يمكن وصف اللقاء الثلاثي، بأنه بالغ الأهمية في إنفاذ الاستراتيجية الأمريكية، وفي فهمها أيضًا، وأنه سيكون لهذا اللقاء ما بعده؛ إذ هو مؤشر على ما هو قادم قياسًا على التاريخ الدموي في صراعات تلك المنطقة من العالم.
لم يكن اللقاء الذي جرى مؤخرًا بين قادة كوريا الجنوبية واليابان والولايات المتحدة
-في كامب ديفيد بولاية مريلاند- لقاءً عاديًّا بين الولايات المتحدة وحلفائها. لقد
كان في الأصل، لقاءً يابانيًّا كوريًّا سبق أن تعذَّر انعقاده بهذه الصفة لسنوات
طوال؛ بسبب الإرث التاريخي للصراع الدموي بين البلدين خلال احتلال اليابان لكوريا
طوال 35 عامًا. كما كان لقاءً لإعلان اتفاق البلدين -والولايات المتحدة- على صيغة
للتحالف العسكري أقرب إلى نمط حلف الناتو، وهذه المرة في مواجهة الصين، بما مثَّل
قفزة خطيرة باتجاه الاستعداد للحرب.
وفي ذلك حقَّقت الولايات المتحدة -بجمع الطرفين لأول مرة وَفْق هذا التوافق- هدفين؛
الأول أن تخطَّت أخطر مشكلة واجهتها في بناء تحالف عسكري بين حليفين لها في جوار
الصين -وفي مواجهتها-. والآخر أن نجحت في دفع كوريا الجنوبية واليابان نحو
الاستعداد لمواجهة عسكرية مشتركة ضد الصين، أو أنها بدأت الاستعدادات والدفع نحو
إشعال حرب إقليمية في آسيا، على غرار ما فَعلته من إشعال الحرب بين أوروبا وروسيا،
في أوكرانيا.
وهي تحركات وتطورات باتت كاشفة للملامح العامة للاستراتيجية الأمريكية في مواجهة
حالة تعدُّد الأقطاب، أو في مواجهة الخطة التي توفر لها عوامل دَفْع دولي متزايدة
لإنهاء هيمنة الولايات المتحدة الموصوفة بأحادية القطبية، وتصل حد السعي إلى إحلال
نظام دولي بديل للنظام الغربي بإجماليته.
إذ يبدو واضحًا الآن، أن الولايات المتحدة قررت إضعاف أعدائها وحلفائها معًا، عبر
الدفع بهم لأتون حروب وصراعات تجلس هي خلالها في مقعد إدارتها، لتخرج في نهاية
المطاف، دولة مهيمنة على العالم، مجددًا.
ولذا يمكن وصف اللقاء الثلاثي، بأنه بالغ الأهمية في إنفاذ الاستراتيجية الأمريكية،
وفي فهمها أيضًا، وأنه سيكون لهذا اللقاء ما بعده؛ إذ هو مؤشر على ما هو قادم
قياسًا على التاريخ الدموي في صراعات تلك المنطقة من العالم.
المؤتمر الصحفي والبعد العسكري الطاغي
شهد المؤتمر الصحفي الذي عقده القادة الثلاثة، تصاعدًا في نبرة الحديث عن العلاقات
العسكرية أو عن توافق تحقق لتعميق العلاقات العسكرية بين كوريا الجنوبية واليابان،
وبطبيعة الحال مع الولايات المتحدة.
ووفقًا للبيان الختامي، فقد اتفق الرئيس الأمريكي ونظيره الكوري الجنوبي ورئيس
وزراء اليابان خلال القمة الثلاثية على تعميق العلاقات العسكرية، وهو تطوُّر جاء
مقرونًا بالتنديد المشترك بما وُصِفَ بـ«السلوك
الخطير والعدواني»
للصين في بحر الصين الجنوبي.
وكان لافتًا أن جرى الحديث في وسائل الإعلام الأمريكية، عن أن إدارة بايدن عقدت قمة
مع زعيمي الحليفين الرئيسيين للولايات المتحدة في آسيا؛ في محاولةٍ منها لإظهار
الوحدة في مواجهة القوة المتنامية للصين والتهديدات النووية من كوريا الشمالية.
وفي البيان الختامي المشترك -كان لافتًا أكثر- تأكيد القادة الثلاثة على التزامهم
بالتشاور مع بعضهم البعض، وعلى نحو فوري خلال الأزمات، وعلى تنسيق الاستجابة
للتحديات الإقليمية والاستفزازات التي تؤثر على المصالح المشتركة.
