• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
تحرير موقف الصحابة من المرتدين (3)

تحرير موقف الصحابة من المرتدين (3)


سبق التأكيد في الجزأين السابقين على أن من شملهم اسم الردة في عهد الصحابة كانوا صنفين: صنف ترك الدين وانخلع منه بالكلية ورجع إلى عبادة الأوثان، أو اتبع المتنبئين؛ وصنف بقي على الدين لكنه أنكر الزكاة أو مانع من دفعها.

 وسبق التأكيد أيضاً على أن الصحابة أجمعوا على قتال المرتدين بجميع أصنافهم، أما الصنف الأول فلم يقع بين الصحابة خلاف في كفرهم ووجوب قتالهم، ولم يكن لدى أي أحد منهم إشكال في ذلك، وأما الصنف الثاني فقد عرض لبعض الصحابة إشكال في قتالهم ثم انتهى الحال بهم إلى الاتفاق على وجوب قتالهم.

وفي هذا الجزء سنناقش القضية الثالثة، وهي تحرير السبب الدافع لقتال الصحابة للمرتدين، وتحديد المناط المؤثر في حروبهم تلك.

وتدل الدلائل الكثيرة على أن الدافع الأولي الذي دفع بالصحابة إلى قتال المرتدين بكل أصنافهم هو أنهم خرجوا عن الإسلام وخالفوا أصوله الكبرى - كلها أو بعضها - ولم يكن البعد السياسي هو الدافع الأولي لهم.

أما الصنف الأول، وهم من ترك التدين بالإسلام جملة واتبع المتنبئين - كبني حنيفة مثلاً - فقد أجمع العلماء على أن موجب قتال الصحابة لهم هو كونهم ارتدوا عن الدين، وأن الصحابة إنما قاتلوهم لأجل ما وقع منهم من النكوص والارتداد.

 وقد تتالت مقولات العلماء في تأكيد هذا المعنى، ومما يدل على ذلك: تعليق الإمام الشافعي على الحوار الذي دار بين عمر بن الخطاب وأبي بكر، حيث يقول: «في قول أبي بكر: هذا من حقها لو منعوني عناقاً مما أعطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلته عليه = معرفة منهما معاً بأن ممن قاتلوا من هو على التمسك بالإيمان ولولا ذلك ما شك عمر في قتالهم ولقال أبو بكر قد تركوا لا إله إلا الله فصاروا مشركين»[1]، فهو يؤكد أن المرتدين الذين رجعوا إلى الشرك لا يشك الصحابة في قتالهم لأجل ما وقعوا فيه من الشرك، ويؤكد أن الدافع في قتال الصحابة ليس هو الخروج على الدولة، وإنما هو الخروج من الدين أو عدم الالتزام ببعض أصوله الكبرى.

وفي بيان ذلك يقول القاضي عياض بعد أن ذكر أن المرتدين كانوا ثلاثة أصناف: «فرأى أبو بكر والصحابة - رضي اللّه عنهم - قتال جميعهم؛ الصنفين الأولين لكفرهم، والثالث لامتناعه بزكاته»[2].

 ويقول الخطابي حين ذكر بعض أصناف المرتدين، وهم من أقر بالزكاة ولكن امتنع عن دفعها لأبي بكر: «في أمر هؤلاء عرض الخلاف، ووقعت الشبهة لعمر رضي الله عنه، فراجع أبا بكر رضي الله عنه، وناظره، واحتج عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقول: لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني نفسه وماله»[3].

وقال في من ارتد عن الإسلام: «وهؤلاء سماهم الصحابة كفاراً، ولذلك رأى أبو بكر سبي ذراريهم، وساعده على ذلك أكثر الصحابة، واستولد علي بن أبي طالب جارية من سبي بني حنيفة، فولدت له محمد بن علي، الذي يدعى ابن الحنيفية، ثم لم ينقض عصر الصحابة حتى أجمعوا على أن المرتد لا يسبى»[4]، وما أشار إليه الخطابي في قوله: «وساعده أكثر الصحابة» لا يقصد في الحكم بالكفر والقتال، وإنما في الموقف من السبي، وهذا ما يدل عليه آخر كلامه.

