وأمر آخر يدعو إلى التأمل؛ فإنَّ التعرف على المعايير اللازمة في الرجل تكون خارج بيته، في سعيه للرزق، وعلاقاته بالناس، وعباداته، وليس في بيته فقط، وتأمل وَصْف المحافظين على الصلاة في المسجد بالرجولة
في المقالة السابقة تحدّثنا عن الإيمان باعتباره المعيار الأول في التزويج والقبول
والاختيار، ثم يأتي بعده بعض التفصيلات. وفي هذه المقالة سنتحدّث عن هذه التفصيلات
فيما يتعلق بالخاطب، وسنجيب عن سؤال مهم:
ما هي أهم الصفات في الرجل، التي ينبغي النظر إليها إذا تقدّم لخِطْبة امرأة، أو
إذا أراد والداه حثّه على الزواج ومساعدتهما له؟
في حديث أبي حاتم المزني قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
:
«إذا
جاءكم مَن ترضون دِينه وخُلُقه فأَنْكِحوه، إلَّا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد»،
قالوا: يا رسول الله، وإنْ كان فيه؟ قال:
«إذا
جاءكم مَن ترضون دِينه وخُلقه فأَنْكِحوه»،
ثلاث مرات[1].
قال شرف الدين الطيبي:
«والفساد
خروج الشيء عن حالة استقامته وكونه مُنتفَعًا به، ونقيضه الصلاح وهو الحصول على
الحالة النافعة. والفساد في الأرض هيّج الحروب والفتن؛ لأنَّ في ذلك فساد ما في
الأرض وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس والزروع والمنافع الدينية والدنيوية، قال
الله -تعالى-: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا
وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾
[البقرة:205]»[2].
فتأمل ما يمكن أنْ تُحْدِثه قرارات الرفض غير المشروعة من فسادٍ وفتنةٍ؛ فإنه لا
يَقتصر شرّها على واحدٍ بعينه كالخاطب أو المخطوبة، بل يعمّ شرّها المجتمعات، وعلى
إثرها تنتشر الموبقات المُفسِدة والمُهلِكة؛ كالزنا والقتل والبغي بغير الحق.
القوي الأمين
والقرآن الكريم له طريقته البديعة في تناول الموضوعات والإجابة عن السؤالات، ومنها
هذا الموضوع؛ فقد قصَّ الله -تعالى- علينا في كتابه قصة تزويج موسى -عليه السلام-
بإحدى المرأتين من بنات الشيخ الصالح الكبير. قال الله -تعالى-: {وَلَـمَّا
وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ
مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي
حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ
23
فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إنِّي لِـمَا
أَنزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ
24
فَجَاءَتْهُ إحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إنَّ أَبِي يَدْعُوكَ
لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ
الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِـمِينَ
25
قَالَتْ إحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ
الْقَوِيُّ الأَمِينُ
26
قَالَ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن
تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا
أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِـحِينَ
27
قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ
عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ
28
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بَأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ
نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا
بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّـكُمْ تَصْطَلُونَ} [القصص:
23
-
29].
وفي هذه القصة ظهرت المعايير بطريقة تدعو إلى التأمل!
فإنَّ إحدى المرأتين قالت: يا أبت استأجره. فطلبت من أبيها أنْ يستأجره للعمل عنده؛
ليقوم بالأعمال التي لا يصلح للقيام بها إلا الرجال، واستدلّت على صلاحيته للعمل
بقوته وأمانته، وأنَّ القوة والأمانة أهم صفات مَن يُطلَب للعمل أجيرًا، كما قال
السعدي:
«وهذان
الوَصفان ينبغي اعتبارهما في كل مَن يتولى للإنسان عملاً؛ بإجارةٍ أو غيرها، فإنَّ
الخلل لا يكون إلا بفَقْدهما أو فَقْد إحداهما. وأما باجتماعهما فإنَّ العمل يتم
ويكمل»[3].
وعند ذلك رغب أبوها الشيخ في تزويج موسى.
فماذا رأوا في موسى من صفات ليقبلوه زوجًا؟
أولاً: شهامته ومروءته؛
فإنه أول وصوله إلى ماء مدين هاله وجود نساء ينتظرن فراغ البئر من السقاة، ولا أحد
يساعدهم ويُغنيهم عن مزاحمة الرجال؛ فثارت حَفيظته، فكفاهما العمل حينها، وسقى
لهما. ثم إنه لم يطلب أجرًا على ذلك، فأهل المروءة يُوجبون على أنفسهم تكاليف
الشهامة، ولا يطلبون لها مقابلاً ماديًّا.
ثانيًا: صحته الجسدية؛
وذلك حين أزاح الصخرة بمفرده؛ وهو للتوِّ جاء من سفر بعيد ومشقة وخوف وعناء وجوع.
وقد أوضحت المرأة ذلك حين سألها أبوها عن حقيقة عِلمها بقوته، فقالت:
«أما
قوّته فما رأيت منه حين سقى لنا؛ لم أر رجلاً قط أقوى في ذلك السقي منه».