كما اتفقوا على عقد تدريبات عسكرية مشتركة سنويًّا، وعلى تبادل المعلومات في الوقت
الفعلي بخصوص تجارب الإطلاق الصاروخي التي تُجريها كوريا الشمالية. كما تعهَّدت
البلدان الثلاثة بعقد قمة ثلاثية سنويًّا.
ووفقًا للخبراء؛ فقد ذهب الاتفاق في تلك القمة إلى ما يوازي الالتزام الوارد في
المادة الخامسة من معاهدة حلف شمال الأطلسي (الناتو) التي تُلزم الحلفاء بـ«اتخاذ
إجراء»
في حالة وقوع هجوم على أيّ عضو من أعضاء الحلف.
وهو استنتاج كان واضحًا أيضًا في القراءة الصينية لنتائج هذا اللقاء؛ إذ نقلت صحيفة
جلوبال تايمز الصينية -التي يُصدرها الحزب الشيوعي الصيني باللغة الإنجليزية- عن
خبراء قولهم:
«إن
التقارب بين الدول الـ3 دليل إضافي على أن الولايات المتحدة تسعى لتحجيم الصعود
الصيني. وإن قمة قادة الدول الـ3 استهدفت تشكيل هيكل
«ناتو
مصغَّر»
سيكون مُدمِّرًا للأمن الإقليمي، وسيجعل الوضع أكثر تعقيدًا مع حدوث المزيد من
الصراعات».
وفى مثل هذا التوافق الثلاثي، بدا أنَّ كلا الموقفين الكوري والياباني قد طرأ
عليهما تغيير حاسم. فاليابان كانت قد أعلنت من قبل عدم استعدادها للانضمام إلى
اتفاق عقدته واشنطن وسيول، في أبريل 2023م، يتعلق بدخول كوريا الجنوبية ضمن التخطيط
الاستراتيجي للولايات المتحدة، لاستخدام الأسلحة النووية في أيّ صراع مع كوريا
الشمالية. وكانت قد برَّرت رفضها الانضمام لهذا الاتفاق، باعتبارها الدولة الوحيدة
التي استُخْدِمَت الأسلحة النووية ضدها.
وكوريا الجنوبية كانت قد وضعت شروطًا للقبول بالتعاون مع اليابان، تتعلق بتقديم
اعتذار وإدارة حركة دبلوماسية للتعويض عن الحرب العدوانية والجرائم التي ارتكبها
الجيش الياباني خلال احتلال كوريا، ولكن تغير موقفها بسبب ما وُصِفَ باتخاذ خطوات
قوية للانفتاح على اليابان.
ولذلك يمكن اعتبار اللقاء بمثابة فتح لأبواب الحرب في هذا الإقليم من العالم.
وبالدقة يمكن النظر إليه كبداية لإشعال فتيل الحرب مع الصين، التي باتت تُصعِّد هي
الأخرى؛ إذ شهدت الفترة الأخيرة زيادة في وتيرة مناوراتها الضخمة باتجاه تايوان،
كما زادت الصين من تدريباتها ومناوراتها العسكرية مع روسيا في مواجهة هذا التحالف،
حتى قبل تدشينه رسميًّا.
ويزيد من احتمالات اشتعال الحرب؛ أن الفترة الأخيرة شهدت تكاثر وتواصل إطلاقات
صواريخ كوريا الشمالية، كما تعددت إعلاناتها عن الاستعداد للحرب. وهي تطورات تُضاف
إلى حالة التصعيد الجارية في بحر الصين الجنوبي بين القوات الأمريكية والصينية،
وإلى الاحتكاكات المتنامية بين الفلبين والصين.
نجاح في التغلُّب على الثأرات التاريخية
حسم اللقاء إشكالية طالما عانت منها الولايات المتحدة بعد تحوُّلها من سياسة
التفريق بين اليابان والدول الأخرى، إلى سياسة تقليل الثأرات، والسعي إلى بناء
تحالفات عسكرية متينة في مواجهة الصين وكوريا الشمالية.
لقد كان بالإمكان القول -سابقًا-: إن الولايات المتحدة، وبالدقة قواتها العسكرية
الموجودة على أراضي اليابان وكوريا الجنوبية، هي العنصر التوحيدي أو الرابط بين
حليفي الولايات المتحدة، المتصارعين لأسباب تاريخية.