وقد نقل البغوي كلام الخطابي السابق، وفيه إضافة مهمة لا توجد في الأصل، وهي توضح مقصوده بجلاء، حيث يقول عن الصنف الذي ترك الإسلام وارتد عنه: «ولم يشك عمر رضي الله عنه في قتل هؤلاء، ولم يعترض على أبي بكر في أمرهم، بل اتفقت الصحابة على قتالهم وقتلهم، ورأى أبو بكر سبي ذراريهم ونسائهم، وساعده على ذلك أكثر الصحابة»[5].

ويقول ابن عبد البر معلقاً على حديث أبي هريرة: «قوله: «وكفر من كفر من العرب» لم يخرج على كلام عمر؛ لأن كلام عمر إنما خرج على من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله ومنع الزكاة وتأولوا قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103]، فقالوا: المأمور بهذا رسول الله لا غيره»[6]، فابن عبدالبر هنا يبين أن عمر إنما كان يناظر أبا بكر في صنف محدد من المرتدين، وسبب منازعته هو أنه لم يحصل منهم كفر لا أنه لم يحصل منهم خروج على الدولة، وفي بيان أبي بكر له بين أن السبب المبيح قتالهم هو أنهم لم يلتزموا بشعيرة من شعائر الإسلام لا لأجل أنهم خرجوا على الدولة أو شكلوا خطراً على أمنها.

ويقول الماوردي: «فأما أبو بكر رضي اللَّه عنه فإنه قاتل طائفتين: طائفة ارتدت عن الإسلام مع مسيلمة وطليحة والعنسي، فلم يختلف عليه من الصحابة في قتالهم أحد»[7].

ويقول ابن تيمية مؤكداً التقريرات السابقة: «ومعلوم أن مسيلمة الكذاب كان أقل ضرراً على المسلمين من هذا - أحد ملوك التتار - وادعى أنه شريك محمد في الرسالة، وبهذا استحل الصحابة قتاله وقتال أصحابه المرتدين»[8]، وفي تأكيد المعني نفسه يقول: «أمْر مسيلمة الكذاب وادعاؤه النبوة واتباع بني حنيفة له باليمامة وقتال الصديق لهم على ذلك أمر متواتر مشهور قد علمه الخاص والعام»[9]، بل إنه ينقل الإجماع فيقول: «لم نعلم أحداً أنكر قتال أهل اليمامة وأن مسيلمة الكذاب ادعى النبوة وأنهم قاتلوه على ذلك»[10].

وفي سياق حديثه عن فضائل أبي بكر يقول: «من أعظم فضائل أبي بكر عند الأمة أولهم وآخرهم أنه قاتل المرتدين وأعظم الناس ردة كان بنو حنيفة ولم يكن قتاله لهم على منع الزكاة بل قاتلهم على أنهم آمنوا بمسيلمة الكذب»[11].

وأما الصنف الآخر، وهم من منع الزكاة، فقد ذهب بعض العلماء إلى أن الموجب لقتالهم هو البغي وإعلان الحرابة على الصحابة، وأصبحوا لا يفرقون بين قتال البغاة وقتال الطائفة الممتنعة وقتال الخوارج ويجعلونها من جنس واحد، ويستدلون ببعضها على بعض، ولهذا فإن كثيراً من الفقهاء يستدل على قتال البغاة بقتال الصحابة لمانعي الزكاة وبقتال علي لبعض الصحابة في موقعة الجمل[12].

ولكن كثيراً من الفقهاء - وخاصة المتقدمين منهم - يفرق بين قتال الصحابة لمعاني الزكاة وقتال البغاة، فالطائفة المنكرة لوجوب الزكاة أو غير الملتزمة بإخراجها عندهم يجب قتالها ابتداءً ولو لم تبدأ بقتال، وأما الطائفة الباغية فإنه لا يجوز ابتداء قتالها إلا إذا هي بدأت بذلك.