قال مجاهد:
«رَفع
حجرًا لا يرفعه إلا فئام من الناس»[4].
والصحة معنى بسيط يدلّ على انتفاء الأمراض الفاتكة، والقدرة الجسدية على القيام
بالمهام والأعمال العادية، ولا تعني جمال الخِلْقة، ولا بناء العضلات.
ثالثًا: مسؤوليته العملية؛
وقد ظهرت في حُسن عمله وسرعته، مما يدل على معرفته وذكائه وإنجازه للمهام كما
ينبغي، قال قتادة:
«القوي
في الصنعة».
وقال:
«بلغنا
أنَّ قوّته كانت سرعة ما أروى غنمهما، وبلغنا أنه ملأ الحوض بدلو واحد»[5].
لذلك استطاع أنْ يسقي للمرأتين بأحسن سَقْي وأكمله، ولم يكتفِ بأقل الواجب فيه. فهو
رجل لديه إحساس بالمسؤولية والالتزام بما يستعد لعمله، ويستطيع أنْ يتحمل أعباء ما
يُوكَل إليه من مهام وأعمال؛ لأنه يأخذ الأمور بجدية، ولأنه مُثابر لا يستسلم للكسل
والبطالة.
رابعًا: أمانته؛
قال ابن عباس:
«أمين
على ما وُلِّيَ، أمين على ما استُودِعَ»[6].
وقد ظهرت أمانته في إتقانه للعمل، كما ظهرت في طريقة حديثه مع المرأتين، ومشيه مع
إحداهما إلى البيت، قالت الواصفة منهما لأبيها:
«وأما
أمانته فإنه نظر حين أقبلتُ إليه وشخَصتُ له، فلما علم أني امرأة صوَّبَ رأسه فلم
يرفعه، ولم ينظر إليَّ حتى بلَّغته رسالتك، ثم قال: امشي خلفي وانعتي لي الطريق،
ولم يفعل ذلك إلا وهو أمين»[7].
فهو رجل لا يتطلع إلى الحرمات من الأموال والأعراض، ثم إنه لم يستغلَّ إحسانه
إليهما في التقرب إليهما وإرادة السوء وإشباع الرغبات، بل انصرف حين انتهى من
العمل، قال -تعالى-: ﴿فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ﴾.
فهذه صفات مَن يصلح للعمل أجيرًا، مجموعة في قول المرأة:
«القوي
الأمين».
مبررات قبول الولي
والشيخ الكبير عرف موسى من خلال استماعه إلى قصتين:
إحداهما هذه التي حدثت في مدين، وعرف فيها أخلاق موسى -عليه السلام-، وإحساسه
بالمسؤولية، وجديته، وقدرته على تحمُّل أعباء العمل، ونجدته وشهامته ومروءته، وورعه
وعفته وأمانته على الأموال والأعراض.
والأخرى التي حكاها موسى عن نفسه في مصر، وما فيها من أسباب فراره من مصر، وعرف
الشيخ فيها ديانة موسى ونجدته وعزته وشهامته وشرفه.
والذي يدعو إلى التأمل هنا أنَّ أباهما حين سمع ما حكته المرأة من قوة موسى وأمانته
استدلالاً على صلاحيته للعمل بالإجارة؛ استثمر الأب ذلك في تزويج موسى بإحدى
البنتين؛ لأنَّ مَن يتحلى بهذه الصفات هو الذي يُؤتَمن على المرأة إذا تزوّجها.
فلا ينبغي للمرأة ولا لأبيها أنْ يردُّوا الرجل الذي لديه:
- قَدْر لازم من العفّة والأمانة.
- وقَدْر لازم من الديانة والورع.
- وقَدْر لازم من الشهامة والمروءة.
- وقَدْر لازم من الإحساس بالمسؤولية والجدية وتحمُّل أعباء العمل.
- وقَدْر لازم من الرحمة والإحسان.
- وقَدْر لازم من القوة الجسدية والنفسية.
وهذه المعايير هي التي ينبغي فَحْصها في الخاطب، والبحث عن تحقُّقها فيه، ولا
يُشترط فيها الكمال، فإنَّ الكمال عزيز، ولكن في كلٍّ منها قَدْر مطلوب، وقد تختلف
درجته من زيجة إلى أخرى، بحسب ما يُحيط بها من معطيات، كحال المخطوبة واختلاف
البيئات، ونحو ذلك.
وأمر آخر يدعو إلى التأمل؛ فإنَّ التعرف على المعايير اللازمة في الرجل تكون خارج
بيته، في سعيه للرزق، وعلاقاته بالناس، وعباداته، وليس في بيته فقط، وتأمل وَصْف
المحافظين على الصلاة في المسجد بالرجولة في قوله -تعالى-: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ
اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا
بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ
36
رِجَالٌ} [النور:
36،
37].
والخاطب الذي يضيّع دينه، فلا يصلي أو لا يصوم مثلاً؛ لا يصلح أنْ يكون زوجًا.
والذي يَمتهن الكذب والتزوير والغشّ والخداع والخيانة والغدر؛ لا يصلح أنْ يكون
زوجًا.
