يعود أول قانون مُنظِّم للأسرة في المغرب إلى العام 1957م، عندما تمَّ وضع مدونة الأحوال الشخصية آنذاك وفقًا للمذهب المالكي من طرف علماء المغرب، كان من بينهم: علال الفاسي وعبد الله كنون
يدرك الغرب والتيار العلماني في العالم العربي أن القوانين المُنظِّمة للأسرة
المسلمة هي آخر القلاع التي لا تزال تشهد على بقاء الشريعة والفقه في المجتمع
الإسلامي، ولذلك ما يفتآن في كل مرة يدقّان بعنفٍ على هذا الباب كي يُفتح لهما.
ولكن بقدر ما يدرك الغرب أن هذه القوانين المستمَدة من الشريعة الإسلامية تمتعت
بكثير من التحصين والممانعة طيلة العقود الماضية منذ الموجة الاستعمارية، بما يدلّ
على فشله في تقويضها؛ بقدر ما عمل على تجنيد تيارات علمانية في داخل المجتمعات
الإسلامية؛ بحيث يبدو مطلب إسقاط الجوانب المستمَدة من الشريعة في هذه القوانين
نابعًا من هذه المجتمعات نفسها، وانعكاسًا لتحولات
«موضوعية»،
لذلك صار هذا المطلب يتستر وراء مقولة
«الاجتهاد»
وليس العصرنة أو التحديث، حتى يتم إقناع الرأي العام بأطروحات هذه التيارات
العلمانية المتطرفة.
بيد أن هذه الاستراتيجية ليست جديدة تمامًا، فقد تم تطبيقها وترويجها على مراحل
طيلة القرن الماضي، وجُنِّد لها مفكرون وباحثون أمثال قاسم أمين وهدى شعراوي في
مصر، والطاهر حداد في تونس؛ حيث كان هؤلاء يتذرعون بالاجتهاد والتجديد في مطالبهم
الداعية إلى
«تحرير»
المرأة المسلمة وفقًا للمفهوم الأوروبي، وتحقيق المساواة المطلقة بينها وبين الرجل،
وتعديل قواعد الإرث التي وضعها الإسلام ونزل بها القرآن الكريم، ومحاربة التعدُّد،
وغيرها من القضايا.
غير أنه ما من بلد مسلم تجرَّأ على المساس بهذه الحدود سوى تونس في عهد الحبيب
بورقيبة خلال عقد الخمسينيات من القرن الماضي، عندما فرَض قانون جديدًا للأسرة
يخالف الشريعة.
واليوم مع التغول الغربي، والتمدد الصهيوني، وهيمنة المنظمات الدولية، وسعي الغرب
إلى فرض نماذجه الحضارية بالسلطة الناعمة، بعد أن فشل في فرضها بالسلطة القهرية في
الماضي؛ بدأت بعض الأصوات تتعالى في العالم العربي مُطالِبَة بالتخلُّص النهائي من
أحكام الشريعة الإسلامية في قوانين الأسرة، بل أصبح ما كان يُقال في الدوائر
الضيِّقة بين المستشرقين الأوروبيين وفي المؤلفات الغربية حول ظلم الإسلام للمرأة
وهضم حقوقها في الإرث؛ يقال علنًا على ألسنة العلمانيين في المجتمعات العربية.
ويُعدّ المغرب اليوم نموذجًا حيًّا لهذه المطالب المتطرفة التي يجري التعبير عنها
علنًا في الندوات والبيانات والمذكرات المطلبية؛ فقد تحرَّكت الآلة العلمانية في
الفترات الأخيرة بشكلٍ نَشِطٍ؛ بهدف الضغط على الدولة ومواقع القرار من أجل العمل
على إدخال تعديلات جديدة على مدونة أحكام الأسرة، تهمّ جوانب عدة منها، وبخاصة ما
يتعلق فيها بنظام الإرث والتعصيب.
ويعود أول قانون مُنظِّم للأسرة في المغرب إلى العام 1957م، عندما تمَّ وضع مدونة
الأحوال الشخصية آنذاك وفقًا للمذهب المالكي من طرف علماء المغرب، كان من بينهم:
علال الفاسي وعبد الله كنون.
وقد عمرت تلك المدونة قرابة أربعة عقود، إلى أن دخل عقد التسعينيات من القرن الماضي
الذي شهد ظهور جمعيات ومنظمات نسوية ذات مشرب علماني، نشأ جُلّها من أحشاء الأحزاب
السياسية العلمانية واليسارية، بدأت تطالب بتعديل المدونة وإعمال مبدأ المساواة.