وفي الكشف عن حقيقة هذا القول يقول ابن تيمية: «وكثير من الأئمة المصنفين في الشريعة لم يذكروا في مصنفاتهم قتال الخارجين عن أصول الشريعة الاعتقادية والعملية، كمانعي الزكاة والخوارج ونحوهم، إلا من جنس قتال الخارجين على الإمام، كأهل الجمل وصفين، وهذا غلط، بل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة فرق بين الصنفين، كما ذكر ذلك أكثر أئمة الفقه والسنة والحديث والتصوف والكلام وغيرهم»[13].

وفي سياق حديثه عن حكم قتال التتار بين أنهم ليس لهم حكم البغاة، وإنما هم من جنس مانعي الزكاة الذين قوتلوا على ما خرجوا به من الدين، فقال: «والصواب أن هؤلاء – التتار - ليسوا من البغاة المتأولين فإن هؤلاء ليس لهم تأويل سائغ أصلاً، وإنما هم من جنس الخوارج المارقين ومانعي الزكاة وأهل الطائف والخرمية ونحوهم، ممن قوتلوا على ما خرجوا عنه من شرائع الإسلام»[14].

وأكد أن قتال أبي بكر لمانعي الزكاة لم يكن لأجل أنهم امتنعوا عن أدائها لأبي بكر، وإنما لأنهم امتنعوا عن أدائها مطلقاً، حيث يقول: «أما الذين قاتلهم على منع الزكاة فأولئك ناس آخرون ولم يكونوا يؤدونها وقالوا لا نؤديها إليك، بل امتنعوا من أدائها بالكلية فقاتلهم على هذا لم يقاتلهم ليؤووها إليه، وأتباع الصديق كأحمد بن حنبل وأبي حنيفة وغيرهما يقولون إذا قالوا نحن نؤديها ولا ندفعها إلى الإمام لم يجز قتالهم؛ لعلهم بأن الصديق إنما قاتل من امتنع عن أدائها جملة لا من قال أنا أؤديها بنفسي»[15].

الأدلة على أن الدافع في قتال الصحابة للمرتدين هو البعد الديني:

وقد دلت القرائن الكثيرة والشواهد المتعددة على أن قتال الصحابة للمرتدين بكل أصنافهم – من خرج من الدين بالكلية ومن امتنع عن الزكاة، الصنف الأول لأجل درتهم وخروجهم من الدين والصنف الثاني لأجل امتناعهم عن العمل بعبادة ظاهرة –؛ كان الدافع فيه هو البعد الديني، وتؤكد أن قتالهم لم يكن لأجل الغرض السياسي ولا اقتصادي، ولا لأجل كونهم خرجوا عن الدولة، وإنما لأجل أنهم خرجوا عن الإسلام جملة، أو لأجل أنهم لم يلتزموا بشعيرة من شعائره الأساسية، ومن تلك الدلائل:

الدلالة الأولى: قول أبي بكر للصحابة: «والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة»، واستدلاله بقول الله تعالى: {فَإن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [التوبة: ١١]، وهذا يدل على أن البعد الذي كان له التأثير الحقيقي في قتال الصحابة للمرتدين هو البعد الديني وليس البعد السياسي، ولو كان غير ذلك، لقال: والله لأقاتلن من حاربنا أو من خرج على دولة الإسلام.

 ثم إن أبا بكر ربط حكم الزكاة بحكم الصلاة، وهذا يدل على أن الصحابة مجموعون على أنهم لو تركوا الصلاة لاستحقوا المحاربة والقتال، والصلاة ليس فيها بعد اقتصادي أو سياسي.

ثم إنه لو كان سبب قتال مانعي الزكاة هو البغي والحرابة والخروج على الدولة لما تردد عمر بن الخطاب في وجوب قتالهم؛ لكون ذلك أمراً منصوصاً ظاهراً في القرآن، وهذا يدل على أن مأخذ قتالهم عنده هو ما تركوه من شعائر الدين مع بقائهم على أصله.