والذي لا يحفظ الحُرُم ولا يَغار على النساء؛ لا يصلح أنْ يكون زوجًا.
والبطَّال الذي لا يحب العمل، ولا يسعى في الأرض؛ لا يصلح أنْ يكون زوجًا.
والذي يُهمل الفُرَص ويُبدِّد المال في غير وجه صحيح، ولا يأنف أنْ يكون كَلًّا على
غيره؛ لا يصلح أنْ يكون زوجًا.
والذي خلا قلبه من الرحمة والإحسان؛ لا يصلح أنْ يكون زوجًا.
وهذه المرأة المنتقلة من بيت أوليائها بعقد النكاح إلى بيت زوجها؛ لا يستقيم أمرها
ما لم يكن زوجها مؤمنًا قويًّا أمينًا، يحفظ الزوجة ويصونها، وتستند إليه في
حياتها، ويُكوِّنان معًا بيتًا مسلمًا صالحًا.
وقد كان موسى -عليه السلام- مثالاً على ذلك؛ فإنه لما تزوج وفَّى بالمهر المطلوب
منه، وهو العمل أجيرًا لمدة ثماني سنوات، ثم أتمها موسى -عليه السلام- عشر سنوات؛
وفاءً وإحسانًا، وأغنى المرأتين عن الخروج من بيتهما للعمل؛ حيث تكفَّل بهذه
الأعمال من الرعي والسقي، ونحوهما؛ فأعفّهما عن الخروج إلى مجامع الرجال، وكفاهما
عن السعي في طلب الرزق، حتى إنه لما خرج بأهله من مدين مسافرًا ووجد نارًا في
الطريق؛ حفظ زوجه عن الإتيان بشيء منها، وذهب بنفسه وأمر زوجه بالمكوث في مكانها،
قال تعالى: ﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ
جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا
لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ
تَصْطَلُونَ﴾ [القصص:29]؛ إنه استشعارُ المسؤولية والتصدّي للواجبات الزوجية.
معايير مُهمَلة
ولعلك تنبَّهت إلى أنَّ الشيخ الكبير أسقط ثلاثة معايير يهتم بها كثيرٌ ممن بَهرهم
شعاع المادية وتغوَّل في قلوبهم حب الدنيا:
المعيار الأول: وفرة المال.
فلم يعبأ الشيخ بفقر موسى وخلو جيبه من المال، وهذا من حصافة عقله، فإنَّ المال
يعوَّض، وهو رِزْق من الله يؤتيه مَن يشاء ويمنعه مَن يشاء، فنظر بدلاً عنه إلى
عناية موسى بالعمل وتحمُّله له واستعداده النفسي له، والدليل على صحة نظره أنَّ
موسى لم يُمانع من العمل أجيرًا عند الشيخ لمدة ثماني سنوات، بل قضاها عشرة كاملة
وأوفاها. فالعبرة بالجدية والمسؤولية وحُسن التدبير، وليست بما يملك من المال.
المعيار الثاني: المنصب.
فالعمل ليس مقصورًا على الوظيفة ولا المنصب، العمل هو الجهد والعناء والكدّ والسعي،
سواءٌ كان وظيفة في قطاع حكومي عام، أو وظيفة في قطاع أهلي خاص، أو صَنعة يَمتهنها
الرجل فيتكسب بها، أو إجارة كما فعل موسى -عليه السلام-. والمهم في كل ذلك وغيره
جدية الرجل في سَعيه لطلب الرزق، ومشيه في مناكب الأرض، وصبره على مرارة العمل.
المعيار الثالث: كفاءة النسب.
فلم يعبأ الشيخ بكفاءة النسب حين تحقّق مِن تجذُّر الديانة والخُلق الرفيع في موسى،
وحين ذكر القرطبي اختلاف العلماء في اشتراط كفاءة النسب؛ قال:
«والصحيح
جواز نكاح الموالي للعربيات القرشيات؛ لقوله -تعالى-: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ
عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات:13]. وقد جاء موسى إلى صالح مدين غريبًا
طريدًا خائفًا وحيدًا جائعًا عريانًا؛ فأنكحه ابنته؛ لما تحقّق من دينه، ورأى من
حاله، وأعرض عما سوى ذلك»[8].
وبهذا العرض القرآني للصفات المطلوبة في الخاطب والمعايير التي لا يُنصح بها؛
نستطيع أنْ نَزِنَ الخُطَّاب ونُقيِّمهم إذا أرادوا التزويج، فهنيئًا لمن كان
القرآن دليله.
والله الهادي إلى سواء السبيل.
[1] أخرجه الترمذي ح1085 وحسنه، وحسنه الألباني في إرواء الغليل ح1868.
[2] الكاشف عن حقائق السنن: 7/2263.
[3] تيسير الكريم الرحمن: 3/1278.
[4] الأثران في جامع البيان: 18/225.
[5] جامع البيان: 18/228.
[6] جامع البيان: 18/225.
[7] جامع البيان: 18/221.
[8] الجامع لأحكام القرآن: 13/184.