وكان بالإمكان القول، بأن تلك القوات الموجودة على أراضي البلدين هي وحدها القادرة
على مواجهة الصين وكوريا الشمالية؛ إذ كانت الولايات المتحدة تقدم نفسها كضامن
لحماية كوريا الجنوبية واليابان من كوريا الشمالية والصين. بل كانت تُبرِّر بقاءها
في قواعد على أراضي اليابان وكوريا الجنوبية بحماية الدولتين.
لكنَّ الأمور تغيرت في السنوات الأخيرة؛ إذ بدأت الولايات المتحدة خطة جديدة تقوم
على تغيير نمط تلك المعادلات. لقد بدأت الولايات المتحدة سياسة فتح الأبواب
السياسية المغلقة بين حلفائها في هذا الإقليم، وسعت بشكل خاصّ لإزالة الألغام
التاريخية من طريق التقاء كل من اليابان وكوريا الجنوبية، كما فتحت الأبواب أمام
إعادة بناء الجيشين الياباني والكوري الجنوبي ليلعبا دورهما في حماية بلادهم، بل هي
طالبت الدولتين، وضغطت على قياداتهما لفعل ذلك.
وجاء اللقاء الثلاثي كمُحصِّلة لتلك الجهود والضغوط الأمريكية، وهو ما شكَّل قفزة
على صعيد إزالة العقبات من أمام إقامة تحالف عسكري بين البلدين. وفي توضيح ما حدث،
فقد جرى إقرار صيغة تحالف عسكري بين بلدين حليفين للولايات المتحدة، كان بينهما
تاريخ طويل من العداء المتبادل النابع من الاحتلال الياباني لكوريا بين 1910
و1945م.
وقمة مريلاند هي أول قمة قائمة بذاتها للبلدان الثلاث. وقد جاءت بفضل التقارب الذي
أطلقه الرئيس الكوري الجنوبي الذي تحدث عن التعاون المتزايد مع اليابان بشأن عدد من
المسائل، بدءًا من كوريا الشمالية، ووصولاً إلى أشباه الموصلات، كما دعا إلى
«إنهاء
العداء المتبادل».
وبفعل التصورات المشتركة للتهديدات التي تُشكِّلها الصين وكوريا الشمالية، وكذلك
روسيا بعد غزوها لأوكرانيا؛ كان هذا التقارب الذي حال دون تحقيقه مطالبات كوريا
الجنوبية لليابان بالتعويض عن جرائم الاستعباد الجنسي، والمذابح التي ارتكبها الجيش
الياباني ضد الكوريين.
وقد أدركت الصين هذا المغزى، فقال المتحدث باسم السفارة الصينية في واشنطن: إن
«محاولات
حَشْد المجموعات المتنافرة المختلفة، وخلق مواجهة بين التكتلات والكتل العسكرية في
منطقة آسيا والمحيط الهادئ لن تحظى بدعم، وستُقابَل باليقظة والمعارضة من دول
المنطقة».
وهكذا فالأهم فيما جرى هو أن الولايات المتحدة التي كانت متحالفة مع اليابان وكوريا
الجنوبية، كلاً على حدة، ثم خطت خطوة كبرى بإزالة المظاهر الرسمية لتلك العداوات
التاريخية بين طوكيو وسيول؛ إذ كانت تلك العداوات قد أحبطت جهود واشنطن -طوال
السنوات الأخيرة- لتشكيل تحالف ثلاثي متماسك.
وهو أمر مهمّ في تأثيراته إلى درجة أن الصين كانت تراهن على استمراره طوال السنوات
الماضية.
لقد مثَّلت الولايات المتحدة الجسر الأساسي الواصل بين اليابان وكوريا طوال السنوات
الماضية، لكنها لم تنجح في التغلب على الثأرات التاريخية بينهما، فظلت العلاقات بين
كوريا واليابان تمر عبر الولايات المتحدة.
وبذلك فلقاء واشنطن، وما صدر عنه، يُمثِّل نقلة مهمة؛ إذ انتقلت الولايات المتحدة
من دور الوسيط في علاقات البلدين إلى دور القائد لحليفين بدرجة أو بأخرى.