الدلالة الثانية: كتابات أبي بكر للمرتدين، فحين وقعت حادثة الردة قام أبو بكر بكتابة كتاب عام أمر أن يقرأ على كل المرتدين، وجاء فيه: «من أبي بكر خليفة رسول الله، إلى من بلغ كتابي هذا من عامة وخاصة، أقام على إسلامه أو رجعه عنه... وقد بلغني رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أن أقر بالإسلام وعمل به... وإني بعثت إليكم فلاناً في جيش من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، وأمرته أن لا يقاتل أحداً منكم حتى يدعوه إلى داعية الله... وألا يقبل من أحد إلا الإسلام»[16]، وكذلك جاء نص مقارب للسابق في كتاب أبي بكر لبني أسد[17]، وجاء في كتاب أبي بكر لخالد حين أمره بالمسير إلى مسيلمة الكذاب: «فإذا قدمت عليهم فلا تبدأهم بقتال حتى تدعوهم إلى داعية الإسلام، واحرص على صلاحهم... واعلم أنك تقاتل كفاراً بالله...»[18].

وهذه الكتابات كلها تدل على أن السبب الموجب لقتال الصحابة للمرتدين هو كونهم كفروا بالله وانخلعوا من دين الإسلام، ولو كان موجب قتالهم هو السبب السياسي لقال فادعهم إلى الرجوع إلى سياج الدولة والخضوع لحكم القانون.

الدلالة الثالثة: عهد أبي بكر لأمراء الأجناد ووصاياه لهم، فحين خرجت الأجناد من المدينة كتب أبو بكر لهم عهداً جاء فيه: «هذا عهد أبي بكر خليفة رسول الله لفلان حين بعثه فيمن بعثه لقتال من رجع عن الإسلام»[19].

ولو كان قتالهم للسبب السياسي لقال: حين بعثنه فيمن بعثه لقتال من خرج على الدولة وخالف القانون.

الدلالة الرابعة: موقف الصحابة من قتلى حرب المرتدين، فإن أبا بكر حكم عليهم بالنار، فعن طارق بن شهاب، قال: «قدم وفد بزاخة، من أسد وغطفان، على أبي بكر، يسألونه الصلح، فخيرهم أبو بكر بين الحرب المجلية والسلم المخزية، فقالوا له: هذه الحرب المجلية قد عرفناها، فما السلم المخزية؟ فقال: أن تنزع منكم الحلقة والكراع وتتركوا أقواماً تتبعون أذناب الإبل، حتى يري اللهُ خليفةَ نبيه والمهاجرين أمراً يعذرونكم به، ونغنم ما أصبنا منكم، وتردوا إلينا ما أصبتم منا، وتَدُوا قتلانا، وتكون قتلاكم في النار»[20].

ومن كان سبب قتاله هو الخروج على الدولة لا يحكم على قتلاه بالنار؛ لأنه لا يلزم أن يكون كافراً.

فهذه الشواهد كلها تدل على معنى واحد، وهو أن قتال الصحابة للمرتدين إنما كان لأجل البعد الديني، وهو الارتداد عن الإسلام والانخلاع منه، أو لأجل أنهم لم يلتزموا بشعيرة من شعائره الأساسية.

 ولا بد من التنبيه هنا إلى أن جعل الدافع الأول لحروب الصحابة في الردة هو البعد الديني؛ لا يمنع أن يكون لحرب المرتدين أهداف أخرى سياسية واقتصادية، ولكنها تبقى أهدافاً تابعة وليست أولية.

التفسير السياسي لقتال الصحابة للمرتدين:

مع وضوح الأدلة ووفرة الشواهد الدالة على أن البعد الديني هو الدافع الأولي للصحابة في قتالهم للمرتدين إلا أن هناك رؤية مختلفة تشكلت في العصر الحديث، واشترك في بنائها بعض الخطاب العلماني كعلي عبدالرازق وغيره[21]، وكثير من الإسلاميين ممن تبنى رؤية معاصرة في قضية الحرية تأول من خلالها كل ما يخالفها من أحكام الشريعة الثابتة، كقضية جهاد الطلب وحد الردة وغيرها، وتتلخص هذه الرؤية في أن الدافع الأولي لقتال الصحابة للمرتدين لم يكن البعد الديني، وإنما كان البعد السياسي، فحروب الردة في نظرهم لم تكن لأجل إعادة من غيّر اعتقاده وخرج من الإسلام أو لأجل إلزام من امتنع عن أداء فريضة من فرائض الإسلام الأساسية، وإنما هي في نظرهم لأجل أنهم مواطنون تخلوا عن التزاماتهم وواجباتهم باعتبارهم أعضاء في الدولة، ولأنهم سعوا إلى الانفصال عن سجد الدولة وأعلنوا الحرب عليها، وأمسوا يشكلون خطراً على أمنها واستقرارها[22].