وفي عام 1992م استجاب الملك الراحل الحسن الثاني لمطالب محدودة لهذه الحركات
النسوية، وأعلن أنه بصفته
«أميرًا
للمؤمنين»
هو الوحيد المُخوّل له تفسير الآيات القرآنية؛ وذلك ردًّا على مَن كانوا يستدلون
ببعض الآيات القرآنية حول عدم التمييز بين الذكر والأنثى، من أجل إسقاطها على مدونة
الأحوال الشخصية وتوظيفها لأغراضهم.
غير أنه بوفاة الملك السابق ومجيء الملك الحالي محمد السادس عام 1999م؛ أخذت جبهة
العلمانيين تصطف فيما بينها؛ من أجل ممارسة الضغط على الملك الجديد وجرّه إلى
صَفّها، فسعت إلى نقل الصراع إلى الشارع بهدف استعراض قوّتها أمام الملك الجديد،
والتلويح بأن الشارع المغربي إلى جانبها، لكنَّ هذه المناورة فشلت.
فخلال العام نفسه الذي تولَّى فيها المَلِك الحُكْم، وضعت الحكومة التي كان يقودها
اليسار برئاسة الاشتراكي عبد الرحمان اليوسفي، مشروعًا شاملاً حول المرأة لتنزيل
أهداف وتوصيات مؤتمر بيكين الذي عُقد عام 1995م، ومن جملتها إدخال تعديلات جوهرية
على مدونة الأحوال الشخصية فيما يُقرّبها أكثر من العلمنة؛ وقد أطلق على ذلك
المشروع تسمية
«الخطة
الوطنية لإدماج المرأة في التنمية».
لكنَّ الخطة فجَّرت صراعًا واسعًا بين التيار المتدين والتيار العلماني، واصطف
العلماء والمثقفون الأصلاء إلى جانب التيار الأول، كما مال إليه أيضًا بعض الشخصيات
السياسية من بعض الأحزاب اليسارية، ممن أدركوا حجم التهديد المحيط بالهوية الدينية
للدولة والمجتمع، وفي يوم 12 مارس عام 2000م نظَّم الفريقان مسيرتين كبريين غير
مسبوقين في تاريخ البلاد؛ الأولى في الدار البيضاء وخرج فيها التيار الأول المتدين،
والثانية في الرباط وخرج فيها اليسار والعلمانيون؛ إلا أن هذه المسيرة الثانية كانت
أضعف بكثير مقارنةً بمسيرة الدار البيضاء، مما جعل التيار العلماني يعرف حجمه
الحقيقي، بيد أن المسيرتين في الوقت نفسه جعلتا الوسط العلماني والغرب يدركان القوة
الوازنة التي يحظى بها الدين لدى المغاربة.
نتيجةً لهذا الصراع حاول القصر إمساك العصا من الوسط، فاستجاب لعددٍ من مطالب
التيار العلماني في التعديلات التي أدخلت عام 2004م على مدونة الأحوال الشخصية،
التي صارت تُسمَّى
«مدونة
الأسرة»،
وكان من جملتها: منع التَّعدُّد، وتحديد سن الزواج في 18 سنة، ووضع الطلاق بيد
القضاء، واستفادة المرأة المطلقة من الأموال المكتَسبَة أثناء قيام الزوجية.
واليوم بعد مرور عقدين تقريبًا على تلك التعديلات؛ طرح التيار العلماني مطالب
جديدة، ونادى بإدخال تعديلات جوهرية على المدونة، وصار يضغط من جديد مدعومًا من
منظمات أجنبية من أجل إرغام الدولة على الاستجابة لمطالبه.
وفي شهر مارس من العام الماضي قال الملك محمد السادس في خطابه أمام البرلمان:
«إنه
يريد أن يُعزّز حقوق المرأة، ويعمل على إنصافها في تعديلات جديدة سيتم إدخالها على
المدونة»؛
إلا أنه صرح بأنه
«بصفته
«أميرًا
للمؤمنين»
فلن يحرم حلالًا أو يُحلِّل حرامًا».