وبمعنى آخر، ففي حقائق الأمور المُرَّة؛ أن الاحتلال الأمريكي لكلا البلدين كان
العنصر الأساس الجامع بينهما، أو كان الاحتلال الأمريكي ووجود قوات أمريكية على
أراضي البلدين هو العنصر المشترك بين البلدين المتناحرين والمتصارعين عبر التاريخ،
إلى درجة قد حالت دون التقائهما في تحالف من قبل.
كان الوجود الأمريكي هو العنصر العسكري المشترك، بين اليابان وكوريا الجنوبية
المنغمستين في مرارات الصراع التاريخي.
ويمكن القول بأن الولايات المتحدة قد جمعت بين الدولتين الخاضعتين لهيمنتها
واحتلالها وفق قاعدة تخويف كليهما من عدو مشترك. استخدمت الولايات سلاح قوة الصين
لتخويف اليابان، واستخدمت كوريا الشمالية لتخويف كوريا الجنوبية. وعلى اعتبار أن
الصين مَن تساند كوريا الشمالية؛ فقد أصبح التخويف هو ما يجمع كوريا الجنوبية
واليابان في مواجهة التحالف الصيني الكوري الشمالي.
استراتيجية احتواء الأعداء والحلفاء
تكشف تصريحات الرئيس الأمريكي في المؤتمر الصحفي المشترك مع رئيس وزراء اليابان
ورئيس كوريا الجنوبية، عن دفع أمريكي لعسكرة العلاقة بين اليابان وكوريا الجنوبية،
وعن بناء تحالف عسكري بين جيشي البلدين لمواجهة الصين وكوريا الشمالية. بل ظهر
جليًّا دَفْع الولايات المتحدة لإشعال الحرب بين الطرفين الآسيويين.
ويمكن القول أيضًا: بأن الإشارات الأمريكية كانت واضحة، في اعتماد ذات التوجُّه
الذي اتخذته الإدارة الأمريكية في التعامل مع أزمة أوكرانيا-روسيا، منذ اندلاعها
وحتى تحوُّلها إلى حرب مستديمة.
وفي ذلك يمكن تفسير اللقاء بأنه خطوة جديدة ضمن خطة الولايات المتحدة لحَشْد مزيد
من القوة في مواجهة الصين، وأنه الخطوة الأهم في خطة بناء تحالفات عسكرية في محيط
الصين؛ لمواجهة تنامي قوتها وصعودها وتحوّلها إلى قطب دولي مُنافِس، وأن المستقبل
القادم سيشهد دَفْعًا مباشرًا نحو الحرب في هذا الإقليم، سواء بدأت بين كوريا
الجنوبية والشمالية أو بين الصين وتايوان أو بين الصين والفلبين أو غيرها.
لكن الأشد أهمية أن هذا الحدث كاشف للاستراتيجية الكلية التي تعتمدها الولايات
المتحدة في مواجهة ظاهرة تعدُّد الأقطاب في العالم.
الآن يمكن القول بأن الولايات المتحدة تعتمد استراتيجية ذكية تقوم على إضعاف خصومها
وحلفائها معًا -وهم أقوياء فعليًّا-؛ عبر إدخال الطرفين في صراعات مُنهِكَة، دون أن
تتدخَّل هي بشكل مباشر.
ستكتفي الولايات المتحدة بالجلوس في مقعد إدارة الصراعات والحروب دون الدخول
المباشر في الحرب.
وبمعنى أكثر توضيحًا؛ ستسلك الولايات المتحدة نفس المسلك الذي اعتمدته في حرب
أوكرانيا.
ستُعَقِّد الأزمات، وتدفع نحو الحرب بين حلفائها والصين وكوريا الشمالية، لكنّها لن
تتدخل مباشرةً، وستكتفي بإرسال الأسلحة لحلفائها، وتوفير كل أشكال الدعم لهم.
وستتلخص مساهمتها المباشرة في منع الصين وكوريا الشمالية من استخدام السلاح النووي
-وهذا ما تُقنع به حلفاءها- والتي استخدمته هي الأخرى للدفاع عن هؤلاء الحلفاء.
لقد شجَّعت الولايات المتحدة اليابان وكوريا الجنوبية على بناء تحالف عسكري، وستلعب
بعد ذلك ألاعيبها لتوريط الجميع في الحرب، لكنها ستكتفي بإدارة الحرب بين الطرفين؛
ليخرج الجميع مُنْهكًا -تمامًا كما فعلت بروسيا وأوروبا-، ولكي تعود هي مجددًا
لاحتلال قمة العالم بلا مُنافِس.