وحاول بعضهم أن ينكر كون ما حصل من القبائل العربية ردة عن الدين أو خروجاً عنه، فقد ذهب محمد عمارة إلى أن حركة الردة لم تكن ضد دين الإسلام وإنما ضد دولة الإسلام، وفي سياق توضيح ذلك أكد أن أحداً من المتنبئين لم ينازع في توحيد الله، ولا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولم ينكر أحد منهم قضية الوحي الإلهي، وإنما أنكروا فقط تفرد النبي واستقلاله بالنبوة، تعصباً منهم وحسداً، «فنحن هنا أمام تمردات قبلية، تشق الوحدة التي أقامتها الدولة العربية الإسلامية الوليدة، التي يحكمها بني قريش، فهي انشقاقات ضد الوحدة، ولأن دولة الوحدة هذه يقودها نبي، فلقد زعم قادة هذه الانشقاقات أنهم هم الآخرون أنبياء... فهي إذن ردة سياسية، حاولت تبرير نفسها وستر عورتها برداء مهترئ من التنبؤ في الدين»[23].

وهذا التفسير السياسي لحروب الردة مصادم لحقيقة ما كانت عليه تلك الحروب، ومتناقض مع حال الصحابة في التعامل معها، فإن هناك نصوصاً كثيرة كما سبق بيانه تدل على أن دافعهم في محاربة القبائل المرتدة لم يكن لأجل أنهم أعلنوا الخروج عن حكم الدولة ولا لأنهم باتوا يشكلون خطراً على أمنها، وإنما لأنهم أعلنوا الخروج عن الدين أو لأنهم أعلنوا عدم الالتزام بعبادة من أصول الإسلام وأركانه الأساسية، وأصحاب التفسير السياسي لحروب الردة لم يقدموا جواباً على تلك الأدلة والشواهد، وإنما أغفلوها وأعرضوا عنها وكأنه ليس لها وجود!

ومع ذلك فقد حاول أصحاب الرؤية الجديدة في تفسير حروب الردة أن يبرروا رؤيتهم تلك فاستندوا إلى عدة تبريرات ترجع في مجلها إلى ثلاثة تبريرات أساسية، وهي:

المبرر الأول: القول بأنه لو كانت حروب الردة لأجل البعد الديني فإنه هذا يعني أن الصحابة وقعوا في المخالفة للنصوص الشرعية الناهية عن الإكراه، كما في قوله تعالى: {لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256].

وهذا المبرر غير صحيح، وهو متضمن لسوء فهم للمراد من الآية، فإن الصحيح أن هذه الآية لا علاقة لها بحالة الردة، وإنما هي متعلقة بحالة الدخول في الإسلام، وقد اختلف المفسرون فيها وذكروا سبعة أقوال[24]، ولكن كل تلك الأقوال تتمحور حول حالة الدخول في الإسلام، ولم يذكر أحد منهم قولاً يتعلق بحالة الخروج من الدين والارتداد عنه.

وهذا ما يدل عليه سبب نزولها، فعن ابن عباس قال: كانت المرأة تكون مقلاتاً - أي لا يعيش لها ولد - فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا لا ندع أبناءنا فأنزل الله عز وجل  {لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256][25].

ثم على التسليم بأن هذه الآية تشمل حتى حالة الخروج من الدين، فإن الأمة مجمعة على تخصيص المرتد منها، وفي نقل الإجماع يقول ابن حزم: «لأنه لم يختلف أحد من الأمة كلها أن هذه الآية ليست على ظاهرها؛ لأن الأمة مجمعة على إكراه المرتد عن دينه»[26].