وبينما وقف التيار المتدين عند العبارة الأخيرة، وفهم منها أن الملك لن يمسّ
بالجوانب المرتبطة بالشريعة الإسلامية خاصةً في قضايا الإرث والتعصيب؛ وقف التيار
العلماني عند إشارات الملك إلى الرغبة في تعزيز حقوق النساء وإعمال مبدأ الاجتهاد.
وقد توالت المذكرات المطلبية خلال الفترات الماضية، وعقد الندوات واللقاءات في
الفضاء العام، للترويج لهذه المطالب. غير أن المطالب الجديدة هذه المرة أخذت طابعًا
مختلفًا عن المراحل السابقة، فقد طوَّر التيار العلماني من أساليبه، وأدخل تغييرات
على خطابه، وصار أكثر وضوحًا وتطرفًا، ولم يعد يلجأ إلى المناورة أو التلميح، بل
صار يميل إلى التصريح؛ إذ أصبح يلجأ إلى تحريف الآيات القرآنية، وينكر علنًا أن
يكون التعصيب قد ورد في القرآن، ويطعن في نظام الإرث، دون أن يخفى بأن ذلك طعن صريح
في القرآن الكريم، بل يعتبر الإرث اجتهادًا من الصحابة، ومِن ثَمَّ يتعين وضع نظام
جديد للإرث.
من ضمن هذه المذكرات المطلبية: مذكرة من نحو ستين صفحة، وضعتها قبل نحو أسبوعين
ثماني شخصيات سياسية من أحزاب يسارية، ومعهم شخصان آخران مستقلان؛ أحدهما طبيب
معروف في المغرب بأنه من الداعين إلى السماح بالإجهاض، ولديه جمعية تنشط في هذا
النطاق، وباحثة نسوية فرنكوفونية زوجة لمسؤول في الدولة لديها مُؤلَّفات باللغة
الفرنسية تزعم فيها أنها تقرأ القرآن
«قراءة
نسوية».
وقد وردت في هذه المذكرة مطالب غريبة تستهدف الشريعة الإسلامية بشكل مباشر، تحت
دعوى الاجتهاد والحداثة والتجديد؛ إذ طالبت بإدخال عبارة
«يمكن
أن تكون الوصية لوارث، وذلك دون موافقة الورثة الآخرين»،
وهذا ردّ صريح -كما يتبين- للحديث النبوي:
«لا
وصية لوارث»،
وإلغاء التعصيب، والسماح بالتوارث بين المسلمين وغير المسلمين من اليهود والنصارى؛
حيث وصفت ما ينص عليه نظام الإرث الإسلامي الذي يمنع التوارث بين المسلم والكافر
بأنه
«حالات
غير معقولة»؛
كما طالبت بحقّ المسلمات في الزواج من غير المسلمين.
لكن ما يثير استغرابنا في المذكرة أنها استُعملت التدليس على المواطنين واللجوء إلى
الكذب؛ فقد ورد في ديباجتها ما يلي:
«للامتثال
لهذه المبادئ الأساسية طلبنا رأي بعض من علماء الدين المغاربة بشأن موقف الدين من
كافة القضايا التي يتم تناولها في هذه الورقة»،
ثم أوردت فقرة من خمسة أسطر على لسان هؤلاء
«العلماء»،
يؤكدون فيها أنهم يدعمون هذه المطالب ويعتبرونها خطوة مهمة في الإصلاح؛ لكنَّ أصحاب
المذكرة لم يذكروا أي اسم من أسماء هؤلاء
«العلماء»
المزعومين، خصوصًا وأن مطالب مثل هذه تُخالف الشريعة الإسلامية لا يمكن أن ينسب
دعمها إلى مجهولين؛ إذ لا بد أن يُعرَفوا ويُعرَف نوع
«الاجتهاد»
الذي بنوا عليه هذا التأييد، حتى يدخل معهم العلماء الآخرون في حوار؛ فالمذكرة إما
أنها مارست التدليس بالكذب واختلاق هذه الفكرة، أو أنها دلَّست على بعض العلماء،
وأخفت عليهم المطالب المتطرفة، علمًا بأن هذا الاحتمال ملغي؛ لأن الواجب أن يطلع
هؤلاء العلماء على المذكرة قبل النشر والتعميم، وعدم الاطلاع يخلي ساحتهم من
المسؤولية، وإما أن أصحاب المذكرة لجأوا إلى أشخاص لا علاقة لهم بالعلم الشرعي
لتسويغ تلك المطالب، ولذلك أخفت أسماءهم؛ خوفَ الفضيحة.