الدولة هو الإسلام! بينما الواقع المعاش يضج بتمثلاته العلمانية الصارخة.

العالم الشرعي النابه لا يعتقد إسلامية الدولة لمجرد أن الحاكم يشهد افتتاحيات الندوات والمؤتمرات بقراءة مجودة من القرآن الكريم.

العالم الشرعي لا بد أن يعي تسارع تحولات المنظومة التغريبية، وتجدد آلياتها ووسائلها، ولا بد أن يتواكب مع تجدد الوعي لدى الجيل الجديد الذي تأثر بالنقلة في وسائل الاتصال الحديثة.

أزعم أن الحل لتدارك الخروج من هذا المأزق هو صناعة (الشيخ المثقف)، الذي ارتوى من الثقافة المعاصرة إلى جوار ثقافته الفقهية، وبالتالي بات قادراً على امتلاك ناحية الإجابة عن أسئلة العصر، وإشكالاته الحادثة، وقضاياه المستجدة، وإن لم يستطع الشرعي سدَّ الحاجة الثقافية للسائل فسيطلبها على مائدة المثقف التغريبي، بعدما أصبح المثقف هو وريث الفقيه كما يزعم  المثقف العلماني (جورج طرابيشي).

وفي المقابل قد يكون الخطاب الفقهي المتشدد، والذي لا يستند إلى أدلة نقلية وعقلية صريحة؛ ذريعة لفرار شريحة من الناس صوب الخيار التغريبي، فقد ذكر بعض المفكرين والعلماء، كمحمد قطب والطنطاوي، في كلامهما عن تحرير المرأة؛ أن تأخّر بعض العلماء وتشددهم في إيجاد علاج لبعض الظواهر الاجتماعية وفي تلك المرحلة؛ كان سبباً غير مباشر في تسارع وتيرة ظاهرة التحلل من الدين عند قطاع من الناس، يقول الطنطاوي:

(لو أن العلماء دعوا إلى تحريرها باسم الإسلام، وضربوا لها المثل الكامل بالمرأة المسلمة، لما تركوا لقاسم أمين مجالاً لمقال، لكنهم سكتوا ورضوا وجاء أولئك وحرروها باسم الغرب)[2].

ويقول محمد قطب عن بعض العلماء الذين دافعوا عن المرأة في تلك الحقبة: (كان إخلاصهم للتقاليد أعمق حساً من إخلاصهم للدين)[3].

فغلبة الجهل على شريحة كبيرة من الناس في تلك الحقبة، ساعدت على انتشار ونفاذ مفاهيم ورؤى تغريبية، ونبذ بعض الفتاوى المتشددة أو حتى المتراخية عن التفاعل مع مشاكل مستجدة نشأت في زمنهم.

الفقيه أو (الشيخ) لم يكن بعيداً عن العبث التغريبي، العقل التغريبي جعله مخرج طوارئ يتخلّص من خلاله من بعض المآزق التي يمر بها. العلاقة ليست حميمية بين الطرفين، لكن التغريبي لا يعنيه هذا الأمر، فهو يتعامل بخبث ودهاء مع كل باب يجده مناسباً للولوج، فهي علاقة نفعية بامتياز يصل من خلالها إلى مبتغاه في إظهار هدف من أهدافه التغريبية على أنها حاضرة في الخطاب الشرعي، فيزعم أن الشيخ الفلاني قال بها، وقد يُستخدم ذلك الشيخ في إذابة مفهوم شرعي أو تجاوزه من قبل التغريبي بذريعة أن الشيخ فلان أفتى بذلك.

هذا التصرف الممجوج واللا أخلاقي يظهر لك سذاجة العقل التغريبي، فتوافق قوله مع قول ذلك المفتي لا يعني أن المنطلقات واحدة؛ فالأول قد يناله أجر الاجتهاد، والثاني قد يناله وزر العبث وسوء القصد.

في هذا السياق تقرأ لأحدهم قوله (الطوفي نجم ليبرالي)!

على  سبيل المثال شاكر النابلسي في كتابه العرب بين الليبرالية والأصولية، جعل من كلام الشيخ سيد طنطاوي، شيخ الأزهر، حول (جواز القرض الربوي)؛ وثيقة إدانة للفكر المتشدد الذي أطلق التحريم بالربا.

العقل التغريبي العابث يمارس هذه الحيل المكشوفة دون استبصار ومعرفة بما تحويه الخزانة الفقهية الضخمة من كيفية التعامل مع الخلاف، ومتى يعتبر سائغاً، ومتى لا يعمل به، وما الأصول المتبعة في هذا الوضع.

وفي ذات الكتاب يسخر من الشيخ (صالح الفوزان) لأنه حكم بكفر الليبرالية، ووصفه بأنه سقط في فخاخ الأسئلة الموجهة له من قبل تلاميذه.

شاكر النابلسي وقع في كارثة أخلاقية ومعرفية من الدرجة الأولى عندما اتهم الشيخ (بن باز) بأنه يفتي بأن المرأة التي تخرج من بيتها فهي زانية ويطبق عليها حكم الزانية[4]!

هذا التهور الفج في خرق القيم الأخلاقية والفجور في الخصومة والجهل ببدهيات فقهية، تجاسر على التقول فيه من لا يملك رصيداً شرعياً.

وفي سياق آخر، ربما تلجأ بعض القنوات التغريبية الشهوانية لاستضافة فقيه شرعي، وهنا تختلف الرؤية لتلك الاستضافة؛ فربما يتسامح معها البعض ويعتبرونها أمراً طبيعياً لا يحمل بين طياته سوء قصد من تلك القناة، لكن لا يطمئن آخرون لنوايا تلك المنظومة الفاسدة من القنوات، يقول الدكتور سعيد بن ناصر: (حينما نجد قناة مشهورة بالإفساد والمضارة لقيم الأمة وأخلاقها ومصالحها تعتني بشخص من الدعاة والمثقفين وتُسلط عليه الأضواء وتهتم به، الشيء الذي يخشى منه أن يصبح هذا الشخص رهينة لمن أحسن إليه إعلامياً وأبرزه، فلا تسأله عن الجناية الأخلاقية التي تمارسها القناة كالإفساد المبرمج والتسويق لقيم هوليوود أو الانحياز للمشروع الصهيوني الغربي)[5].

وكذلك في معركة التغريب استُخدمت ورقة الخلاف الفقهي كجسر لتغريب المجتمع، لذا فقد وعى المثقف الإسلامي تلك المسألة وكشف الغطاء عن اللغة الماكرة التي يتقنها في عرض وتحليل هذه القضايا، يقول الدكتور وليد الهويريني: (المؤسسات الإعلامية التي تنتسب للفكر الليبرالي تحتج بأقوال فقهية للأزهر والقرضاوي في الشأن السعودي، لكن عندما تُحلل الشأن المصري تقف بكل حماس مع التيارات العلمانية، ترتدي جلباب الشيخ محمد الغزالي في الرياض وبذلة العلماني المتطرف فرج فودة في القاهرة!)[6].

 

:: مجلة البيان العدد  318 صفر 1435هـ، ديسمبر  2013م.


[1] وليد الهويريني، الإسلاميون الجدد، 130.

[2] فصول إسلامية، علي الطنطاوي، 96.

[3] تحرير المرأة، محمد قطب، 13.

[4] العرب بين الليبرالية والأصولية 66.

[5] مقال ما يطلبه الإعلاميون، مجلة الأمة.

[6] تحولات الإسلاميين لوليد الهويريني.

 

 

أعلى