المبرر الثاني: الاعتماد على أن الدافع الذي كان وراء ارتداد القبائل العربية هو البعد القبلي وهو الذي ادعى بهم إلى الثورة على حكم قريش للدولة، ولم يكن لديهم ارتداد حقيقي عن أصل الدين، فبما أن الأمر كذلك فإن الدافع في حروب الصحابة هو إرجاعهم إلى دائرة الدولة الإسلامية الوليدة.

وقد لقي هذا المبرر انتشاراً كبيراً، ويكاد يجمع أصحاب الرؤية الجديدة على الاعتماد عليه، وهو من أغرب المبررات وأعجبها، فهو أولاً مخالف للنصوص الصريحة جداً المنقولة عن الصحابة في بيان حقيقة ما وقع من القبائل العربية، ومن ذلك ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: «قال لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر رضي الله عنه وكفر من كفر من العرب..»[27]، فها هو أبو هريرة، وهو بلا شك أعلم من المعاصرين بحال المرتدين، يخبر بنص صريح أن ما حصل منهم هو ردة عن الدين وكفر به.

ثم إن في هذا المبرر حكم على قصد الصحابة بناء على قصد المخالفين لهم، فلو سلمنا بأن تلك القبائل العربية خرجت لأجل البعد القبلي فقط، وكان هدفها هو الثورة على الدولة، فما المبرر الذي يجعل قصد الصحابة موافقاً لقصدهم، فهل هناك دليل عقلي أو واقعي يؤكد ذلك؟! وهل هناك دليل يؤكد أن مقاصد المتحاربين لا بد أن تكون متفقة ومتواردة على جهة واحدة دائماً؟!! وكيف نترك مقالات الصحابة أنفسهم ونتجاوز حديثهم وخطاباتهم التي عبروا فيها عن دافعهم لقتال المرتدين، ونعتمد على حالة المرتدين لنفسر بها دافع الصحابة؟!!

إن الطريقة الصحيحة في تحديد هدف الصحابة من حروب الردة هي أن نرجع إلى مقالاتهم ومواقفهم التي صدرت منها ونستخرج منها الغاية التي كانت وراء قتالهم للمرتدين، وليس أن نقوم بتحليل مواقف أناس آخرين ونستخرج منها مقاصد أناس مختلفين عنهم في أهدافهم وغاياتهم وعلمهم ومعرفتهم.

المبرر الثالث: الاعتماد على قول بعض الفقهاء الذين أشاروا إلى أن قتال الصحابة لمانعي الزكاة كان من أجل البغي، كما سبق نقل ذلك.

وإذا تجاوزنا البحث في صحة موقف أولئك الفقهاء في تفسيرهم لقتال الصحابة لمانعي الزكاة، فإن الاعتماد على قولهم في تعميم التفسير السياسي لكل حروب الردة غير صحيح، بل فيه قفز ظاهر لمواقف أولئك العلماء التفصيلية الواضحة، فإن العلماء الذين أشاروا إلى أن قتال الصحابة لمانعي الزكاة كان لأجل البغي لم يجعلوا ذلك عاماً في كل أصناف المرتدين، بل نصوا بأنفسهم على أن قتال الصحابة لمن ترك الدين واتبع المتنبئين - كبني حنيفة وغيرهم - كان لأجل الردة والخروج من الدين، كما سبق نقل كلامهم.

فهم لم يقولوا أن كل حروب الردة كانت لأجل البغي كما يقول أصحاب التفسير السياسي -، وإنما كانوا يتحدثون عن صنف محدد، وهو مانعو الزكاة فقط، ولكن بعض الباحثين استثمر قولهم ذلك فجعل علة قتال الصحابة لكل أصناف المرتدين هي البغي والخروج عن نظام الدولة، وهذا تعميم خاطئ، وتجاوز في الاستدلال.

فإذا سلمنا بأن قتال مانعي الزكاة كان لأجل البغي، فهذا لا ينفع أصحاب التفسير السياسي لحروب الردة؛ لأنهم يقولون إن كل الحروب التي خاضها الصحابة ضد المرتدين كانت لأجل البعد السياسي، وغاية ما يدل عليه حديث بعض الفقهاء عن مانعي الزكاة أن بعض حروب الصحابة كانت لأجل البغي والخروج على الدولة، فالمبرر الذي اعتمدوا عليه إذن أضيق من الدعوى التي يدعونها.

ومن خلال التحليل السابق ينكشف بوضوح أن الرؤية المعاصرة التي تفسر حروب الردة تفسيراً سياسياً رؤية مخالفة للأدلة والشواهد المنقولة، وهي أيضا لم تعتمد على مبررات صحيحة سالمة من الخلل، وبالتالي فإنها رؤية خاطئة غير مقبولة.

 

** تحرير موقف الصحابة من المرتدين (1)

** تحرير موقف الصحابة من المرتدين (2)

** تحرير موقف الصحابة من المرتدين (3)

:: مجلة البيان العدد 306 صفر 1434هـ، ديسمبر2012م.


[1]  الأم (4/215).

[2] إكمال المعلم بشرح صحيح مسلم (1/181).

[3] معالم السنن، الخطابي (2/165).

[4] معالم السنن (2/166).

[5] شرح السنة (5/490).

[6] الاستذكار، ابن عبدالبر (3/214).

[7] الحاوي، المارودي (13/101).

[8] مجموع الفتاوى (28/522).

[9] مناهج السنة النبوية (4/492)، وانظر: المرجع نفسه (4/494).

[10] المرجع السابق  (4/492).

[11] منهاج السنة النبوية (8/324).

[12] انظر: أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري، الخطابي (1/742)، وفتح الباري، ابن حجر (12/277)، والحاوي الكبير، الماوردي (13/221)، ومغني المحتاج، الخطيب الشربيني (4/123)،  والكافي في فقه أحمد بن حنبل، ابن قدامة (4/54)، وكشاف القناع، البهوتي (6/158).

[13] مجموع الفتاوى (28/486).

[14] مجموع الفتاوى (28/548).

[15] منهاج السنة النبوية (8/324)، وانظر: المرجع نفسه (8/233).

[16] تاريخ الطبري (2/141)، والبداية والنهاية، ابن كثير (6/348)، ومجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، محمد حميد الله (340).

[17] مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي (347).

[18] الردة، الواقدي (71)، ومجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة (349).

[19] تاريخ الطبري (2/142)، ومجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة (344).

[20] أخرجه: أبو عبيد، القاسم ابن سلام في الأموال (254)، وابن زنجويه في الأموال من طريق أبي عبيد (742)، وابن أبي شيبة في مصنفه (33400)، وسعيد بن منصور في السنن (2/316)، وإسناده صحيح.

[21] انظر: الإسلام وأصول الحكم، علي عبدالرازق (114-117).

[22] انظر: لا إكراه في الدين، طه جابر العلواني (149)، والحريات العامة، عبدالحكيم العيلي (431)، والحقوق والحريات السياسية في الإسلام، رحيل غرابية (355)، والإسلام وحرية الفكر، جمال البنا (205)، وحرية الفكر في الإسلام، عبدالمتعال الصعيدي (65)، وحرية الاعتقاد في القرآن الكريم، عبدالرحمن حللي (125)، وحق الحرية في العالم، وهبة الزحيلي (148)، وقتل المرتد الجريمة التي حرمها الإسلام، محمد منير إدلبي (121)، ونصوص الردة في تاريخ الطبري، محمد حسن آل ياسين (90).

[23] الدولة الإسلامية بين العلمانية والسلطة الدينية (125-126)، وانظر في إنكار حدوث الردة الدينية في القبائل العربية: نصوص الردة في تاريخ الطبري، محمد حسن آل ياسين (92- 101).

[24] انظر: فتح القدير، الشوكاني (1/470).

[25] أخرجه: أبو داود في سننه، رقم (2682)، وصححه الألباني.

[26] المحلى (11/195)، وانظر: المحلى أيضاً (7/346).

[27] أخرجه: البخاري، رقم (1399).

أعلى